صوت الحب والأنس والطرب (18) أميرة الأحزان أسمهان... عميلة بريطانيّة!
في اليوم التالي لطلاقها، زارت أسمهان والدتها وشقيقها فؤاد ومن بعدها حضر فريد وسوِّيت الخلافات العائلية، فاشترطت أسمهان أن تبقى في مسكنها الجديد في عمارة الأيموبيليا وألا تعود إلى منزل العائلة في غاردن سيتي، فقبلت العائلة ذلك الشرط على مضض لأن والدتها كانت مقتنعة بأن أسمهان تزوجت صوريًّا وطلقت بشكل سريع لتصل إلى انفرادها بالسكن.
ظلت أسمهان في شقتها ولم يكن يزورها يومئذ سوى أمينة البارودي وبعض الصديقات من العائلات الكريمة، ثم مرضت ولزمت الفراش فأرسلت خادمها عوض تدعو التابعي إلى زيارتها لأنه لم يكن لديها هاتف في شقتها، غير أنه رفض الحضور وأعطى خادمها ظرفا وضع فيه مائتي جنيه، وهو مبلغ كبير ويدل على مدى مكانتها لديه، لكن أسمهان أعادت اليه الظرف بما فيه على رغم أنها لم تكن تملك آنذاك ثمن الدواء، الى درجة أن التيار الكهربائي قُطع عن شقتها لعدم قدرتها على دفع فاتورة الكهرباء، وسجلت خلف الظرف عبارة: «كنت أريد أن أراك فحسب فلم تتنازل.. أشكرك».بعد أيام شفيت من مرضها وتوجهت إلى منزل أهلها وتناولت طعام الغداء معهم، وفي طريق العودة زارت التابعي في مكتبه وطلبت منه الخروج مساء للعشاء في مطعم الكونتننتال، فأجابها بصراحة أنه كان يسّره قبل زواجها من بدرخان أن يخرج معها ولكن لا يستطيع الآن أن يظهر معها في أي مكان عام، لأن لبعض الناس ألسنة طويلة وقاسية، سيقولون إنها تزوجت وطلقت بعد أسابيع، ثم خرجت مع صحافي صديق، كأن شيئا لم يكن، بل وقد يقولون إن الصحافي هو من وراء الطلاق، فلم يعجبها كلام التابعي ورفضه العشاء معها فخرجت من مكتبه.تجنيد أسمهانفي 1 مايو (أيار)1941، كانت أسمهان تتناول العشاء كعادتها في حديقة الكونتننتال في القاهرة مع بعض الأصدقاء، فتقدم منها شخص بريطاني عرّف نفسه بإسم نابيير، وباعتبارها فنانة مرموقة وسيدة مجتمع فمن الواجب عليها الإصغاء إلى كل من يقابلها بصدر رحب، لذلك استمعت إليه وهو يقول لها: سيدتي إنني من المعجبين بك، وأعرفك جيدا لأنني كنت قنصلا لبلادي في دمشق وسمعت الكثير عنك من آل الأطرش، وأشكر الظروف التي جعلتني ألتقي بك مصادفة الليلة.طبعا لم يكن الأمر مجرد إعجاب ولا مصادفة، لأن نابيير أطلق عملاءه في القاهرة لجمع كل ما يتعلق بها، وعرف منهم أنها تفضّل هذا المكان للعشاء مع أصدقائها من كبار القوم، وكان لا بد من أن ترد له أسمهان التحية والشكر: أشكرك على ذلك، فهذا أمر يشرفني. - في حقيقة الأمر أحاول مقابلتك منذ يومين لأحدثك في أمر مهم فيه نفع لك ولبلدك سورية، ولأهلك الدروز، هل لديك مانع من تدبير موعد على انفراد؟- ليس لدي مانع، نتهاتف ونحدد موعدا.ناولها بطاقته وطلب منها محادثته في اليوم التالي للاتفاق على موعد المقابلة ومكانها، فوافقت بلا تردد، فانصرف مودعًا.في صباح اليوم التالي حاولت الاتصال به ولم تجده في مكتبه فلم تهتم لذلك طوال اليوم، لكنها اتصلت به في صباح اليوم الثالث فاقترح أن يزورها في شقتها فوافقت. حضر بمفرده وكان حديثه معها عاديا جدا، اذ لم يفصح فيه تماما عما يريده، فهو رجل مخابرات، ولا بد من أن يساوره الشك في أنها يمكن أن تسجّل له بمعونة أحد الأجهزة الأخرى، فاكتفى بسؤالها عن بعض أفراد الأسرة وعما إذا كانت لا تزال على صلة بزوجها الأمير حسن الأطرش، وما إذا كانت تود العودة إلى جبل الدروز ولو في زيارة قصيرة... إلخ، وانصرف على أن يتصل بها مجددا، وظل فترة لم يتصل بها، الى درجة أنها كادت تنسى الأمر.شكَّها وغيرتهافي 18 مايو (أيار) 1941 زارت أسمهان التابعي في مكتبه وفاجأته بهدية عيد ميلاده وهي عبارة عن زرين من البلاتين المرصّع لأكمام القميص، فشكرها لأنها لم تنس عيد ميلاده، لكن طبعه غلب عليه، فسألها عن مصدر المال الذي اشترت به الهدية وهو يعرف أنها «مُفلسة»، فأجابته بأن أحمد أفندي الطيب أحد متعهدي الحفلات اتفق معها على حفلة غنائية سوف يقيمها في شهر يونيو (حزيران) المقبل، وأنه أعطاها أربعين جنيهًا كمقدّم عن تلك الحفلة، فعاتبها التابعي على إسرافها قائلا: ومن طلب منك أن تنفقي مالك في شراء الهدايا وأنت بحاجة إلى كل قرش منه، كانت تكفيني باقة من الزهور.في اليوم التالي تواعدا على الغداء في منزله، ولما سألها عن سبب تأخّرها قالت له إنها كانت تشاهد طقم صالون في محل الأثاث، وأنها سوف تشتريه لأن ثمنه معقول (ثمانون جنيها)، لكنها ساومتهم حتى قبلوا البيع بخمسة وخمسين جنيهًا فدفعت المبلغ, وهنا وقعت في الفخ لأن ذلك ما كان ينتظره منها التابعي، ولما شعرت أن ذكاءها خانها أحمرّ وجهها وأطرقت برأسها، فذهب التابعي برهة وعاد وهو يحمل أزرار القميص ورماها قائلا: إنني أرفض هدية لا أعرف مصدر المال الذي اشتريت به، اللهم إلا إذا كان المبلغ هو العربون الذي دفعه لك أحمد الطيب متعهد الحفلات ويكفي لدفع ثمن الأزرار وثمن طقم الصالون خمسة وخمسين جنيها.قالت له أسمهان: أقول لك الحق.سألها ساخرا: ومتى قلت الحق.- معلهش صدقني هذه المرة، لقد اقترضت مائة جنيه من صديقتي رجاء.فرد التابعي قائلا: كذابة.ثم تركها تخرج والدموع في عينيها من دون كلمة وداع، وبعد أيام اتصلت به وقالت له: هل أستطيع أن أراك مساء؟- ليس عندي وقت... - إذن أراك غدا.- كلا، ولا بعد غد، بصراحة لا أريد أن أرى وجهك!! فلم تتمالك أعصابها وقالت في غضب، وهي تغلق الهاتف في وجهه: في ستين داهية.على رغم ذلك شعر التابعي بوخز الضمير تجاه أسمهان، خصوصا عندما اكتشف صدق رواياتها بقرضها مبلغ المال من صديقتها، وزاد عذاب ضميره عندما زاره الفنان سليمان نجيب وقال له إنه رأى أسمهان تتناول الغداء مع صديقتها ليلى فتحي، وأنها انتحت به جانبا وشكت له من سوء ظن التابعي بها، وأنها على رغم ذلك متمسكة بصداقته لأنه مخلص وطيب القلب، وكي تثبت له أنها غير حاقدة عليه فإنها ستزوره مساء ورجته بأن يبلغه مقدمًا خبر زيارتها له كي لا يكون له أي اعتراض على تلك الزيارة. أضاف نجيب: خفّف عن أسمهان الفظاظة واترك سوء الظن والشكوك لرجال السياسة.مهمّتهالم يكد يمر أسبوعان حتى عاود رجل المخابرات الإنكليزي نابيير اللقاء بها، وفي اللقاء التالي طلب منها مقابلة شخص يدعى والتر سمارت في منزله في الزمالك، وحدد لها مكان المقابلة وموعدها، فذهبت أسمهان بحسب الموعد إلى العنوان وهي ما زالت في دهشة مما يحدث، لكن ظنت أنها يمكن أن تقدم أي مساعدة لبلدها سورية كما أفهمها الرجل... وهناك لم يكن سمارت فحسب كما قال لها نابيير، بل استقبلها الجنرال الإنكليزي كلايتون الذي تناولت معه الشاي على الطريقة التقليدية البريطانية، ثم لم يضيّع وقته، وراح يتحدث معها بصراحة ومباشرة.طلب منها السفر إلى القدس بالطائرة على أن تقيم في فندق الملك داوود ثلاثة أيام، وهناك سوف يقابلها رجل إنكليزي (لم يذكر اسمه)، لكنه أبلغها أنه سوف يعرّفها عن نفسه في مطعم الفندق بحمله «منديلا أبيض»، ومن خلال لقائها معه، ستعرف المطلوب منها، ثم يعطيها التعليمات بالمهام التي من المفترض أن تقوم بها، على أن تسافر بعد ذلك إلى عّمان ومنها إلى سورية. سلمها الجنرال كلايتون مقدما مبلغ خمسة آلاف جنيه على أن يدفع لها في فلسطين أربعين ألف جنيه لتوزّعها على رؤساء العشائر في سورية كنوع من المساعدات لهم، كما أفهمها، وانتهى الاجتماع طالبًا منها البقاء عند حسن ظن الاستخبارات البريطانية بها. اعترافهاكان التابعي وعد سليمان بك نجيب بأن يستقبل أسمهان أحسن استقبال حين تزوره. انتظرها مساءً لكنها لم تحضر، بل ولم تعتذر، ومر اليوم التالي ولم تحضر وبعد ظهر يوم الجمعة تحدثت معه هاتفيا قائلة: هل أستطيع أن أراك الليلة لأمر مهم؟رد التابعي بالموافقة واتفقا أن تحضر إلى بيته في الثامنة مساء.في الموعد كانت في منزل التابعي، وكان أول ما فعلته أن فتحت حقيبة يدها وأخرجت مصحفا صغيرا كانت تحمله دائما وأمسكت به وقالت للتابعي: أقسم على القرآن الكريم ألا تبوح لأحد بكلمة مما سأقصّه عليك الآن وإلى أن تنتهي مهمتي.قال لها التابعي: ما الحكاية، وما هذه الميلودراما التي تفعلينها؟ أقسم أولا قبل أن أتحدث في أي شيء.لكن التابعي رفض أن يأخذ كلامها على محمل الجد وعادت تلحّ عليه أن يقسم على القرآن الكريم.- وإذا رفضت أن أقسم.- في تلك الحالة لن تعرف سبب سفري.- سفرك إلى أين؟- إلى القدس ومنها الشام.- ومتى هذا السفر إن شاء الله؟- يوم الاثنين. عندما وجد التابعي أن أسمهان جادة في كلامها هذه المرة، تناول المصحف بخشوع وأقسم لها كما أرادت، فهدأت وأعادت المصحف إلى حقيبتها، ثم بدأت كلامها بالاعتذار عن عدم حضورها بحسب وعدها للفنان سليمان نجيب، وصمتت لحظة ثم قالت: ثمة سر خطير أريدك أن تعرفه، فأنت أول وأخر من سيعرف هذا الكلام.تحدثي يا أسمهان... ما كل تلك المقدمات؟اتصلت بي الاستخبارات البريطانية خلال الأيام الماضية، وطلبت تكليفي بمهمة في الشام.لا أفهم، تقصدين أنك....لا أخفي عليك، فقد كانوا في فترات سابقة يسألونني عن معلومات عن بعض السياسيين والباشوات... وكنت أقولها لهم في البداية بحسن نية.حسن نية!!أنت أقسمت على المصحف... وأقسم لك أنني أقول الحقيقة لك كاملة، فأنت لم تكن تعرف شيئا عن ذلك، وكان من الممكن أن تظل لا تعرف شيئا، بالإضافة الى أني لست مضطرة لأقول لك أنت تحديدا هذا الكلام!استمع التابعي إليها وقد أخذته الدهشة من هذه المرأة الحديدية وقد عذرها لتخلّفها عن الوفاء بمواعيدها معه بسبب اكتشافه أنها عميلة لبريطانيا وأعرب عن خشيته عليها.يعني عايزه تعملي ماتا هاري الجاسوسة.لا، أبدا، ماتا هاري كانت جاسوسة... ولاؤها الوحيد للمال حتى ولو خانت بلدها من أجله، أما أنا فأريد أن أخدم بلدي.. وأعتقد أن ذلك ليس تجسساً، إنني أقدم خدمة لبلادي...أي خدمة تقصدين.الحلفاء على وشك الزحف على سورية ولبنان ويهمهم بطبيعة الحال أن يطمئنوا إلى الموقف الذي سيقفه منهم جبل الدروز لأن في السويداء حوالي ثلاثين ألف فارس على أتم الاستعداد للحرب، فكم من مرة أغار الدروز في عهد الأتراك على دمشق وتمكنوا من احتلالها بساعتين، فهم القوة الوحيدة التي ترجّح كفة الميزان، وبريطانيا تعرف ذلك عن يقين، سواء انضم الدروز إلى قوات فيشي أم إلى الحلفاء. لم يكن اختيار الاستخبارات البريطانية لأسمهان بشكل عشوائي أو لأنها من جبل الدروز فحسب، فهم لديهم جواسيسهم الذين يعملون على مستوى عال جدا من الاحتراف، ليس في دمشق والسويداء فحسب، بل في كل مكان، لكنهم أرادوها تحديدا لتلك المهمة لأنهم يعرفون أن الأمير حسن الأطرش لا يزال يحبها وعمها سلطان باشا الأطرش، من زعماء الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، يحترم رأيها كأميرة وزوجة أمير، وكذلك عبد الغفار باشا الأطرش، ولقد سبق للاثنين أن أثنيا على حسن تصرّفها عندما كانت زوجة للأمير حسن، ومن هنا كانت أسمهان واثقة من نجاح مهمتها لأنها لن تجد صعوبة في إقناع الثلاثة بصواب رأيها في الانضمام إلى الحلفاء.صمتت أسمهان لحظة ثم تابعت قائلة: كنت أرجو بعد نجاح فيلم «انتصار الشباب» أن يقتصر عملي على السينما وحدها، لكن ظهر أن العقد المبرم بيني وبين الدكتور بيضا يمنعني من العمل في أي فيلم آخر لمدة عامين وقد مضى منهما عام، بمعنى أنه عليّ أن أدبّر معيشتي عن غير طريق السينما، ماذا افعل؟ رد التابعي قائلا: سافري في تلك المهمة، لكن بشرط الرجوع إلى الأمير حسن زوجك، فأنت لم تخلقي للغناء.- هل صوتي قبيح إلى هذه الدرجة؟- بالعكس صوتك جميل جدا وأنت تعرفين ذلك، لكنك تكرهين الاحتراف، وأخشى عليك من تلك المهمة.- لا تخف عليَّ، أعرف كيف أتصرف مع أعاظم الرجال فكيف مع ضباط الاستخبارات البريطانية الذين يحترمون المرأة.ثم ودعته وعادت إلى شقتها.رتبتهااتجهت صباحًا إلى مركز الاستخبارات الذي كان يرأسه بالوكالة نابيير الذي اتفق معها أن تسافر إلى سورية بصفتها أميرة جبل الدروز وزوجة سابقة لأمير درزي لا يزال له عزه وجاهه في سورية، مؤكدا لها أن الاستخبارات البريطانية أرادت منها أن تبذل جهودها لدى عشيرتها وزوجها السابق الأمير حسن الأطرش وإقناعهم بالتعاون مع القوات البريطانية والتي كانت تنوي دخول سورية ولبنان لطرد قوات فيشي التي كانت أسلمت زمامها إلى الألمان، وكان الحلفاء نجحوا قبل ذلك بشهر واحد في القضاء على ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق، وبدأوا في تثبيت أقدامهم في الشرق الأوسط والقضاء على كل نفوذ ألماني، أما بريطانيا التي قررت الاستعانة بعميلتها أسمهان فقد منحتها رتبة فخرية هي رتبة ميجر (أي صاغ أو رائد) وذلك كي تحصل على امتيازات التعويض والانتقال ودخول المستشفيات البريطانية عند الحاجة (قسم الضباط). كانت أسمهان تدرك أن الأوضاع الحربية في الشرق الأوسط ستتغير وسيتبدل الموقف في الركن الشرقي من حوض النيل الأبيض المتوسط. انتهت أسمهان يوم السبت 24 مايو (أيار) 1941 من ترتيب أمورها للسفر إلى القدس وادعت أمام أهلها(والدتها وفؤاد وفريد) بأنها مسافرة للتعاقد مع منتج بريطاني يقيم في القدس على تمثيل فيلم عربي بريطاني مشترك، فصدقوها ودعوا لها بالتوفيق. بكرت في ذلك اليوم بالخروج من شقتها وذهبت إلى دار زكي باشا وسحبت جواز سفرها وكان مودعا عنده، ثم ذهبت وسلمت الجواز إلى الجنرال كلايتون ليجري اللازم في شأنه، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر عادت إلى منزل الجنرال كلايتون فسلمها الجواز وتمنى لها التوفيق. في مساء اليوم نفسه، ذهبت أسمهان إلى منزل التابعي، وفوجئ بها تدخل، وتلقي أمامه بمبلغ خمسة آلاف جنيه مصري من فئة المائة جنيه، وكان هذا المبلغ هو مقدّم مكافأتها على مهمتها، على أن تقبض بقية المبلغ في القدس.وبينما ينظر التابعي إلى المبلغ وإلى أسمهان في دهشة، فوجئ بها تقول له: امسك ورقة وقلم، واحسب ديوني التي يجب أن أدفعها قبل سفري!وإلى الحلقة المقبلة.