الكويت من الدولة إلى الإمارة - الدكتور أحمد الخطيب يتذكر - الجزء الثاني (19)

نشر في 22-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 22-09-2008 | 00:00
No Image Caption
كانت الكويت محطة رئيسية لتهريب أشرطة الخميني إلى إيران وأقمنا علاقة مع علي أردكاني الذي يعمل في التدريب بالكويت
إهداء إلى شابات وشبّان الكويت الذين يعملون على إعادة الكويت إلى دورها الريادي في المنطقة.

إلى أولئك الذين يسعون إلى بناء مجتمع ينعم فيه المواطن بالحرية والمساواة تحت سقف قانون واحد يسري على الجميع، ويكون هدفه إطلاق إبداعات أبنائه وليس تقييدها باسم المحافظة على عادات وتقاليد هي جاهلية في طبيعتها ولا تمتّ بصلة إلى الدين ولا إلى ما جبلت عليه الكويت منذ نشأتها من تعلّق بالمشاركة في السلطة، ثم الالتزام بدستور 62 الذي قنن هذه الطبيعة الكويتية.

إلى الشابات والشبّان الذين يحلمون بمستقبل مشرق للكويت يعيد دورها الرائد في محيطها، كي تنضم إلى عالم العلم والمعرفة الذي أخذ ينطلق بسرعة هائلة لا مكان فيه للمتخلّفين.

إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا الكتاب.

صدّام والحرب العراقية - الإيرانية

والعلاقة مع ثورة الخميني

نظام الشاه كان الهاجس الرئيسي للقوى الوطنية والقومية في الخليج، خصوصاً بعد أن فوضت أميركا إلى إيران حماية مصالحها في المنطقة بعد عجز بريطانيا عن تأدية هذا الدور. وتعمّق هذا التخوف بمطالبة الشاه بالبحرين واحتلاله الجزر العربية، كما ألمح إلى عزمه على احتلال الكويت أسوة بما فعلته تركيا بقبرص بحجة حماية الأقلية التركية هناك- التفاصيل ذكرت سابقاً.

هذه المخاوف جعلتنا نقدم كل عون ممكن للقوى الإيرانية المعادية لهذا النظام. ومن هذا المنطلق أقمنا علاقة وطيدة مع العناصر الإيرانية الخمينية في الكويت، ففتحنا مجلتنا الطليعة لهم ليكتبوا فيها وكنا أول من ينشر بيانات الخميني وصوره. وكانت الكويت محطة رئيسية لتهريب أشرطة الخميني إلى إيران، وأقمنا علاقة مع علي أردكاني الذي يعمل في التدريب بالكويت مبعوثاً من الأمم المتحدة وهو في الوقت نفسه مقرّب من الخميني ومستشار اقتصادي له. وأصبح يكتب المواضيع الاقتصادية في الطليعة. وهو متزوج من امرأة فلسطينية. وبعد نجاح الثورة في إيران عيّن سفيراً لإيران في الكويت، وقد نجح في إقامة علاقة طيبة بين الكويت وإيران حتى أنه أخبرنا أن الخميني سوف يسمح للشيعة بأداء صلاة الجمعة في الكويت لنهجها الإسلامي، والمعروف أن صلاة الجمعة للشيعة تقام في الدول التي تعتبر إسلامية فقط.

بالمقابل كانت علاقتي في ذلك الوقت بصدام جيدة مع أنني لا أعرفه شخصياً، إنما كانت العلاقة جيدة بسبب المساعدة الكريمة من بعض طلبتنا في القاهرة عندما كان لاجئاً سياسياً هناك، ووفرنا عليه مذلة المعونة التي كانت تقدمها الاستخبارات العسكرية المصرية إلى اللاجئين السياسيين بشكل غير لائق. وهو يعرفني من خلال أصدقائي القديمين الكُثُر في العراق.

فكنت ألتقيه عندما يَلْحَق الأذى بالقوى القومية والناصرية في العراق من اعتقال أو تشريد. أو عندما تنشأ مشاكل بين العراق واليمن الجنوبي، ودائماً ما كان يتجاوب معي، حتى أصبح العراقيون يستبشرون بزيارتي للعراق لأنها سوف تؤدي الى إطلاق سراح بعض المعتقلين. كذلك هو يدرك كغيره من القيادات العراقية على اختلاف توجهاتهم أنهم يلقون مني كل مساعدة يطلبونها عندما يهربون إلى الكويت سواء أرادوا البقاء داخل الكويت أو تسهيل سفرهم إلى الجهة التي يريدونها.

مرة واحدة حدث إشكال بيني وبينه، وذلك عندما قلت له: عيب على نظام قومي أن ينفي رجالاً قوميين مثل صبحي عبدالحميد وعارف عبدالرزاق إلى مصر. فوعد بإرجاعهم إلى العراق مكرّمين. وبعد مدة زارني ضابط عراقي وأخبرني أن صدام طلب منه إخطار كل من صبحي عبدالمجيد وعارف عبدالرزاق أنهما يستطيعان الرجوع الى العراق، وطلب إخباري بذلك، فشكرته. وبعد ذلك بقليل جرت محاولة لاغتيالهما في مصر. فجنّ جنوني لأنني أصبحت متهماً باستدراج الاثنين إلى بغداد لقتلهما. ذهبت إلى بغداد حالاً وواجهت صدام بهذه التهمة فطلب مني الهدوء حتى يشرح لي حقيقة ما حصل. وقال عندما أتينا للحكم هذه المرة اتخذنا كل الاحتياطات اللازمة حتى لا يطاح بنا كما حصل في السابق وكنا لا نتردد في إعدام كل من يحاول التآمر علينا، فعندما نعرف أن هنالك مجموعة، مهما كانت صغيرة، تشكل خطراً علينا نأمر بتصفيتها، لكننا الآن أصبحنا نثق بأنفسنا وقدرتنا على مجابهة كل تآمر، فإذا عرفنا بمجموعة تتآمر علينا نقول راقبوهم. واتخذنا قرارا بألا يصفى أي شخص إلا بقرار من مجلس قيادة الثورة ولا أجزم بأن هذا الكلام كان دقيقاً، وما حصل في القاهرة كان بسبب أن المجموعة المكلفة بتصفية الاثنين تأخر إبلاغها هذا القرار. واعتذر عما حصل وطلب مني أن أنقل إليهما ذلك. صبحي عبدالمجيد وثق بهذا الكلام، فرجع وعومل معاملة طيبة وأرسل مرة للعلاج إلى لندن ولما لم يعجبه تضارب الآراء بين الأطباء هناك رجع إلى بغداد، لكن أحمد حسن البكر عندما علم بذلك، أرسله إلى أميركا وأجرى عملية قلب ناجحة هناك، وأنا كنت أزوره في بيته كلما ذهبت إلى بغداد، أما عارف عبدالرزاق فقد رفض العودة.

كان السفير العراقي في الكويت حينئذ مقرّباً جداً من صدام حسين وهو شخصية محبوبة من الجميع، وكانت علاقتنا به جيدة. وكان صلة الوصل بيني وبين صدام.

تأزُّمُ الوضع بين إيران الخميني والعراق لم يكن في مصلحة القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فالخميني طرد الإسرائيليين، وجعل مقرّ السفارة الإسرائيلية مقراً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأقام علاقة مميزة مع الفلسطينيين، ودعا أبو عمار إلى زيارة إيران. وأثناء تأبين كمال جنبلاط في بيروت بمناسبة مرور عامين على اغتياله وكنت مشاركاً في هذه المناسبة قال أبو عمار إن فلسطين اكتسبت صديقاً وفياً في إيران الخميني.

هذا ما جعلني أبادر في محاولة لإصلاح العلاقات بين الطرفين فاتصلت بالخميني وصدام عن طريق سفيريهما. جواب الخميني بالموافقة كان سريعاً، أما الجواب من العراق فتأخر مدة عشرة أيام، بعدئذ أكد لي السفير العراقي أن سبب التأخير يعود إلى أهمية الموضوع ووجوب التشاور حوله.

لذلك عندما وصلت الرسالة وقرأها عليّ السفير وجدت أنها موقعة من كل من أحمد البكر وصدام حسين وسعدون حمادي وزير الخارجية، وكانت بالموافقة، وقد تضمّنت عتاباً على إيران لخرقها اتفاقاً أبرم بين العراق والخارجية الإيرانية يسمح للقوات العراقية بملاحقة القوات الكردية التي تدخل العراق للتخريب ثم تعود إلى الأراضي الإيرانية. وعندما حصل ذلك تعرّضت العراق لحملة غير مبررة من السلطات الإيرانية. عندما عَلِم الخميني بذلك تعهد بالتحقيق في هذا الموضوع، لكن ذلك كان إشارة إلى أن هناك خلافاً كبيراً في إيران حول الموقف من العراق.

بعد موافقة الطرفين على اقتراحي عرضت عليهما أن تؤلف لجنة مشتركة من الجانبين للتفاوض، وأن يحصل التفاوض في الكويت، ليتسنى لنا المساعدة إن كانت ضرورية. وافق الطرفان على ذلك وعُقد أول اجتماع في الكويت برئاسة السفيرين، وفي هذا الاجتماع تم الاتفاق على وقف الحملات الإعلامية لتهيئة الجو المناسب للتفاهم.

هنا اعتبرت أن مهمتي قد انتهت، ولتأخذ الأمور مسارها. وذهبت في إجازتي الصيفية في الخارج.

عندما رجعت علمت بأن المفاوضات قد فشلت بسبب وجود قوى معارضة لهذا التفاهم داخل البلدين.

هذا التخوف حمل الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية على التدخل بعد أن بلغت حدة التوتر ذروتها، فقررت إرسال محمد البصري الملقب بالفقيه وهو قائد قوات التحرير المغربية التي حررت المغرب وأعادت الملك محمد الخامس إلى الحكم بعد أن نفاه الفرنسيون، وكانت تربطه بصدّام علاقة صداقة واحترام. في هذا الوقت كانت علاقتي بصدام قد فترت بسبب اختلاف مواقفنا من قضايا عدة منها الموقف من حكومة اليمن الجنوبي والموقف من الأكراد بعد أن كلفتني الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية بالعمل على إنهاء هذه الحرب العبثية التي تؤثر في قدرة العراق على القيام بدوره القومي. وعند بحث هذا الموضوع مع صدام تمسّك بالحل العسكري للمسألة الكردية، وقال لي عندما زرته إنها سوف تنتهي خلال 48 ساعة، وإن إيقاف العمل العسكري الآن سوف يزعزع الحكم. علاوة على اختلافنا حول الموقف من الثورة في إيران، فقد مُنِعَت مجلتنا الطليعة من دخول العراق لأنهم اعتبروها خاضعة لتأثير الشيوعيين.

ذهب محمد البصري إلى بغداد وبدل أن يقابل صدام حسين كالعادة قيل له أن يحضر اجتماعاً لقيادات الحكم والحزب جميعاً في قاعة الاجتماعات في مقر الحزب في اليوم التالي، حضر الجميع باستثناء صدام حسين، وأعطى رئيس المجلس النيابي الكلمة لمحمد البصري ليطرح وجهة نظره أمام المجتمعين، فتكلم قرابة ساعتين مستعرضاً العلاقات التاريخية بين البلدين وخطورة الانزلاق إلى المواجهة. وبعد أن انتهى من الكلام ساد صمت غريب في القاعة ولم يعلّق أحد على كلامه، فانتهى الاجتماع. وقال الرئيس لمحمد البصري سوف نُعِدّ لك برنامجاً غداً لزيارة بعض الأماكن في بغداد، فردّ عليه البصري قائلاً: شكراً، سوف أغادر غداً لأنني لم آت للسياحة.

غياب صدام عن الاجتماع كان تعبيراً عن موقفه المعارض لأية مصالحة مع إيران. صمت جميع الحاضرين عن أي تعليق كان خوفاً على أنفسهم، وهنا اتضح أن صدام يريد هذه الحرب وأصبح قادراً على ذلك بعد أن تخلص من أحمد حسن البكر وأصبح رئيساً.

حين تسربت أنباء عن نية الحكومة تعديل الدوائر اجتمعنا كنواب للتباحث في المسألة، وتم تكليفي بمقابلة عبدالعزيز حسين وزير الدولة حينئذ بحكم علاقتي به، ولكني عندما التقيته وجدته مهموما بقضية أخرى، إذ أبلغني أن صدام حسين كان قد أبلغ الحكومة الكويتية أن ايران لن تصمد أكثر من ثلاثة أيام، وهي المدة التي سيستغرقها الجيش العراقي لكي يدخل طهران، وقد تسربت أنباء عندئذ بأن هناك 50 ألف جندي ايراني من أنصار المعارضين للحكم في إيران بقيادة الجنرال اوفيزي الذي فر إلى العراق، وأنهم سيكونون القوة الضاربة التي ستسيطر على طهران، ووجدت عبدالعزيز حسين يستدرك: «لقد مضت حتى الآن عشرة أيام منذ اندلاع الحرب، ولا يبدو أن مزاعم صدام صحيحة؛ فالواضح أن المعارك ستكون لمصلحة ايران».

من الطريف أن صدام أرسل لنا وفداً حزبياً ليقنعنا بموقفه من الحرب، ولما عجز الوفد عن ذلك قال الوفد إنها فرصة للجيش العراقي بأن يتمرن على القتال استعداداً لمعركتنا القومية في فلسطين!!!

كان يعتقد أن انتصاره على إيران وضرب الثورة الخمينية سوف يقوي مركزه عند الغرب، كذلك فإن مؤتمر عدم الانحياز سينعقد في بغداد وسيتم انتخابه رئيساً لدول عدم الانحياز مما يعطيه ثقلاً عالمياً. وكان أن استعدّ لهذا المؤتمر بشكل مبالغ فيه: مبان ضخمة لضيافة الوفود وتوسعة المطار وإنشاء شبكة آمنة من الأنفاق من المطار وإليه، لكن الانتصار السريع على إيران لم يتحقق وظروف الحرب منعت انعقاد هذا المؤتمر.

صدام أصابه الغرور في تلك الفترة وبعد أن كان يطرح نفسه كعبد الناصر الجديد رأى أنه أجدر من جمال عبدالناصر الذي هُزِمَ عام 1967. فرقّى نفسه ليكون صلاح الدين الجديد محرر القدس. ولم يكتف بذلك بل رجع إلى التاريخ الحضاري القديم للعراق وسمى نفسه نبوخذنصّر الجديد.

ولا شك في أنه لقي دعماً من أميركا، فقد نشرت مجلة نيوزويك الأميركية تقريراً مطولاً عنه سمّته رجل العراق الباني نهضة العراق الجديد أيام أحمد حسن البكر.

وفي لقاء مع وزير الخارجية العراقي طارق عزيز أثرت هذا الموضوع معه وطلبت إليه أن ينبه صدام حسين لهذا الشرك، فهي محاولة للإيقاع بينه وبين البكر تماماً كما فعل الأميركان مع بومدين عندما أخذت الصحف الأميركية تؤكد أهمية بومدين في تحرير الجزائر. لقد وافقني على هذا التحليل وقال إنه كلّم صدام في هذا الموضوع وأعطاه المجلة الأميركية.

وفي ذلك الوقت كتب جوزيف كرافت الصهيوني مقالة في جريدة نيويورك تايمز ونشرت في جريدة الهيرالد تريبيون يقول فيها إن البعث هو الرد على التطرف الديني والمد الشيوعي في المنطقة ودعا إلى دعمه. ومعروف مدى خبرة هذا الرجل في السياسة الأميركية، فأثناء مروره بالكويت في طريقه إلى الصين طلب مقابلتي في الطليعة بعد أن رفض أن يقابل أي مسؤول كويتي، وخلال مقابلتي له فهمت منه أنه ذاهب إلى الصين وأن تلك الزيارة هي تمهيد لزيارة كيسنجر للصين لإقامة علاقات جديدة هندسها كيسنجر لرئيسه نيكسون مما يدلّ على انغماسه في المساهمة في القرار الأميركي.

وفي مؤتمر القمة الذي عُقد في بغداد أخذ الكثيرون ممن حضروا المؤتمر يلاحظون أن ضوءاً أخضر أميركياً قد أعطي للعراق ليلعب دوراً رئيساً في المنطقة، وقد أصبح هذا واضحاً من خلال الدعم العسكري الذي قدّمه الأميركان إلى صدّام في حربه مع إيران، وكذلك الموقف الأميركي المشجع له عند احتلال الكويت مما حقق لأميركا مكاسب في الخليج والجزيرة ما كانت تحلم بها من قبل. وأنا أعتقد أن طموحه وغروره كانا السبب في كل مغامراته التي سببت الدمار له وللعراق وأضرّت بقضايانا القومية.

القذافي... الشخصية المحيرة!

استبشر الكثيرون من القوميين العرب والناصريين بقيام الثورة في ليبيا عندما أعلن الانقلابيون هويتهم القومية بعد الإحباط الذي أصابهم من جراء هزيمة حزيران 67، لكن بعض مواقف العقيد معمر القذافي من بعض القضايا القومية كان محيّراً.

فبالنسبة للموضوع الفلسطيني أقام علاقة مميزة مع فتح وأهمل كل المنظمات الفلسطينية الأخرى.

كذلك فإنه أرسل بعثة عسكرية إلى سلطان عمان لدراسة مساعدته عسكرياً على محاربة الثوار في ظفار، مع أن قوات السلطان حينئذ كانت بقيادة ضباط إنكليز، وعندما عجزوا عن القيام بمهماتهم حاولوا الاستعانة بقوات إفريقية تابعة لبريطانيا. ولكن هذا لم يحلّ المشكلة، فطلب السلطان المساعدة من شاه إيران. هنا طلب مني الإخوان في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكذلك الإخوان الظفاريين أن أذهب إلى ليبيا لاستجلاء هذا الأمر.

أنا لا أعرف العقيد معمر القذافي شخصياً، لكن الضباط الأحرار فيهم أعضاء من حركة القوميين العرب يعرفونني وكذلك بعض العناصر القومية والناصرية. وبمساعدة هؤلاء وُجِّهت إليّ الدعوة لزيارة ليبيا، فذهبت مع الأخ نايف الأزيمع. من بيروت ركبنا الطائرة متّجهين إلى طرابلس الغرب حسب الدعوة لكن الطائرة كان عليها أن تتوقف في بنغازي. هناك وجدنا من يستقبلنا ويطلب منا النزول في بنغازي. فاعتذرنا لأن موعدنا للقاء القذافي في طرابلس، وعندما وصلنا إلى طرابلس قيل لنا إن العقيد موجود في بنغازي. فهناك احتفال بذكرى المناضل عمر المختار والعقيد يريدك أن تشارك في هذا الاحتفال وكان هذا أول سوء تفاهم يحصل. توقعنا أن العقيد سوف يعود إلى طرابلس بعد الاحتفال، إلا أن ذلك لم يحصل وفهمنا أنه سيرجع بالسيارة ليمر على والدته وبعض القرى في الطريق ولا يمكن تحديد موعد وصوله إلى طرابلس.

أقام لنا الضباط حفلة عشاء حضروها جميعاً ما عدا رئيس الوزراء جلود... كانوا كلهم شباناً متحمسين ومتشوقين إلى النقاش في مواضيع عدة. وحرصوا على أن يظهروا حبهم وتقديرهم لي.

لمست فيهم محبتهم لا بل عبادتهم للعقيد القذافي فهم يعتبرونه أستاذهم وقدوتهم. وظهر أيضاً وزير الدفاع حينئذ أبوبكر يونس كشاب رصين ومتقدم في صفوفهم.

قضينا الوقت بتفقد طرابلس وكانت هناك حملة كبيرة لإزالة «العشيش» بالعاصمة وبناء بيوت حكومية مكانها لسكان هذه «العشيش»، واستغربنا بعض الشعارات المرفوعة بالشوارع وهي تقول «من تحزّب خان»، فكنت أقول في نفسي نحن حزبيّون فهل نحن خونة في نظرهم؟

في اليوم الثالث جاءنا الضابط المرافق -وهو حركي سابق- ليقول إن العقيد قد وصل الآن فلنذهب إليه. وجدناه في حجرة صغيرة لا تتسع لأكثر من أربعة كراسيّ وهو يبدو متعباً من عناء هذه السفرة الطويلة. ولم نحتج إلى مقدمات حتى ندخل في الموضوع. هو ابن الصحراء وأنا ابن الصحراء وأبناء الصحراء ليست بينهم مجاملات.

وكان النقاش حول لماذا يقدّم الدعم إلى فتح وحدها، وكانت حينئذ تبدي استعدادها للاعتراف بإسرائيل. ولماذا أنت تعادي الآخرين الذين يعملون لتحرير فلسطين كما تؤمن أنت وكل قومي آخر. وكيف تناصر حاكماً تحت الحماية البريطانية ينكّل بشعبه وتقبل أن ترسل له قوات تحت أمرة ضباط استعماريين لمحاربة هذا الشعب المسكين.

كان نقاشاً مثيراً ثم أصبح حاداً. عندئذ توقف عن النقاش وطلب مني الهدوء. فقال: «اسمع يا دكتور، الحكام العرب نوعان: إما خائن وإما مجنون، وأنا واحد منهم». فأنهيت النقاش وسلمت عليه وتوجهنا أنا ونايف الأزيمع إلى المطار.

اتضح فيما بعد أن النقاش كان مفيداً فقد دعا كل التنظيمات الفلسطينية إلى ليبيا وأبدى استعداده لمساعدتها كما أنه قطع اتصالاته بسلطان عمان ولم يرسل أية قوات له.

الحقيقة أزعجني الانتظار، وطريقة التصرّف، هذا لا أقبله إطلاقاً وقد هددت بالرجوع من دون رؤيته، لكن الإخوة الليبيين أفهموني ضرورة بقائي لأهمية المواضيع المطروحة. وكان هذا هو اللقاء الأول والأخير مع العقيد.

بعدئذ بمدة عقد مؤتمر في تونس لمناقشة الغزو الثقافي الغربي للثقافة العربية ودُعيت إليه. ذهبت مع زوجتي إلى هناك، وعرف الإخوان في ليبيا بوجودي فجاءني أحد ضباط قادة الثورة يطلب مني أن أزور ليبيا لمناقشة العقيد في بعض الأمور، وقد أبديت ملاحظاتي على بعض التصرفات التي قد تسيء أو ترتد على ليبيا وطلبت إليه نقل آرائي إلى العقيد، ففوجئت بقوله «لا أحد يستطيع مناقشته لأنهم جميعاً يقدّسونه وأنت تستطيع أن تناقشه»، فاعتذرت فأنا لا أستطيع أن أتحمل التأخير في المواعيد والانتظار لأنني أعتبر ذلك إهانة. العقيد شخصية فريدة وغريبة لا يستطيع المرء أن يتنبأ بما سيقول أو بما سيفعل.

الصامتة

اتصل بي د. عبدالرزاق العدواني وزير الصحة وطلب إليّ أن نلتقي على عجل وكان خارجاً من اجتماع مجلس الوزراء. عندما التقينا قال لي إن رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر الأحمد قرأ تقريراً لسفيرنا في دولة الإمارات المتحدة فيه انتقاد حاد لدولة الكويت وسياستها من قبل هذه الدولة. وقال رئيس الوزراء إننا أصبحنا في حالة عداء مع جميع جيراننا وكل ذلك بسبب نهجنا الديمقراطي. والكويت لا تستطيع تحمّل كل ذلك وأعرب عن قراره بأن يوقف العمل بالدستور. كان ذلك في بداية عام 1973.

هذا الطرح كان مفاجئاً لمجلس الوزراء الذي طلب إعطاءه مهلة لدراسة هذا القرار الخطير. وكان رأي د. عبدالرزاق العدواني أنه من الواجب علينا أن نتحرك لتفادي ذلك.

اجتمعنا ورأينا أن نتحرك لنكسر طوق العزلة التي يتمّ نسجه حول وطننا الكويت. ورأينا أن نستثمر علاقتنا القومية الطيبة حينئذ مع العراق لعلنا نوفق في حل مشاكلنا معه.

طلبت مقابلة رئيس الوزراء بشكل عاجل. في لقائي معه قلت له إن أوضاعنا صارت صعبة مع الجيران. فانفجر متحدثاً وأخرج برقية واردة من دولة الإمارات تقول إنهم أوقفوا محطة التلفزيون التي تديرها الكويت. وذكر لي أنه في آخر اجتماع لمجلس اتحاد الإمارات ناقشوا موضوع الجنسية فاقترح أحد الشيوخ أن يستفاد من تجربة الكويت في هذا الموضوع مما عرّضه لنقد شديد من إخوانه الشيوخ وكيلت الاتهامات لدولة الكويت.

وبعد أن هدأت أعصابه قال لي: «يا أخ أحمد أنا الساعة السادسة صباحاً أفتح الإذاعة وأنا متأكد أني أسمع نشرة الأخبار وليس بلاغ رقم (1)، وأنا أتمشى بسيارتي وحدي من دون أن يخطر ببالي أن أحداً سوف يعتدي علي. ليست عندنا ثورة ولا اضطرابات ومظاهرات، ولا كل فترة وفترة أكتشف مؤامرة انقلاب، فأنا مرتاح وهم القلقون». فتجربتنا ناجحة، وهم غير موفقين في تجاربهم، ومع ذلك هم يضغطون علينا لنتخلى عن تجربتنا.

هنا عرضت عليه إمكان معالجة أزمتنا مع العراق لتخفيف الضغط الموجود على الكويت، فرحّب بذلك. قلت له: «أنا سوف أتحرك كمواطن كويتي لا يحمل أية صفة رسمية ملزمة للحكومة الكويتية، حتى إذا فشلت لن يلام أحد على ذلك غيري».

ذهبت إلى صدام حسين -وكانت علاقتي به جيدة حينئذ- وقلت له: «أنت تعرف أن الكويت دولة محايدة، لا بل الدولة الوحيدة التي لا توجد فيها قوات أجنبية لأنها ترفض ذلك، بل هي الدولة الوحيدة في الخليج التي فيها سفارة للاتحاد السوفييتي. والكويت دولة ديمقراطية والقوى الوطنية والقومية تعمل بحرية لا بأس بها. والكويت لا يمكن أن تقبل بأن تشارك في أي مخطط يستهدف العراق. هذا الوضع الكويتي مهدد من دول الجوار وغيرها ولا طاقة للكويت على تحمّله. فهل تريدون الكويت دولة صديقة أم تريدونها أن تتحول إلى خنجر في خاصرة العراق؟»

قال: «نحن لا نريد ذلك، فما المطلوب؟» قلت: «لنحلّ موضوع الحدود، وما المشكلة عندكم؟».

قال: «إن المسألة مسألة عسكرية تتعلّق بقضايا الدفاع، فالجيش العراقي غير قادر على حماية عروبة دول الخليج من دون أن يكون لنا وجود في الخليج العربي. قواتنا البحرية في أم قصر العراقية بحاجة إلى ثلاث ساعات للوصول إلى الخليج. نحن نريد قاعدة عسكرية في بوبيان، لذا نريد بوبيان والساحل المقابل». فوجئت بهذا الطلب لأنه لأول مرة أسمع عن مطالبتهم بجزيرة بوبيان. قلت له: «لا أنا ولا جابر الأحمد نستطيع أن نعطيك شبراً واحداً من أراضي الكويت لأن دستور الكويت يمنع ذلك، إلا أنني أقول ما رأيك لو أننا بنينا ميناء أم قصر الكويتية على نفقتنا وحسب المواصفات التي تريدونها ويكون الميناء مخصصاً لخدمة العراق، وتكون إدارته كويتية وتؤخذ رسوم لتشغيل الميناء، فنحلّ مشكلتكم ونوفر فرص عمل للكويتيين ولشركات النقل الكويتية وغيرها. أما بالنسبة للدفاع عن عروبة الخليج، فهذا موضوع يهم جميع دول الخليج العربي. وهنا ممكن البحث في معاهدة دفاعية خليجية هي التي تحدد الاستعدادات المطلوبة من قواعد عسكرية وغيرها في الكويت وبقية دول الخليج».

قال صدام: «أنا موافق على هذا الاقتراح». قلت له: «هذا اقتراحي وليس اقتراح الشيخ جابر الأحمد، وعليّ أن أرجع للكويت وآخذ رأيه».

رجعت إلى الكويت وأخبرت رئيس الوزراء بما جرى. وقد دُهِش كثيراً عندما سمع أنهم يطالبون بجزيرة بوبيان، لأن ذلك يذكر لأول مرة. وقال لي: «أنا موافق على اقتراحك. وأنا ليست عندي حساسية ضد العراق، فقبل مدة أتاني وزير الدفاع العراقي حردان التكريتي وقال إن إيران تهدد العراق ونحن نخشى أن تقوم إيران بعملية التفاف على الجيش العراقي من جهة الكويت لأن الساحل العراقي كما تعلمون كله رواسب طينية وغير صالح للعبور. ونحن بحاجة إلى دخول خمسة آلاف عسكري عراقي إلى الأراضي الكويتية لمنع الالتفاف، وسوف تخرج هذه القوات العراقية من الكويت فور انتهاء الأزمة». قال الشيخ جابر الأحمد: «وضعنا اتفاقية ووقّعناها، ودخلت هذه القوات (الخمسة آلاف) الكويت وخرجت بعد انتهاء الأزمة. لذا فأنا موافق على هذا الاقتراح».

رجعت فوراً إلى بغداد وأخبرت صدام حسين ذلك، فقال: «أعطوني ثلاثة أشهر حتى آخذ الموافقة من الحزب، فموضوع الكويت حساس عند الحزب ولكني أستطيع أن أقنع الحزب في مؤتمره الذي سوف يعقد بعد ثلاثة أشهر».

رجعت إلى الكويت وأخبرت رئيس الوزراء ذلك. فقال لي «يا معوّد خلهم يحلّون المشكلة ونحن مستعدون لإعطائهم سنة كاملة لا ثلاثة أشهر».

وهكذا طوقنا هذا الاختناق الذي كاد يطيح بالدستور وتجربتنا الديمقراطية.

ولكن قبل الموعد المحدد بشهر واحد حدث اشتباك «الصامتة» وهو مركز مراقبة عسكري على الحدود بين الكويت والعراق مما أفسد كل شيء. فمن كان وراء ذلك؟ من الجهة التي لا تريد علاقة صداقة بين الكويت والعراق؟

بعد فترة حضرت الاجتماع الدوري للجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية وهي برئاسة كمال جنبلاط، وفيها ممثلون لمعظم الأحزاب العربية، التي هي في السلطة في بلدها والتي هي خارج السلطة كذلك، ويمثل الفلسطينيين أبو عمار واجتماعاتها تعقد في بيروت.

في نهاية اللقاء جلست مع عبدالخالق السامرائي وهو مندوب حزب البعث الحاكم في العراق ويعتبر الرجل الثاني بعد صدام مع أنه يتمتع بشعبية أكبر داخل الحزب. وهو دمث الأخلاق محبوب من غير البعثيين كذلك. وسألته: «لماذا أقدمتم على مهاجمة الصامتة ووترتم العلاقات بين البلدين؟».

فقال لي: «نحن لم نكن السبب بل أنتم اعتديتم علينا، فأنا مع أنني عضو في مجلس قيادة الثورة لم أسمع بالحدث إلا الساعة الثانية عشرة ظهراً عندما اجتمعنا لبحث الموضوع وكذلك بقية الإخوان، وأنتم اجتمع مجلس الوزراء عندكم في الصباح الباكر، ثم مجلس الأمة وأصدرتم بيانات الشجب ورفعتم دعوى علينا لجامعة الدول العربية ومجلس الأمن وكذلك أصدرت الهيئات الشعبية عندكم بياناً ضدنا. كل ذلك حدث في الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم، مما يؤكد أنكم أنتم دبرتم هذا الاعتداء. وأقول لك إن صدام حسين استدعى قادة الجيش في المنطقة وأنّبهم على ردة فعلهم الغبيّة وقال لهم إذا «البزونة» (القطة) عالت عليك لا تقطع ذنبها وتجعلها تزعجك بصراخها يجب أن تقطع رأسها. يعني كان عليكم أن تحتلوا الكويت كلها».

فقلت له: «إن الكويت بلد صغير ومجلس الوزراء ممكن أن يجتمع خلال نصف ساعة وهي أبعد مسافة في الكويت عن مقر مجلس الوزراء. واجتماع مجلس الأمة الكويتي هو يوم الثلاثاء الذي حدث فيه الاشتباك. أما الهيئات الشعبية فهي متجانسة سياسيا ويكفي أن يكتب أي طرف البيان وتتم الموافقة عليه من قبل رؤساء هذه الهيئات بالتلفون ليصدر».

وفي كل الأحوال كانت هناك جهة خططت ونفذت ونجحت في إجهاض الاتفاق الذي كاد أن يتمّ بين الكويت والعراق لحل مشكلة الحدود بين البلدين كما أسلفت.

بعد ثلاثة أشهر من هذه الحادثة زارني وفد له علاقة بمن فقدناهم في ذلك الصدام يشكو أن عائلات هؤلاء قُطعت المعاشات التي كانت تصرف لهم وأصبح الأصدقاء يساعدونهم على تخفيف آثار الفاقة التي حلّت بهم. وعجبت لهذه المعاملة غير الكريمة لمن ضحوا بحياتهم في سبيل قيامهم بالواجب. قابلت الشيخ سعد العبدالله وعاتبته على ذلك فأنكر علمه بما حدث ووعد باتخاذ إجراءات فورية لتصحيح وضع هذه العائلات المنكوبة. لقد كنت أدرك خطورة هذه الفضيحة لو أثرتها في المجلس.

وقد قام صدام حسين بإعدام عبدالخالق السامرائي للتخلص منه كمنافس جدي لزعامة الحزب بعد أن اتهمه بمحاولة انقلاب ضده.

فقد جاءني السفير العراقي في الكويت وقدم لي شريطاً قائلاً: «هذا لك من صدام حسين يريدك أن تطلع عليه قبل إعلان خبر مهم بعد ثلاثة أيام حتى لا تفاجأ بالخبر». ذهبت إلى البيت وشاهدت هذا الشريط، وإذا بي أشاهد اجتماعاً حاشداً لقياديي حزب البعث في مبناه الجديد، وصدام حسين يترأس هذا الاجتماع وبجانبه شخص لم أستطع معرفته.

يبدأ الاجتماع بكلمة من صدام يقول فيها إن كل شخص يرد اسمه عليه أن يغادر القاعة. ثم يبدأ الشخص الذي بجانبه الحديث عن مؤامرة كان على ما يبدو عنصراً أساسياً فيها ويسرد اتصالاته العديدة لإعداد هذه المؤامرة، وكلما ذكر اسم شخص قام ذاك الشخص مذهولاً واقتيد للخارج من دون أن يسمح له بالكلام، حتى جاء ذكر رئيس اتحاد الطلبة إلا إن المتحدث قال إنه رفض التجاوب معه، وهنا أثنى صدام حسين على هذا الطالب وعلى ولائه الذي كان متأكداً منه، ولعله الشخص الذي أفشى سر هؤلاء المتآمرين.

الحقيقة أنني ذهلت لما شاهدت، خصوصا أن الموضوع كلّه يتعلّق بعلاقات مع سورية. النظام في العراق بعثي وكذلك النظام في سورية. والبعث مؤمن بالوحدة، وكانت الناس تتوقع أن تتم الوحدة بين البلدين في أية لحظة، فأين المشكلة في ذلك؟

كذلك فإن موضوع الوحدة بين البلدين كان يجب أن يكون من أولويات المواضيع التي تبحث بينهما. فلماذا يكون هنالك تآمر؟ ما الداعي إلى ذلك؟ لماذا لا يبحث هذا الموضوع بين كوادر الحزب كلها؟ أليس الحزب هو صاحب القرار؟ متى صارت الدعوة إلى الوحدة خيانة عند البعث؟

الحقيقة أنني أصبت بالدوار والغثيان لمشاهدتي هذا الفيلم المسرحية. واتصلت بالسفير رأساً وقلت له: «ما هذا؟ أعتقد أنه سوف يعدم هؤلاء وأريد أن أتصل به حتى لا يعدمهم وحتى لا يكون ذلك باكورة أعماله كرئيس للجمهورية». فقال لي: «لا تفعل. لقد تمّ إعدامهم جميعاً». وكانت مناسبة له للتخلص من عبدالخالق السامرائي المنافس الحقيقي له.

حزنت لما آل إليه هذا الحزب القومي، وكانت هذه الحادثة من أحد أسباب القطيعة ثم العداء بيننا.

غداً: آفاق العمل السياسي

back to top