إطلالة جديدة على مدارس العلاقات الدولية (1- 2)

نشر في 08-01-2009
آخر تحديث 08-01-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد تترجم مأساة غزة والحصار المضروب عليها التوازنات القائمة في الإقليم بدقة، حيث تتراجع أدوار النظام العربي الرسمي العاجز عن الفعل والمشارك عملياً في الحصار؛ في الوقت الذي تتقدم فيه الأدوار الإقليمية لكل من إيران وتركيا. لابد أن تثير مأساة غزة التفكير والتدبر في المآل الذي تحولت إليه سياسة العرب الخارجية في السنوات الأخيرة وعدم قدرتها على الفعل، إلى الدرجة التي تكشفها مأساة غزة على هذا الشكل الفاضح والمؤلم.

لكن الألم يجب أن يكون في نهاية قائمة طويلة من الأولويات يأتي في مقدمتها أسباب تخلفنا عن السباق الإقليمي الذي تنخرط فيه تركيا وإيران بقوة. أعتقد وبدرجة عالية من الاطمئنان أن المدخل الأساسي لفهم الترهل الذي أصاب النظام الإقليمي العربي يكمن أساساً في عدم استيعاب النظام العربي الرسمي لنظريات العلاقات الدولية، وهو ما يعني قراءة خاطئة على الدوام لمؤشرات السياسة الدولية، وبالتالي الانزلاق في ورطة تلو الأخرى. ولا يعني ذلك أن مجرد استيعاب المنطق الأساسي لنظريات العلاقات الدولية سيعني تحصيناً من تلك الورطات في حد ذاته، ولكنه سيشكل مدخلاً لا غنى عنه لحماية المصالح الوطنية العليا للدول العربية، وما يمكن تسميته «المصالح العربية المشتركة».

ينهض الأفق النظري لمدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية على فرضية أن النظام الدولي الأحادي القطبية الذي قام على أنقاض الاتحاد السوفييتي السابق، هو نظام غير مستقر بحكم تكوينه. وبخلاف القدرة على القيام بالضربة الثانية النووية التي توافرت لكل من واشنطن وموسكو في صراعهما السياسي، ضمن إطار النظام الدولي ثنائي القطبية، الذي تعتبره هذه المدرسة الأكثر قدرة على الاستمرار، فهو نظام أتاح للدول المختلفة نوعاً من الحماية عبر الانضواء في أي من المعسكرين المتقابلين.

وبانتقال النظام الدولي من ثنائية القطبية إلى أحادية القطبية في بداية التسعينيات من القرن الماضي خسر هذا النظام أحد أعمدته الفكرية الرئيسية.

وطبقاً لمنطق المدرسة الواقعية الهيكلية تبرز القوى الإقليمية عبر مناهضتها لسيطرة الولايات المتحدة على العلاقات الدولية، وهو ما يمكن ملاحظة أن إيران تفعله بامتياز الآن وليس العرب. ولأن القوى الإقليمية محدودة القدرات مقارنة بالقوى العظمى- بحكم منطق الأمور، كما أن أياً من القوى العظمى لا يملك وحده القدرات التي تمكنه من لعب دور أكبر على الصعيد الدولي، فقد قام عالما العلوم السياسية كينيث والتز وجوزيف جريكو بتطوير الإطار النظري لمدرسة الواقعية الهيكلية عبر ابتكار تصور للقوة يقاس نسبياً وليس شمولياً.

يبحث العلماء المنتمون لهذه المدرسة الواقعية في مسألة قدرة القوى الإقليمية المختلفة على مجابهة الولايات المتحدة الأميركية، في حين أن واشنطن ستسعى دوماً إلى إحباط ظهور هذه القوى الإقليمية. وحتى تستطيع واشنطن فعل ذلك فهي تدعم أحد اللاعبين الإقليميين القادر على محاصرة القوة الإقليمية الأخرى ومنعها من الظهور، حالة إسرائيل أولاً وربما تركيا ثانياً. وعلى هذا فأحد محاور البحث النظري في منطقة الشرق الأوسط يجب أن يتمثل في البحث بعلاقات وتناقضات مربع القوى بين: الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وإيران.

وفي مقابل المدرسة الواقعية، ذائعة الصيت وطويلة الباع في العلاقات الدولية، تقف المدرسة المؤسسية بحيث تتشارك المدرستان في فكرة انطلاقية مفادها أن الدول هي لاعب منطقي في حين أن النظام الدولي هو الذي يتميز بالفوضى. بمعنى آخر يعلم اللاعبون (الدول) أهدافهم التي يسعون لتحقيقها، ولذلك فهم يستطيعون المفاضلة بين البدائل المختلفة للوصول إلى هذه الأهداف. بمعنى آخر تتشارك المدرستان في الاتفاق على أن عقلنة الوسائل وليس عقلنة الأهداف هي المحك الأساسي لقياس قدرتها على الفعل ولتوسيع هامش حركتها ومناورتها. وتتشارك المدرستان أيضاً في اعتبار أن سلوك الدول في النظام الدولي يفتقر إلى مرجعية مركزية، ولذلك تفضل المدرسة المؤسسية مدخل تعاون الدولة مع جيرانها لحل المسائل والقضايا.

يولي منظرو المدرسة الثالثة في العلاقات الدولية وهي المدرسة البنائية اهتماماً خاصاً بالعنصر الثقافي في العلاقات الدولية، وهو ما كانت المدرسة الواقعية قد رفضته في تنظيرها للعلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفي المناظرات الأساسية التي دارت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بين المدرستين الواقعية والمؤسسية عن العناصر المادية «الصلبة». بل أكثر من ذلك فالأساس الأبستمولوجي للواقعية والمؤسسية، أي «الوسائل المعقلنة» Instrumental Rationalism، قد تم فهمه على أساس إعطاء أولوية لعناصر القوة الصلبة على عناصر القوة الناعمة في تقدير القوة الشاملة.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.

back to top