المشهد العربي: قراءة في الوجهين

نشر في 01-01-2009
آخر تحديث 01-01-2009 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري لا جدال أنه زمن رمادي هذا الزمن العربي... أين ينتهي الخيط الأسود؟ أين يبدأ الخيط الأبيض؟ ما مساحة السلب... ما مساحة الإيجاب؟ من يستطيع أن يخترق هذه الحقبة الرمادية العربية في هذا العصر المرعب؟ هل يعقل أن تكون الصورة بهذه الجهامة والقتامة؟ أم ثمة رادار مشوش ومشوه داخل جهاز التلقي والوعي العربي الفردي والجمعي يترجم كل المعطيات إلى بقع سوداء؟

لقد تحولت المنطقة العربية إلى سرادق للعزاء القومي من المحيط إلى الخليج. المناحة مستمرة والبكائيات هي الخطاب السائد.

إذا كان ثمة جيل عربي قد أخفق، فلماذا يصادر حق الأجيال الجديدة في الفرح، وفي الحياة، وفي محاولة البدء من جديد؟

عندما صرخ المرحوم نزار قباني متسائلاً «متى يعلنون وفاة العرب» هل كان يعبر عن يأس كل طفل عربي وشاب من الحياة، أم كان يعبر- فحسب- عن إحباطه الشخصي وإحباط جيله الكهل؟

هل من حق هذا الجيل العربي الكهل، جيل الهزائم، أن ينقل إحباطه لكل الأجيال وكل الأطفال؟

وليكن أنه ضحى وتحمل الكثير من الآلام؟ ولكن فشله ليس نهاية العالم وليس نهاية التاريخ، وليس نهاية الأمة.

ألم يكن خليل حاوي مبالغاً ومضخماً لذات جيله عندما قال: جيل عريق وحده... جيل عريق!

لماذا نصادر المستقبل؟ هؤلاء الذين يعبرون الجسر خفافاً من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد (والتعبير لحاوي ذاته) أليس من حقهم أن يمثلوا جيلاً عريقاً آخر... وربما أعرق؟

صحيح أن الوضع السياسي للأمة غير مريح، ولا يدعو إلى الاطمئنان، ولكن ماذا عن الجوانب الأخرى... هل هي أيضاً في مثل هذا السوء؟

وهل لدينا عنها تقييمات موضوعية؟

وماذا عن مستوى الشباب والشابات الذين يواجهون المستقبل الذي نصفه لهم بالكئيب والمظلم واليائس؟!

مازالت البشرية إلى يومنا تعيد النظر في تاريخها وتفنده وتمحصه في ضوء الأبحاث والمعطيات الجديدة، ونحن نتغذى- ونغذي أجيالنا الجديدة- بمقـولات تاريخية ورثناها من قديم، ولا ندري، أو ينبغي ألا ندري، مدى صحتها وانطباقها على واقعنا التاريخي الذي نتصرف على أنه كان «هكذا»... وعلينا إعادته بحرفيته!

ويتكاثر بين صفوفنا اليائسون «الانتحاريون» لأنهم يعيشون التناقض الحاد بين واقع معاصر شديد الاختلاف... وذلك «التصور» التاريخي الذي «انعجنوا» به... فيحاولون- يأساً وانتحاراً- إعادة إنتاجه... بلا جدوى!

منذ أكثر من عقدين من الزمن تم اكتشاف أثري في غاية الأهمية بأبعاد تاريخية وحضارية جنوب الرياض في المملكة العربية السعودية، وأصدر قسـم الآثار في جامعة الملك سعود، الذي درس ذلك الاكتشاف الخطير مجلداً مصوراً ضخماً عنه. كان ذلك الاكتشاف الخطير هو عاصمة إمارة كندة التي حكمها والد الشاعر الجاهلي امرئ القيس، وتقع على الطريق بين أواسط نجد واليمن. واتضح من الدراسات الأثرية أن أهلها، قبل خمسة قرون من ظهور الإسلام، عرفوا الكتابة والزراعة والري والنحت... إلخ، وجاء هذا موثقاً بالصور إلى جانب نتائج تاريخية وحضارية أخرى.

لكني لم ألمس، وبعد ربع قرّن، أن هذا الاكتشاف قد دخل «فكرنا التاريخي» بأي صورة من الصور. مازلنا نردد المقولة الشائعة بأن العرب لم يعرفوا غير فن القول... متمثلاً في الشعر!

وفي سوريا، وفي البادية السورية على وجه الخصوص، تتوالى الاكتشافات الأثرية، وتظهر المدن والحواضر القديمة بما لها من أبعاد تاريخية وحضارية، ولكن تاريخنا مازال يُكتب كما لو كانت تلك الاكتشافات لم تظهر في ضوء البحث التاريخي... ولو استنفدنا الكشوف الأثرية الجديدة في مختلف البلاد العربية لوجدناها تحمل الدلالات التاريخية نفسها، ولكن مثل هذه الكشوف ستبقى بلا فائدة طالما العقل العام لم يبلغ سن الرشد ولم ينتهج في التفكير النهج العلمي الموضوعي الذي لابد منه لبناء وعي سليم في عصرنا، واقتناص الحقائق العلمية المثبتة والبناء عليها.

وفي ظل قتامة الأوضاع السياسية، لا يرى إلا القلة التلاحم والتكامل التنموي الذي يتم بين مجتمعات تجزأت- موضوعياً- بحكم فراغات التصحّر المجدبة، كما لا يبصرون الأعداد الكثيفة من الأجيال الشابة العربية التي تنشأ في الجامعات- عربية وأجنبية- والمهارات والكفاءات التي صارت تمتلكها، والآمال الواعدة التي تحملها... والحديث يطول. كانت «دول» الخلافة- خصوصا في العصور الأخيرة- تمثل رابطة معنوية عاطفية فحسب، تفتقر إلى مؤسسات الدولة كالجهاز الحكومي وسواه من الأجهزة، وكان الناس يعيشون واقعياً وعملياً كلٌ في بوتقة قبيلته أو طائفته أو محلته. لـذلك لم يمر العرب والمسلمون، تاريخياً، بتجربة الدولة التي هي مدرسة السياسة، وهذا قد يفسر قصورهم السياسي.

وما نسميه بالدولة القُطرية، وهو الدولة الوطنية القائمة، هي أول تجربة للعرب في الدولة.

إن زمناً عربياً جديداً على وشك أن يشرق... وهو سيشرق شريطة ألا نتمناه نسخةً حرفيةً لماضٍ نتخيله!... فلا السلطان عبدالحميد سيعود، ولا الشاه عباس الصفوي!

هذا لا يعني البدء من نقطة الصفر.

نحن في عصر التكتلات الكبرى... ونحن- كعرب- نمتلك مقومات تكتل ضخم، علينا أن نعيد بناءه بالتسامح والحرية والعلم، وها هي ذي الصين- في البر الكبير وفي الجزيرة المحاذية (تايوان) تسعى بشتى الطرق المحببة على صعيد الحكومات، وليس الشعوب فحسب، إلى إعادة البناء من أجل وحدة الصين. وبرغم العداء الإيديولوجي والسياسي بين الجنوب والشمال في كوريا، فلا أحد في الكوريتين يجرؤ على المس بالأمل الكوري الثابت في الوحدة القومية.

وأمامنا الكثير من مسارات التجدد والتغيير والإصلاح. فلنكتشف ذلك كله.

* مفكر من البحرين

back to top