خيار التسوية السياسية بين واشنطن وطهران 5-5
تتأرجح احتمالات المواجهة الأميركية- الإيرانية صعوداً وهبوطاً، وقلما يمر أسبوع من دون إشارات تصعيد أو تهدئة بين الطرفين، وتركز هذه السلسلة من المقالات على خيار التسوية السياسية بين واشنطن وطهران عبر محاولة الإجابة عن تساؤلات جوهرية تتعلق بمعضلة العلاقات الأميركية- الإيرانية.تلتقي المصالح الأميركية- الإيرانية في القضايا الجيوبوليتيكية الأهم، على الرغم من تصادمها في مسائل فرعية وفي القضايا الأقل أهمية، إذ لا تعرف العلاقات الدولية تطابقا في المصالح بين أي بلدين. وبالرغم من الالتقاء الموضوعي في المصالح بين واشنطن وطهران، فقد استمرت العلاقات مقطوعة بين الطرفين منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حيث لعبت عوامل كثيرة دوراً في منع حصول تفاهم أميركي- إيراني، يتقدمها المكون الإسرائيلي النافذ في واشنطن والراغب في تعطيل العلاقات بين طهران وواشنطن خوفاً على مصالحه.وهكذا يمكن ملاحظة أن المنافسة الإقليمية بين إيران وإسرائيل قد قوضت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فمن ناحيتها أفشلت إيران جهود التسوية بين الدول العربية وإسرائيل لأنها كانت ستؤدي إلى شرق أوسط جديد بقيادة إسرائيلية بحيث يتم تهميش طهران ومصالحها في المنطقة. وبالمثل فقد أفشلت إسرائيل محاولات التقارب كلها التي لم تنقطع بين واشنطن وطهران، بوساطات أوروبية وعربية وآسيوية، لأن تل أبيب ترى في هذا التقارب تهديداً لموقعها في المنطقة. اشتعل العداء الإسرائيلي لدور إيراني في المنطقة مع تراجع حضور العراق بعد حرب تحرير الكويت، وما أدت إليه مغامرات بغداد العسكرية في اختلال التوازنات لمصلحة طهران منذ التسعينيات على الأقل. وقتها قامت تل أبيب بتوسيع مفهوم «المبدأ المحيطي» الذي صاغه مناحم بيجين، والقائم على ضرورة تعاون إسرائيلي استراتيجي مع الدول الواقعة على المحيط العربي (إيران وتركيا وإثيوبيا)، وبموجب التوسيع الجديد أصبحت الهند هي دولة المحيط وليس إيران. بمعنى أن إسرائيل وضعت إيران بالفعل في خانة الدول العربية وموقع العدو لإسرائيل، وهو العدو الذي يجب محاصرته بدولة محيطية هي الهند، وهي خطوة لها دلالتها الاستراتيجية الفائقة الأهمية. وإذا توخت إيران دوماً أن تفصل بين العلاقات الإيرانية- الأميركية والتنافس الإيراني- الإسرائيلي، فإن التقارب في المصالح الجيوبوليتيكية بين إيران وأميركا يبدو معلوماً، مثلما هو التنافس الإقليمي بين طهران وتل أبيب كذلك. برعت طهران، حتى في أحلك الظروف، في استخدام قنوات خلفية متنوعة للحوار مع واشنطن بهدف التأثير على خيارات التصعيد من بعض الأطراف داخل الإدارة الأميركية. ولعله من المفيد ملاحظة أن إيران لا تعادي الولايات المتحدة الأميركية لأغراض إيديولوجية فقط، بل تسعى إلى إجبارها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات لتقاسم النفوذ معها بالمنطقة وذلك عبر قدرة طهران على تكبيد واشنطن خسائر إقليمية وسياسية. وهذه الملاحظة يمكن تتبعها منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم، وبحيث يبدو بوش في المقابل أكثر إيديولوجية من النظام الإيراني وأكثر رغبة في الانخراط في حرب ضد «قوى الشر» من رجال الدين الإيرانيين! يشترط منطق التسوية المفترضة أن تتبني إيران موقفاً مشابهاً للموقف الباكستاني أو الموقف الماليزي، أي دولة إسلامية غير عربية لا تعترف بإسرائيل وتنتقدها حتى من حين الى آخر، ولكنها تتجنب الدخول في مواجهة معها أو حتى تتحداها مباشرة أو عبر وكلاء. ومن المتوقع أيضاً، في حال حدوث التسوية، أن تقلص إيران حدود تعريفها لبيئة أمنها القومي بحيث يقتصر على الخليج العربي وبحر قزوين فقط، وليس الشرق الأوسط الكبير. ولكن وبالرغم من المكاسب الجيوبوليتيكية التي ستجنيها طهران في حال إبرام صفقة تسوية بينها وبين واشنطن، فإن الحمولة الإيديولوجية الثقيلة للخطاب السياسي الإيراني في المنطقة تجاه إسرائيل ستفرض قيوداً على قدرة إيران في القبول بمنطق التسوية المذكور. ويمكن القول -بكثير من الاطمئنان- إن المعرقل الأساسي للتسوية السياسية بين واشنطن وطهران هو تل أبيب ومعها المجمع الصناعي- العسكري الأميركي، أما المؤيد الأساسي لهذه التسوية، فهو لوبي النفط الأميركي التواق إلى السيطرة على النفط الإيراني وفوق ذلك المشتاق إلى نقل أسهل لثروات بحر قزوين النفطية. باختصار يبدو صعود وهبوط خيار التسوية مرتبطاً أساساً بالداخل الأميركي وتوازنات القوى بين أجنحته، وليس بالضرورة بالطرف الإيراني الراغب في تسوية تضمن له القيادة الإقليمية في المنطقة... وليس أقل من ذلك!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية- القاهرة