الغائب الأكبر في المشهد الثقافي في الإمارات

نشر في 07-04-2009
آخر تحديث 07-04-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله المشهد الثقافي في الإمارات مليء بالمستجدات ومزدحم بالنشاطات ويعج بالمبادرات والاستثمارات السخية في البنية الثقافية التحتية التي تشير الى توق الإمارات أن تصبح مركزاً للاشعاع الفكري والأدبي والفني في المنطقة العربية. لكن على أهمية الحراك الثقافي، فالملاحظ أن المظهر قد طغى كثيراً على الجوهر، والاستهلاك يفوق الإنتاج، والبعيد أكثر حضوراً من القريب، كما أن هدف التسويق أكثر وضوحاً من هدف الإبداع الثقافي. كل ذلك يطرح أسئلة حائرة حول الفائدة والقيمة الثقافية المضافة لهذا النشاط الثقافي الكثيف؟ ولمن يتوجه؟ وهل يصب في سياق بلورة مشروع يفيد المبدع والإبداع الوطني ويتواصل مع الجمهور الثقافي الإماراتي الغائب عن الكثير من هذه النشاطات.

لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يوجد حراك ثقافي في الإمارات. فالإمارات متألقة ثقافياً اليوم أكثر مما كانت متألقة خلال الـ37 سنة الماضية. ولا يمكن لكائن من كان أن يقول إنه لا يوجد استثمار واهتمام رسمي واسع بالفعل الثقافي. فالميزانية المخصصة للثقافة هي اليوم أضخم من أي وقت من الأوقات والمؤسسات الثقافية الرسمية وليست الأهلية التطوعية هي المحرك الأكبر لهذا النشاط الثقافي. كما لا يمكن الادعاء أن الثقافة مهملة وليست على رأس قائمة أولويات الحكومات المحلية في الإمارات.

وما يثير الإعجاب في المشهد الثقافي في الإمارات المزدحم بالمهرجانات والمعارض والجوائز والفعاليات الأدبية والفكرية والفنية، أن كل هذا الحراك الثقافي يتم في ظل أزمات مالية عالمية عاصفة. لقد جرت العادة في ظل الانكماش الاقتصادي وتراجع العائدات النفطية، أن يتراجع الاهتمام الرسمي بالنشاط الإبداعي ويكون الحراك الثقافي ضحية التقشف المالي. لم تحدث مثل هذه المقايضة في الإمارات حتى الآن. فالميزانية السخية المخصصة للثقافة مازالت سخية. والنشاط الثقافي في عز تألقه. وأكدت الإمارات القدرة على التوفيق بين الأزمة المالية والحركة الثقافية النشطة كل النشاط والتي تحصل على ما تستحق من رعاية واحتضان.

فلم تعد في الإمارات عاصمة ثقافية واحدة، بل عواصم ثقافية عدة: قديمة وجديدة وصاعدة تتنافس فيما بينها على مدار السنة، وكأن الإمارات دخلت إلى ربيع ثقافي دائم الاخضرار. وبدلاً من جائزة واحدة توجد جوائزة ثقافية عديدة حيث أصبحت الإمارات بجدارة أرض الجوائز الأدبية والفنية والفكرية القيمة والسخية كل السخاء. ولم يعد هناك معرض واحد للكتاب، بل معرضين سنويين هما من أكبر معارض الكتب في الوطن العربي وأفضلها تنظيماً وربما أكثرها مبيعا، علاوة على الإعلان أن تنظيم معرض عالمي ثالث متخصص لكتاب الطفل سينطلق قريباً.

ولا يوجد مهرجان واحد، بل مهرجانات تغطى الفن التشكيلي والمسرحي والموسيقي والسينمائي والشعري بما في ذلك برنامج شاعر المليون الذي أعطى شعر النبط بعده العربي، وبرنامج أمير الشعراء الذي أعطى الشعر الفصيح عمقه الجماهيري علاوة على مسابقة شاعر المليون للأطفال دون سن الرابعة عشرة حيث فازت الطفلة العراقية خديجة الطائي بدورتها الأولى. وقبل ذلك أطلقت الإمارات مبادرات معرفية وثقافية رائدة في الترجمة والقراءة، وبناء سلسلة من المتاحف العالمية، وإقامة أكاديميات ومعاهد فنية وإطلاق مشروع المكتبة العربية الإلكترونية من قبل مؤسسة محمد بن راشد التي احتفلت أخيراً بمرور سنة على إطلاقها.

المشهد الثقافي في الإمارات مشرق ويفيض بالحياة والحيوية وجميع المؤشرات تؤكد أنه سيستمر في الصعود من أجل تحقيق هدفه الحضاري والتنويري. لكن حان وقت التفكير في ألا يتحول هذا الزخم الثقافي إلى موضة ووجاهة، ومن المهم أن يدار إدارة محلية خالصة، ويعتمد على أجندة وطنية واضحة، ويتوجه إلى الداخل أولا، ثم الخارج العربي والعالمي ثانياً وثالثاً. ومن المهم أيضا أن يكون الوطن المستفيد الأكبر والمواطن المستهدف الأول من الاستثمار الثقافي والمعرفي.

كذلك من المهم ربط هذا النشاط الثقافي بغاية وطنية كبرى وملحة هي تأكيد الولاء والانتماء، وحماية الهوية الوطنية المهددة والتي أوشكت على الضياع في ظل تضخم الكل العالمي. الانفتاح على الخارج صحي ولا شك أنه يغني الداخل ويرتقي به، لكن الانبهار المفرط بالخارج، وتسليمه الراية والأمانة يعني نهاية محتمة للداخل. ما يحتاجه المشهد الثقافي في الإمارات حاليا هو الابتعاد عن النزعة الاحتفالية، وإعادة الثقة في المنتج والمنتج المحلي، والتركيز على بضاعتنا الفكرية والأدبية والفنية وتطويرها كي تحصد الجوائز الثقافية السخية التي تذهب في مجملها إلى البضاعة الثقافية القادمة من الخارج.

إن أكبر نقاط ضعف المشهد الثقافي أنه يذهب إلى البعيد وينسى القريب، ويركز على العالمي على حساب المحلي، ويهرول إلى الخارج بدلا من الداخل، ويهتم بالاستهلاك أكثر من اهتمامه بالإنتاج الثقافي. الأديب الإماراتي غائب ومغيب. والمبدع الوطني قليل الإبداع ولا حضور له في المشهد الإبداعي والمعرفي المنتعش في الشكل دون المضمون. أما المثقف والأكاديمي والكاتب الذي يحمل الهم الثقافي الوطني، فهو مبعد وغريب ويشعر بالغربة وفي بعض الأحيان مقيد ومشكوك في عطائه وإخلاصه، وتحول أخيراً الى مجرد شاهد ومتفرج على العرس الثقافي. فالمؤسسات الثقافية، بل وحتى الأكاديمية أصبحت تدار من قبل طاقات وكفاءات عالمية وافدة قديرة وفذة، لكنها تنطلق من أجندات ليست بالضرورة أجندات وطنية، ولديها اعتبارات غير متجذرة في الأرضية والهوية والثقافة المحلية.

في واحدة من المفارقات البليغة التي تجسد الغائب الأكبر في المشهد الثقافي في الإمارات، يقول أحد الشعراء من أبناء الإمارات إنه انتظر كثيراً دعوة المشاركة والحضور في فعاليات مهرجان الشعر الدولي الذي عقد تحت شعار «ألف شاعر ولغة واحدة». لم تأتِ الدعوة، وآثر البقاء كمتفرج يتابع عن بعد بألم وصمت فعاليات هذا المهرجان الذي غاب عنه الجمهور المحلي فيما عدا قلة قليلة. لكن هذا الشاعر الذي شعر بالإحباط والإهمال كغيره من المثقفين المتابعين للنشاط الثقافي على أرض الوطن، وصلته دعوة من الخارج للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي الذي عقد في مدينة إشبيليا الإسبانية أخيرا ليكون بذلك الشاعر الوحيد الذي مثَّل دولة الإمارات.

تجسد هذه القصة أكبر تناقضات المشهد الثقافي في الإمارات الذي يحتفي بالبعيد وينسى القريب، ويتجه إلى الخارج على حساب الداخل، وينفق بسخاء على الإبداع العالمي ويتجاهل المبدع الوطني. لقد أصبح من الضروري ترتيب أولويات المشهد الثقافي والإبداعي والأكاديمي في الإمارات لتحقيق التوازن بين الداخل والخارج والوطني والعالمي والذي لا يمكن تحقيقه من دون تطوير المنتج والمنتج الثقافي الوطني والاعتماد على الإدارة الثقافية الوطنية المحبة للإمارات. من دون ذلك لا يمكن للإمارات أن تصبح عملاقاً ثقافياً كما هي الآن عملاق اقتصادي في المنطقة العربية.

* باحث واكاديمي إماراتي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top