أهداب

نشر في 29-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 29-08-2008 | 00:00
No Image Caption
تأليف: ياسين رفاعيّة

الناشر: دار الساقي

يمدّ ياسين رفاعيَّة بساط روايته أنيقاً، واسعاً، مشغولاً بعناية الكاتب الخبير الذي طالما امتحن السَّرد وخاض غمار الزمان والمكان، وبنى شخصيّات تبوح ببعدها الإنساني وألمها الوجودي ومأزقها مع الدنيا. تسعف رفاعيّة لغة موشومة بألق الشَّعريَّة، فهو صاحب الجملة الرشيقة التي تأتي النصّ من قلب يتوق الى الجمال لا من صناديق الثرثرة الروائيَّة.

{أهداب} رواية بطلُها متوَّج بحزن الطفولة، هو الشخصيَّة الأشهى وكلّ الشخصيّات فراشات لا بدّ منها لتدور حول مصباحه مختلقة أدواراً واتجاهات غير أنّها تتعاون لخدمة البطل في كشفه عن ذاته ووعيه مصيره الذي اختاره له أبو النصّ الشرعيّ رفاعيّة.

شكّل الإهداء على قلّة مفرداته الاختصار الدقيق للرواية:{كانت هي اللوحة وكانت الرواية}. يُفتح ستار المشهد الأوّل على الراوي الرسّام محاطاً بلوحاته في معرضه الخامس والعشرين، وهو ابن السبعين، أسير اللوحة التي تستوطنها فتاة أنجبت رواية العمر، وعبثاً حاول الزائر الخليجي شراءها على رغم أنّه دفع ثمنها ثروة خياليَّة، لكنّها لم تكن تكفي لتشتري حياة رسّام سبعينيّ يستغني عن كلّ بنات ريشته، ولا يفرّط بتحفته التي سيقف مخاصراً إيّاها على شرفة الخلود.

أهداب أميرة اللوحة، الأميرة سبق أن زارت معرضاً للراوي قبل سنتين، وقالت لرسّامها إنّ عمرها ست عشرة سنة، بينما أبوها فؤاد حذَفَ سنَتيْن. اكتشف الراوي عصام بعد القهوة التي أعدّتها أهدابه في المعرض أنّ المسافة بين منزل فؤاد ومنزله ليست سوى المسافة من أوَّل الشارع الى آخره. كانت زيارة من الرسّام السبعيني، بعد إلحاح من الفتاة وأبيها، الى بيت فؤاد حيث وداد الثريَّة جدًّا، أمّ أهداب، والتي تكاد تختصر بشاعة الدنيا وقبحها بوجهها وأدائها المقرف والثقيل الظلّ.

في خطوة غير منتظرة، يغيّر الراوي اتجاه السَّرد فيسترجع زمناً مفقوداً عليه بُني الزمن الحاضر والمستقبليّ ويستردّ{هدباء} رفيقة المدرسة التي يرافقها كل صباح والطفولة بينهما تنسج وتنجب عواطف مبكرة جدّاً لا تندرج تحت اسم معيّن، إلاّ أنّها تنتمي الى التعلّق العفوي البريء الموحي بأيام سوف تأتي شاهدة الحب الكبير. في الحادية عشرة من عمرها، تترك {هدباء} الدنيا. يطرق عصام الطفل باب بيتها على جاري عادته، صباحاً، فيواجَه بالقول: إنّها ماتت. إذا كان الحبّ كائناً غريباً لا تعرفه الطفولة فإنّ الموت كائن أكثر غرابة لم يجد الطفل الراوي مبرِّرا له وفهماً.

حضر وداعها الدينيّ محمولة على ذراعي والدها وأمسك بطرف ثوبها، وبعدما عاد الجميع بقي الإنسان الأقلّ عمراً والأكثر وجعاً وحزناً يتأمّل بعين قاصرة التراب المواري طفلته الاستثنائية وغرس غصن شجرة طلب من حارس المدافن أن يسقيه كلّما تيسّر له الماء، وعلى مرّ الأيّام تعملق الغصن شجرة وارفة تختصر بقامتها طفولة عاشقة موشومة بالرحيل المبكر. من هناك، افترس الحزن{عصام} طفلاً. منذ رحيل هدبائه، أدمى عقله ووجدانه بمواجهة الأسئلة الصعبة.

مشروع حب

{أهداب} ضالَّة الراوي اللغويَّة أيضاً، التي وجَدَها وهي{هدباء} مع الاختلاف في ترتيب الأحرف، كأنّه يمدّ يده الى اللغة لتنجب له استمراريَّة الحلم بعد الفجيعة، واللغة لبَّت خاطره كثيراً. عبَرَ الرسَّام عمرَه، وطعَنَ في التجارب النسائية، لكنّ نساء الأرض لم يستطعن إسقاط هدباء من رحم روحه ميتة. كلّهن نساء، وكلّهن مشروع محتمل للحبّ، إنّما هدباء تجتاز الأنثى والأنوثة لأنّها علامة مبكرة لسماء على وشك الولادة.

يعود الراوي من سرداب ماضيه المفجع ويرعى سرده مجدَّدا صوب المستقبل. أهداب استئناف لرحلة تعطّلت من ستين سنة. ألحّت وأباها على الراوي الرسّام ليجعلها أسيرة لوحة من لوحاته وكان لها ما شاءت في مرسم عصام على السطح. تدريجياً، بدأت شخصيّات الراوية تعلن حقيقتها. فؤاد الوالد المظلوم في زواجه هرب من وداد عاطفياً ولاذ بابنتها الوحيدة وهي وحيدته أيضاً. الأمر بينهما انحرف عن الأبوّة وضاع بين الانتقام العاطفي والتعويض. عصام أيضاً لم يصمد أمام بركان السادسة عشرة، فأوصلته الأيّام المفاجئة، والمتأخرّة جدًّا، الى التورّط في حبّ فتاة لا يبرّره سوى منطق خاصّ هو ملْك صاحبه فحسب. حاول الرسّام السبعيني القفز عن شرفة قدره المفاجئ للتفلّت من شبكة حبّ قاتل بكلّ ما فيه من نسغ وصخب ومفاجأة، لكنّه لم يفلح، وصار شريك فؤاد في المأزق الغريب. تقول هدباء لعصام:{أمّا أنت وأنا فقد كنّا نسرق هذه الأويقات سرقة، كنّا لصوصاً، بينما كان فؤاد هو صاحب البضاعة}. إنّه تجسيد دقيق وواضح لمدى التأزّم. فتاة بين رجلين عجوزين أوّلهما أبوها والثاني رسّام أخذتها المغامرة نحو ريشته المبدعة. أمّها تاجرة ليس للحنان نسمة في صدرها وربّما تنتقم لبشاعتها من جمال إنسانة، ذنبها الوحيد أنّها ابنتها. تتّجه أشرعة السّرد نحو المزيد من الموج العالي فتطلب هدباء من عصام رسمها عارية بموافقة من أبيها الذي لا يعاكس رغبة من رغباتها. هنا بدأ الصراع الكبير بين عصام وذاته، وتصبّب عرقاً أيّاماً وأيّاماً قبل رسمها، وصار في وسعه أن يخرجها من عينيه ويرسمها. تجلّيات الجسد والرغبة والجنس وصلت الى ذروتها في مرسم الرسّام السبعيني. لا ضوء أحمر، ولا مانع يعطّل جوًّا ينتمي الى الحقيقة ويخال من الخرافة. الى جانب شهوة الجسد وجحيميَّته، حضرت في الرسّام السبعيني الرغبة في الخلود، فلماذا لا يرسم تحفته ويحقّق في سبعينه ما حقّقه عظماء الفنّ في العالم؟ وها هو يقول:{أنا أيضاً أريد أن أكون فنّاناً كبيراً؟}. وتظهر المعادلة واضحة: لا إنجاز كبيرا بلا وجع كبير، والإبداع ابن ألمه. سرد رفاعيَّة لا ينسى بين الحين والآخر أن يستعين بالكلمة الشاعرة والفكرة الشاعرة: {جسدكِ المشتعِلُ بكلّ حرائق العالم، لو وُزِّع على القصور والأكواخ ومضارب البدو في تلك الصحراء لامتلأ كلّ ما فيها دفئًا}. وإذا كان الراوي مقتنعاً بتوقه الى الخلود فهدباء أيضاً تقول: {لا أظنّ أنَّ حبّي لك سوى اللوحة التي أريد أن أراها وأبقى فيها الى الأبد}. أمام لوحة هدباء وقف عصام وقفة ميكال أنج أمام تمثاله، تمثال موسى، غير مصدّق ما أتته يداه... البوح في رواية {أهداب} يصادر مساحة نصّيّة كبيرة جدّاً، لتنسحب له الأحداث وينكفئ التشويق ويصير القارئ أسير كلمات لا يتعب رفاعيّة من حمل مشاعره على ظهورها.

هدباء تنجح في البكالوريا، وتقود سيّارتها الفخمة بعدما علمها فؤاد وعصام القيادة. فجأة تتبخّر فاتنة اللوحة، تختار لها وداد رفيق مشوارها الطويل. تختاره ثريّاً لتتناسل الأموال في المصارف وتكبر الثروات.

عصام وفؤاد نُكبا نكبة العمر. تصل الرواية الى خاتمتها التي كان من الممكن أن تكون محتوية الصدمة الأكبر.

يدفع الخليجي ثلاثة ملايين دولار ثمن لوحة أهداب، غير أنّ الرسّام السبعيني لا تقلّ فتاة لوحته عن فتاته الحقيقيّة شأناً. وصل عصام الى الخلود، وكذلك أهداب، أمّا الى الحبّ الذي لا ينتهي فلم يصل أحد.

رواية{أهداب} تختصرها لوحة، واللوحة تختصرها رواية وهكذا يلتقي الإهداء في مستهلّ النصّ مع الكلمة الأخيرة فيه.

back to top