الانهيار... حين فقدتُ صوابي!
في الخامسة والعشرين من عمرها جسدت إيما مانسفيلد نموذج الفتاة الذي تحلم به كل امرأة ناجحة. كانت تقيم في بريستول وتحب عملها كمنتجة برامج عن الطبيعة، ما سمح لها بالسفر إلى أنحاء العالم كافة. وقد التقت بصديق رائع وأغرمت به. يمكنكم القول إنها كانت ترى الحياة بمنظار وردي، وآخر ما توقعته الانغماس في الكآبة والتعرّض لانهيار عصبي.
أصيبت مانسفيلد بانهيار عصبي وفترات من الاكتئاب السريري والذُهان وأمضت مدة في المستشفى: {لم أكن أعرف ماذا يحصل لي. كنت أشعر وكأنني أغرق في دوامة}.يُفسّر د. فيليب هودسون (من الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي) بأن مصطلح {انهيار عصبي} ليس مصطلحاً طبياً أو علمياً، بل اختصار لشخص لم يعد قادراً على المضي قدماً في حياته الطبيعية: {يصف هذا المصطلح شخصاً بلغ الذروة وما عاد قادراً على الاحتمال، انتقل من الاحباط إلى مرحلة من الضغط النفسي المفرط. ويشبه الاختلاف بين هاتين المرحلتين الفارق بين: {أنا متضايق، لكنني أتدبّر أمري} و{أنا تعيس جداً ومثقل بالهموم وأعجز عن أداء عملي}. قد يظهر هذا العجز بتصرفات غريبة. فيندفع المرء أمام حافلة منطلقة بسرعة، ويثور غضباً في وجه الآخرين، وتراوده أفكار انتحارية، أو يتعرض لحالات مرضية كالغيبوبة والتشنّج والثرثرة بكلام غير مفهوم}.وحدة قاتلةاستمر انهيار مانسفيلد (33 عاماً) بضعة أيام، تقول في هذا المجال: {نظرت من حولي وفكرت في أنني أعيش في مدينة أجهلها. لا أعرف الكثير من سكانها. ما عدت أتنزه أو أركب الدراجة. لا زملاء لي يرافقونني لشرب الشاي في مقهى. راودني كابوس بأنني أختنق وقررت معالجة هذا الوضع}.لاحقاً شُخصت إصابتها بحالة من الاكتئاب السريري وراودتها أفكار انتحارية لمدة أسبوع. بعد الخضوع للعلاج وتناول مضادات الاكتئاب طوال سنة، أدركت مانسفيلد أن قصتها تتلاءم مع النمط الشهير: {الكثير من المسؤولية والعمل في سن صغيرة وفي وقت قصير}. تعترف مانسفيلد: {كنت امرأة طموحة جداً في سن مبكرة. وأظن أنني وقعت أسيرة ذلك. أنهيت دراستي وفكرت في أن الحياة ستكون أسهل الآن، لكنها لم تكن كذلك إذ أصبحت أكثر صعوبة وتعقيدا}.يشعر عدد ممن يعانون انهياراً عصبياً بالخجل من الاعتراف بأنهم يواجهون صعوبات. يشعرهم المرض العقلي بالعار والاعتراف بذلك أشبه بأن يدمغ المرء سمعته بوصمة سوداء لا يمكن محوها. عندما تعترف شخصيات مشهورة بأنها تواجه بعض المشاكل، تسلّط الأضواء على هذه المسألة. تحدّث ستيفن فراي بصراحة عن إصابته بانهيار عصبي، مؤلم عندما انسحب عام 1995 من مسرحية كان يشارك فيها واختفى لأسابيع. وفي الفيلم الوثائقي Stephen Fry: The Secret Life of the Manic Depressive، أجرى مقابلات مع أشخاص أصيبوا بانهيار عصبي من بينهم كاري فيشر وريتشارد برايفز وروبي ويليامز وجو براند.أخيراً، وضمن البرنامج الذي عرضته قناة BBC باسم Cracking Up، عاد اليستير كامبل بالذاكرة إلى الانهيار العصبي الذي أصابه عام 1986. ومن بين الأشخاص الذين شاركوا في المقابلة روبي واكس، واحد من القلائل الذين يتمتعون بالشجاعة الكافية للتحدث عن الاكتئاب والقلق.كانت مانسفيلد تسبح في بحر من السعادة عندما تعرضت للانهيار وهي تعتقد الآن أن التنعّم بعلاقة حب جميلة سمح لها بمواجهة مسائل لم تتطرق إليها سابقاً والتي طرحت نفسها بشكل حالة من الاكتئاب. تنتمي مانسفيلد إلى عائلة دعمتها كثيراً، لذا لم تعاني من أي استغلال جسدي أو عاطفي أو جنسي يؤدي إلى إصابتها بمرض عقلي: {طالما عرفت أن ثمة أموراً لم أعالجها. كنت منفتحة وحساسة في آن}.تتابع مانسفيلد: {كان مروري بانهيار عصبي مريعاً، خصوصاً أنني كنت أجهل السبب. كان انهياري جسدياً وعاطفياً ونفسياً، وكأن عقلي غارق في دوامة من الارتباك فيما يحاول جسمي، خصوصاً جهازي العصبي، مواجهة الاضطرابات التي أمرّ بها. شعرت بقلق وخوف كبيرين. عجزت عن تناول الطعام والتفكير. كنت مرتبكة وضائعة وفقدت الكثير من وزني}.واجهت مانسفيلد الانهيار بسرعة، فاستبدلت عملها ونمط حياتها السريع بمنزل في الريف ووظيفة جديدة. لكنها قصدت أولاً منزل عائلتها في ايسيكس، حيث أمضت ثمانية أشهر جعلتها أكثر عزماً على المضي قدماً في حياتها: {عرفت أن عليّ التحكّم مجدداً بحالتي النفسية والتركيز على خطواتي التالية}.قصدت مانسفيلد كورنوول، لأنها تعرف هذه المنطقة من خلال العطل التي أمضتها هناك مع عائلتها: {البحر والهواء النظيف هما كل ما احتجت إليه}. ناسبها الذهاب إلى كورنوول كثيراً وجعلها تدرك أنها عاشت في بريستول معزولة ومثقلة بالهموم فافتقدت حس الحياة ضمن مجموعة وحس الانتماء والعيش في بلدة صغيرة. كثرة العملفي كورنوول عثرت مانسفيلد على وظيفة، مديرة الفنون في مشروع عدن، وانكبت على ممارسة عملها. فاكتشفت أنها أكثر ابداعاً بكثير مما اعتقدته أثناء عملها في البرنامج التلفزيوني. غير أن انغماسها الكبير في العمل سبّب لها انهياراً عصبياً ثانياً في ربيع عام 2006 كان أكثر حدّة من الأول. تعود مانسفيلد بالذاكرة إلى الوراء: {كان انهياراً عصبياً تاماً وحاداً. لم أكن أستطيع الأكل أو النوم على مدى أربعة أو خمسة أيام}. أدخلت مانسفيلد المستشفى لخمسة أيام وارتاحت، ما سمح لها باستعادة هدوء أعصابها: {من المريع أن يفقد المرء صوابه. تعتقد أنك تعرف من أنت وماذا تفعل ثم فجأة يغرق دماغك في دوامة. اختبرت جنون الارتياب والذُهان}.في هذا السياق، يوضح فيليب هودسون أن {الذهان يجسّد حالة لا يكون المرء فيها مسؤولاً عن تصرّفاته، وأعراضه الواضحة تشمل انفصام الشخصية والهوس واضطراب المزاج الثنائي القطب}.في شهر مايو (أيار)، أطلقت الشرطة النار على مارك سوندرز (32 عاماً)، محام في المحكمة العليا، وقتلته بعد أن أطلق النار على رجال الشرطة من منزله في شيلسي. وفي شهر يونيو (حزيران) الماضي، غرق ألبرتو إيزاغا (مدير تنفيذي لشركة تأمين) في حالة مشابهة من التشوّش النفسي حتى أنه ضرب ابنته (عامان) حتى الموت. من المحتمل أن الرجلين كانا يعانيان من حالات ذهان وتشوّش نفسي كجزء من انهيار عصبي.على الرغم من تجربة مانسفيلد مع الأمراض العقلية ومعرفتها بشأن الاستشارة والعلاج، كمريضة وطالبة، لم تتمكن من استباق انهيارها. وتعلق في هذا السياق: {ظننت أنني نلت كفايتي}. لم تفعل شيئاً سوى الانهيار على الأريكة. اضطراب المزاج الذي تعاني منه مانسفيلد هو الذي يجعلها عرضة للقيام بنشاطات جنونية. إنها حالة من الهوس يتبعها اكتئاب وانهيار مفاجئ: {أنا طموحة جداً ومندفعة لذا لا أدرك أحياناً حجم الطاقة التي استنفدها للقيام بأعمال معينة إلى أن أنهار لأسبوعين}.من بين هذه الالتزامات المرهقة الكتاب الجديد لمانسفيلد بعنوان The Little Book of the Mind، وهو عبارة عن موسوعة مؤثرة وغنية بمعلومات بشأن الأمراض العقلية ويتناول أيضاً الشعور بالخجل الذي يحيط الإصابة بأمراض عقلية. تعتبر مانسفيلد نفسها محظوظة لأنها تمكنت من مواجهة مرضها. انسحبت من مشروع عدن وهي تعمل مع أشخاص شبان وتعلمهم كيفية كتابة مقالات صحافية، وتبتكر ألحاناً موسيقية. يمكنها أن تفعل ما يحلو لها متى رغبت في ذلك. تقول مانسفيلد: {الأمر يعتمد على إيمان المرء بأنه قادر على تغيير حياته}.