السياسات الضيقة والانهيارات المتسعة

نشر في 17-12-2008
آخر تحديث 17-12-2008 | 00:00
 بلال خبيز لا يخفي مسؤولون دوليون وصناع قرار على امتداد العالم فرحتهم لوقوع الولايات المتحدة في ما يشبه الحيرة في الاقتصاد والأمن وعلى مستويات أخرى. بعض هؤلاء، مثلما هي الحال في روسيا الديمقراطية، باتوا يغذون آمال استعادة مجد غابر، ويندر أن تصدر الصحف الروسية من دون أن يتصدر صفحاتها خبر، لا يخلو من الشماتة، يتعلق بصعوبات مالية واقتصادية تواجهها مؤسسة أميركية ما، فضلاً عن ذلك بات القراء في روسيا يستطيعون أن يلمحوا ضرباً من المديح بصناعة السلاح الروسية والتقدم الروسي على كل المستويات. وقد عاد جوزف ستالين واحداً من آباء الأمة الروسية في استطلاعات الرأي، بل إنه الأب المؤسس الذي لا يفوقه مرتبة غير بطرس الأكبر.

بالمثل، لا يتورع الأميركيون أنفسهم، بمن فيهم صناع القرار، عن تغذية نوع من الشماتة بما تتعرض له أميركا من صعوبات، بل إن مجلس الشيوخ، الذي كان قد صحح خطيئة مجلس النواب في الأيام العشرة الأخيرة من شهر سبتمبر 2008، وقع هذه المرة في الخطيئة نفسها، حين رفض تمرير خطة إنقاذ شركات السيارات الأميركية التي اقترحها الصانعون، بدعوى أن هذه الشركات لم تقترح إعادة هيكلة مقنعة تتيح لها فيما لو منحت هذا القرض أن تستعيد نمواً عزيز المنال.

والحق أن الشماتة ومشاعر الابتهاج التي ترافق الحرج الذي يصيب أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، والشركات والمصارف الكبرى على امتداد العالم، لا يمكن رده. ذلك أن انهيار هذه السلطات المالية والاقتصادية الغاشمة يغذّي في نفوس السواد الأعظم من شعوب العالم مشاعر الشعور بأن عدالة ما تحققت، وأن الكأس المرة التي كان سواد العالم يتجرعها باتت حوافيها اليوم على شفاه من كانوا يصنعون مرارتها، إنما وبعد لحظة الانتشاء بتحقق العدالة والمساواة في المعاناة، تأتي لحظة الحقيقة المرة.

يقدر أقل المحللين تشاؤماً أن انهيار شركات السيارات الثلاث قد يؤدي إلى ضياع أكثر من 3 ملايين وظيفة في أميركا وحدها، وبعض التوقعات تؤكد أن إعلان الإفلاس قد يؤدي إلى ضياع أكثر من خمسة ملايين وظيفة. هذا في أميركا وحدها، أما حجم الكارثة على امتداد العالم فأمر يصعب حصره وتدارك تداعياته، والأرجح أن انهيار الصناعة في أميركا سيؤدي إلى فوضى عارمة في سوق السيارات، أين منها الفوضى التي ضربت منطقة الشرق الأوسط إثر الحملة الأميركية على العراق، وجعلت أسعار النفط الخام ترتفع إلى سقوف خيالية. ذلك أن اضطراب سوق السيارات وانهيار شركات عملاقة بالحجم الذي هي عليه شركة جنرال موتورز أو فورد مثلاً قد تؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار السيارات الأوروبية والآسيوية واختلالات في سوق العرض والطلب، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى رفع أسعار السيارات الأمر، الذي يعني حكماً انهياراً متمادياً لسعر النفط، باعتبار أن وسائل النقل الشخصية والعمومية تستهلك نسبة كبيرة من الإنتاج النفطي العالمي.

روسيا التي شكل ارتفاع أسعار النفط الخام أحد أبرز أسباب نموها في السنوات الأخيرة، ستكون من دون شك أكثر المتضررين من انهيار مفرط في سعر النفط واختلال سوق السيارات، هذا فضلاً عن مخاطر الاضطراب في التجارة والصناعة العالميتين، ذلك أن صناعات بهذا الحجم تغذي صناعات أخرى على امتداد العالم، من الأجهزة الإلكترونية المصنعة في ماليزيا وكوريا والصين التي تستعمل في هذه السيارات، إلى صناعة الصلب التي تستفيد منها دول مثل الهند وكوريا الجنوبية، مروراً بصناعة الزجاج التي تمتد على مروحة واسعة من هندوراس إلى المكسيك. والخلاصة، فإن مما لا شك فيه أن انهيار صناعة السيارات الأميركية كارثي الأثر، ليس على أميركا وحدها، بل على العالم كله.

وعلى الرغم من أن هذه المخاطر كانت مما حذر منه الاقتصاديون وتم تناولها بالتفصيل في وسائل الإعلام العالمية، فإن صناع السياسة في الولايات المتحدة وخارجها على حد سواء ما زالوا يتصرفون كما لو أن مهمتهم مقصورة فقط على حفظ مصالح ناخبيهم الآنية والضيقة، في حين أن التخفف من مشاعر الغضب والشماتة قد يوضح الصورة الكارثية التي سوف تحل بمصالح الناخبين إياهم فيما لو حدث مثل هذا الانفجار الهائل والشامل. والأرجح أن أول الدروس التي يجب أن نتعلمها من هذه الأزمة المتوالية فصولاً هو الإقلاع عن وهم النمو في المعازل الوطنية والحدود الضيقة، فالعالم بات مترابطاً ومتصل الوشائج، وحدها السياسة لاتزال تحرث في أرض الحدود القومية التي لم تعد تنبت زرعاً ولا شجراً.

* كاتب لبناني

back to top