إعلان دمشق وأزمة المعارضة السورية 2- 5

نشر في 14-08-2008
آخر تحديث 14-08-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح من هو السياسي الفرد أو التنظيم السياسي الذي لا يبني توجهاته على التقدير الأرجح لتطورات وضع بلده؟ ومن هو المعارض الجدي الذي لا يحاول التأثير في المسار المرجح لتطور أوضاع بلده؟، لا لشيء إلا لأنه ليس مسيطرا على هذا المسار.

*«صحيح سياسي» جديد

كانت أبرز سمات «إعلان دمشق» الذي صدرت وثيقته التأسيسية في 16 أكتوبر 2005، أنه شكّل إطار إجماع واسعا لحركة المعارضة السورية. فقد شاركت فيه أكثر التنظيمات المعارضة «العربية» وعدد من الأحزاب الكردية (منذ انهيار الشيوعية، تضاءل عدد الأكراد في أحزاب سورية عامة، أما الأحزاب الكردية الصافية فكانت تكاد تحصر نشاطها في شؤون الأكراد في سورية، وفي البلدان المجاورة)، وعلى الفور أعلن «الإخوان المسلمون» السوريون انضمامهم إليه. واستقطب الإعلان مثقفين وناشطين كانوا منكفئين على عملهم المهني أو حياتهم الخاصة، والتف حوله أو عمل في هيئاته أكثر المعتقلين السياسيين السابقين الناشطين، وشكّل أوسع إطار تحالفي للمعارضة في سورية منذ بداية حكم البعث. فهل يكون الإجماع النسبي الواسع هذا معيارا لصواب سياسة الإعلان؟ أم تراه انسياق حسن النية من قبل بعضهم وراء وهم سيئ النية والمآل، يسوّقه آخرون بقصد واع؟

ندافع بالأحرى عن فكرة تفيد بأن السياسة الصحيحة والإجماع (النسبي دوما) يولدان معا في لحظات ربما يكون أخص ما يميزها انها تشكل «صحيحا» جديدا و«حقيقة» جديدة وسياسة جديدة. إنها لحظات كثيفة، تبدو واعدة بتغير في نظام القوة- المعرفة القائم، فيكف الاحتكام إلى ما هو مستقر ومتعارف عليه من أوضاع وأحكام وأفكار عن أن يكون مجديا، ولا يركن أحد إلى الواقع القائم والتوقعات المبنية عليه. لم يكتشف «إعلان دمشق» صحيحا سياسيا سابقا عليه، بل بدا للمشاركين جميعهم مباشرة فيه، وأكثر لجميع من انضموا إليه بعد صدور وثيقته، صانعا لصحيح سياسي مختلف.

ولم يكن هذا التصور وهما محضا. ففي الشهور التي تلت الانسحاب السوري القسري من لبنان (أبريل 2005) قدر كثيرون، في سورية وخارجها، أن النظام لن يتعافى من رضته اللبنانية التي زامنتها وتلتها ضغوط دولية حادة، أثارت عند أطراف من النظام بالذات الرغبة في التخلص منه. إذ يبدو أن غازي كنعان، وزير الداخلية السابق وحاكم لبنان الفعلي طوال قرابة عقدين، كان متورطا في أنشطة تآمرية ضد النظام؛ وبعد شهرين ونصف من «انتحار» كنعان في مكتبه، «انشق» عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السابق، وأخذ يعمل صراحة للتخلص من النظام. وأشار تقرير ميليس الأول (صدر بعد أقل من أسبوع من الإعلان عن «إعلان دمشق») إلى تورط مسؤولين سوريين في اغتيال الحريري. وأخذت دول عربية مؤثرة، فضلا عن جهات دولية فاعلة، مواقف سلبية من النظام. في المجمل، بدا أن كل شيء يوحي بأن النظام مهدد بالترنح والسقوط. وما كان لصورته الإيديولوجية، أو لنقل عالم المدركات والتوقعات التي ترتبط به، إلا أن تنهار لو سارت الأمور في هذا الاتجاه. فهي لا تحوز أي تماسك ذاتي خاص بها، ولم تعتد أن تعيش مستقلة منذ نحو خمسة عقود.

تشكّل الإعلان على هذه الخلفية، وتكون حوله إجماع واسع على هذه الخلفية. والتحق به حتى متحفظون على بعض أفكاره لأنه بدا لهم «البديل» الأكثر صدقية وتماسكا أمام أفق ملتبس، لا يركن حياله إلى المألوف والقياسي من أفكار وسياسات. وما كان لأحد من المعارضين السوريين أن يجعل من نفسه استثناء فيمتنع عن أخذ علم بهذه التطورات المتزاحمة التي كانت مفتوحة النهايات وقتها، خلافا لقراءة إيديولوجية لاحقة يفضلها من يفضلها لحسابات تخصه. القول، تاليا، إن «إعلان دمشق» ولد وسورية تتعرض لضغوط كبيرة صحيح إن كان قولا وصفيا، لكنه خاطئ بالمطلق كاتهام. فمن هو السياسي الفرد أو التنظيم السياسي الذي لا يبني توجهاته على التقدير الأرجح لتطورات وضع بلده؟ ومن هو المعارض الجدي الذي لا يحاول التأثير في المسار المرجح لتطور أوضاع بلده؟، لا لشيء إلا لأنه ليس مسيطرا على هذا المسار؟

وعليه يكون إنكار ناطقين باسم «إعلان دمشق» تزامن صدور الإعلان مع الضغوط تلك ومحاولته الاستفادة منها والتأثير عليها خاطئ بدوره، ومخالف لطبائع السياسة والتاريخ، والإنسان ذاته. فلا تهمة من أجل التنصل منها. ولا يشير تنصل معارضين إلا إلى قوة المحدد الإيديولوجي في تفكيرهم السياسي أو إلى إرادة تقديم تأويل مختلف لسياستهم بعد انزياح الأساس الذي بنيت عليه، بدلا من إعادة تقييم هذه السياسة ككل وإجراء الانعطاف اللازم. أما المضي إلى حد القول إن الإعلان مندرج في حملة غربية على سورية أو «بقايا وشم» لتلك الحملة على العالم العربي، على نحو ما تفاصح صحافي لبناني، فلا يستحق تعليقا. وعلى أي حال لا يبدو أن ثمة سياسة للمعارضة السورية يمكن أن تنال رضا أمثال هذا الصحافي، ولم يعرف عن أي منهم تضامن مع ضحاياها ومعتقليها في أي وقت.

*كاتب سوري

back to top