نظام مقايضة إلكتروني؟

نشر في 19-11-2008
آخر تحديث 19-11-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي لا أدري كم منكم عايش فكرة المقايضة، أي أن تشتري سكرا مقابل بيض الدجاج أو أن تشتري سجائر مقابل قدح من القمح أو الذرة؟ ورغم أن المقايضة سادت في الفترة من 9000 إلى 6000 قبل الميلاد قبل اختراع فكرة النقود، فإنني وكل أبناء جيلي في قريتي قد عملنا بنظام المقايضة الذي لم يتوقف في الصعيد إلا في سبعينيات القرن الماضي. وأذكر أنني عندما ذكرت مرة لزملائي في درس الاقتصاد في فترة الدراسات العليا أنني شخصيا قد مارست المقايضة في طفولتي وصباي، ظنوا بأنني أمازحهم لأن اقتصاد المقايضة كان يعني لهم أوروبا العصور الوسطى، ولم يتخيلوا أن يجلس بينهم زميل مارس هذا بنفسه.

ولكن ما لزوم هذا الكلام في فترة الكساد المالي العالمي؟ لزومه هو ألا ننسى بأن التعامل المادي قائم على الثقة في الأساس قبل أن يكون عملة، ومعرفة تطور تاريخ الثقة بين الأفراد والدول هو بداية فهم الأزمة المالية العالمية. كنا نعطي البائع بيض دجاج ويبادلنا به سكرا، وكنا ننظر في عينيه لنتأكد من أن السكر ليس مغشوشا، وكذلك كان ينظر هو في عيوننا ليعلم أن البيض ليس فاسدا. كان التواصل بين البائع والمشتري تواصلا مباشرا. واقتصاد المقايضة كان يعني أيضا أن تواجه الشخص الذي تشتري منه السلعة في سياقه المحلي حيث يوجد من حولك شهود على عملية المقايضة هذه. الأزمة التي حدثت في عصر الأموال الإلكترونية اليوم أساسها فقدان هذا التواصل المباشر الذي أدى إلى فقدان الثقة. فالبيض الذي ثمنه جنيهان أو ثلاثة في حالة المقايضة تحول إلى سهم في شركة تبيعه بعشرة جنيهات، وتبيعه لشركة ثانية بعشرين جنيها، وتتباعد المسافة بين الشاري والبيض فيتحول السهم إلى خمسمئة جنيه، مما جعل لدى المشتري الأخير قلقا فهو لا يعرف مالذي اشتراه. يدفع خمسمئة جنية وفجأة يكتشف أنه اشترى بيضة. لذا بدأ الجميع اليوم يتردد ويتراجع لأنه لا يعرف ما الذي اشتراه في صورة أسهم اسمية. هذا، بتبسيط، هو جوهر الأزمة.

ظهور المؤسسات الحديثة للنقد، ألغى عنصري الزمان والمكان الملتصقين اللذين كانا من غير الممكن أن تتم المقايضة من دونهما، ففي اقتصاد المقايضة كان شراء سلعة يعني وجود فرد يبيع وآخر يشتري وجها لوجه بوجود شهود في مكان وزمان محددين. في غياب هذه العناصر الحاكمة للمقايضة، كان لابد من وجود قوة تحمي المؤسسات الحديثة للنقد، وكذلك لابد من وجود مؤشرات كثيرة أخرى تحدد قيمة العملة عند انتقالها من سوقها المحلية إلى السوق في سياق آخر، سواء كان الأمر يحدث في السياق الإقليمي أو في السياق العالمي. هذه المؤسسات الحاكمة لسير العملات، لابد أن تكون لديها الثقة عند العاملين بها والمتعاملين معها. إذن، نحن انتقلنا هنا من التواصل وجها لوجه في المكان نفسه والزمان ذاته، إلى التواصل غير المباشر بين الناس في أماكن مختلفة وكذلك أزمنة مختلفة، فكيف صدقنا أن ما يحدث هو فعليا محل ثقة؟

الحداثة الأوروبية قدمت لنا نظاما يمكن تسميته بنظام الخبراء الذي أدى إلى تركيز هذه الثقة، فرغم أننا لا نعرف العاملين في مصانع شركة «مرسيدس» للسيارات أو العاملين في شركة «هوندا» أو حتى «هونداي» الكورية، فإننا نثق في أن السيارة ستعمل إذا ما وضعنا فيها البنزين وأدرنا المفتاح وأن الفرامل ستكبح السيارة عندما نريد التوقف. ترى لماذا لدينا هذه الثقة في هذه الصناعات؟ كيف حدث ذلك، وهم أناس لا نراهم ولا نعرفهم؟ ما صدقناه هنا هو نظام الخبرات الحداثي المرتبط بعلامة «بوينغ» أو «هوندا» أو «مرسيدس»، صدقناه بناء على تجربة وممارسة مباشرة وغير مباشرة، وذلك أيضا له ثمن نقدي، أي أنه ذو قيمة مالية. ما حدث هنا هو انتقال أنظمة الثقة من المباشرة في المكان والزمان إلى ثقة الواسطة الفاصلة بين الزمان والمكان عن طريق أنظمة حداثية لاختبار المصداقية. والنقود الإلكترونية (Electronic Money) التي تنقل جبالا من الأموال إلكترونيا في ثوان عبر القارات خير مثال على ذلك.

تقلقل نظام الخبرات الحداثي هذا، هو الذي أدى إلى اهتزاز الثقة وظهور الأزمات المتعددة في الإقراض ونقص السيولة المصرفية والرهونات العقارية وأزمة البورصات، ومن ثم تفاقمها. الأزمة المالية الراهنة هي أزمة ثقة في المقام الأول. ومؤتمر قمة الدول العشرين الذي انعقد السبت الماضي في واشنطن كان هدفه الأساسي هو إيجاد آليات للثقة في المؤسسات المالية العالمية. فهل سينجح العالم اليوم في إعادة الثقة إلى مؤسساته المالية والاقتصادية؟ وهل سيجد طريقة إلكترونية ما يحدق فيها المشتري بعين البائع ليتأكد من مصداقيته قبل أن يضع المال في كفه الإلكترونية أيضا؟

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية- IISS

back to top