جورجيا والصراع الدولي

نشر في 11-05-2008
آخر تحديث 11-05-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

حاربت الولايات المتحدة الأميركية روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفييتي بالوكالة في أكثر من منطقة بالعالم، إلا أن الحرب بالوكالة تعود الآن ليس في أنجولا أو نيكاراغوا بعيداً عن حدود روسيا كما كان في السابق، بل في القوقاز على تخوم روسيا وبالتحديد في إقليم أبخازيا الواقع داخل الأراضي الجورجية.

تتحكم الجغرافيا في مصائر وأقدار الدول عموماً وجمهوريات القوقاز خصوصاً، بحيث تبدو قدراً لا فكاك منه سياسياً واستراتيجياً. وبتطبيق تلك المقولة على جورجيا نجد أن موقعها الفريد في القوقاز بين غرب آسيا وشرق أوروبا يحتم عليها التموضع بمواقع بعينها في خضم الصراع الدولي والإقليمي. ويمتد القوقاز جغرافياً في عرض المنطقة الواقعة بين البحرين: بحر قزوين في الشرق والبحر الأسود في الغرب، والذي تطل جورجيا عليه. تواجه جورجيا، التي كانت عضواً بالاتحاد السوفييتي السابق حتى استقلت عنه في ربيع عام 1991، حملة روسية مكثفة بدعم حركتين انفصاليتين فيها هما أبخازيا وأوسيتيا. ويعود الدعم الروسي للحركات الانفصالية إلى محاولة موسكو التأثير في حسابات الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، لتخفيف الاندفاع الجورجي نحو التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية. في هذا السياق فقط يمكن تفسير إعلان حكومة أبخازيا المتحالفة مع روسيا قبل أيام قليلة أنها أسقطت طائرتين جورجيتين من دون طيار، في ضغط جديد على جورجيا التي تعتبر أن أبخازيا كانت ومازالت حتى الآن جزءاً من أراضيها بموجب القانون الدولي. تواجه جورجيا الدولة القوقازية المركزية تحديات مرتبطة بروسيا تتمثل في محاولة إقليم آخر الانفصال عن السلطة المركزية في تبليسي؛ وهو إقليم أوسيتيا الجنوبية. والملفت للنظر أن كلاً من الإقليميين يسيطر على رقعته الجغرافية بعيداً عن سيطرة العاصمة الجورجية تبليسي، ما يعني أنها أقاليم مستقلة عملياً وتنتظر فقط الاعتراف الدولي بها.

يبرز الصراع الجورجي- الأبخازي كأحد الصراعات المؤثرة بعمق في بنية النظام الإقليمي بالقوقاز، بسبب الاستقطاب الذي يمثله طرفاه. تحتفظ جورجيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1991 بعلاقات أكثر من وثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، أملاً في موازنة النفوذ الروسي التقليدي في القوقاز. أما الأبخاز فيحتفظون بعلاقات أكثر من وثيقة مع روسيا، التي دعمتهم بالسلاح حتى تم لهم تحقيق انفصال إقليم أبخازيا عن السيادة الجورجية. أقصت الحرب الباردة الاتحاد السوفييتي السابق من رتبة الدولة الثانية الأعظم في العالم، بسبب تفكك هذا الاتحاد وانهياره بداية التسعينيات من القرن الماضي، والذي ورثته روسيا في حدوده وقدراته النووية ومقعده في مجلس الأمن الدولي. ولم تكتف الولايات المتحدة بانكماش روسيا بعد ذلك، بل أحكمت الحصار والضغوط حولها حتى انسحبت موسكو من مواقعها العسكرية في القارة الأوروبية خصوصاً، وخارج حدودها السياسية عموماً. ووفق هذا المقتضى جاء الانسحاب من ألمانيا الشرقية، وجاء استقلال جمهوريات البلطيق من ناحية وجمهوريات آسيا الوسطى من ناحية أخرى، ليجعل من التمدد الروسي خارج الحدود أمراً من مخلفات الماضي. وأخيراً جاء استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا قبل شهور قليلة لينحدر أكثر بالمكانة الروسية، باعتبار أن روسيا هي الحليف والداعم الوحيد لصربيا. وتنحدر هذه التحولات بروسيا من مرتبة الدولة الإقليمية الأعظم في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، إلى مرتبة قوة إقليمية هناك إلى جانب تركيا وإيران.

لا يخفى أيضاً أن وادي بانكيسي، الواقع داخل الحدود الجورجية، يلاصق الشيشان التي تمثل لروسيا منذ التسعينيات واحدة من أخطر التهديدات الاستراتيجية. كما أن انتعاش الحركات الاستقلالية في الشيشان وجارتها داغستان لا يؤججان النزعات الاستقلالية في القوقاز، ولكنه يحرم روسيا- في حال حدوثه- من إطلالتها الممتازة على بحر قزوين المهم استراتيجياً نظراً لاحتياطاته الهائلة من النفط والغاز. وارتبطت جورجيا، أو كرجستان كما قال العرب القدماء، تاريخياً بروسيا منذ عصر القياصرة الروس وحتى العصر السوفييتي، إذ أن خليفة زعيم الثورة البلشفية لينين كان المواطن الجورجي غوزيف غوغاشفيلي، الذي غيّر اسمه لاحقاً ليصبح ستالين أي الفولاذي، هذا الذي غير ملامح الخريطة السياسية لجورجيا بضم مقاطعة أوسيتيا لها. كما أن شيفاردنادزه الرئيس الأسبق لجورجيا كان آخر وزير خارجية للاتحاد السوفييتي وشريكاً لغورباتشوف في خطواته الانفتاحية على صعيد السياسة الخارجية. وجورجيا لم تكن مهمة لروسيا فقط في عهد بوتين، بل منذ عصر القياصرة الروس الذين رأوا في جورجيا أحد الاستحكامات الدفاعية المتقدمة في القوقاز، أيضاً. وبدخول جورجيا في عصر شيفاردنادزه الحيز الأميركي يزداد الاستقطاب في الصراع الجورجي-الأبخازي لتصبح معادلته الصراعية عبارة عن الولايات المتحدة الأميركية وأمامها جورجيا في مقابل روسيا وأمامها أبخازيا. وبالتبعية صار التغير في موازين القوى بالقوقاز يستدعي تداعيات في المعادلة الإستراتيجية الدولية. حاربت الولايات المتحدة الأميركية روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفييتي بالوكالة في أكثر من منطقة بالعالم، إلا أن الحرب بالوكالة تعود الآن ليس في أنجولا أو نيكاراغوا بعيداً عن حدود روسيا كما كان في السابق، بل في القوقاز على تخوم روسيا وبالتحديد في إقليم أبخازيا الواقع داخل الأراضي الجورجية.

*كاتب وباحث مصري

back to top