قهوة عربية
تتوزع مكونات القهوة العربية الرائعة المذاق على بلدان شتى، حتى تبدو وكأنك ترتشف جغرافيا وتاريخ العالم في فنجان يجسد كل تناقضات العصر الحديث.يرتبط احتساء القهوة بالعادات والتقاليد السائدة عند العرب كما عند غيرهم من الشعوب، فالقهوة هي مشروب مفضل يومي في بلدان العالم بالمناسبات المختلفة. وترتبط القهوة بالشعور الوطني العارم أيضاً، إذ يعرف كل من سافر إلى اليونان مثلاً أن طلب «قهوة تركية» من نادل الفندق أو المطعم سيعني مناقشة مطولة عن أن الاسم الصحيح لما تريد هو «القهوة اليونانية» وليس التركية. وعلى المنوال نفسه إذا تجرأت كمصري على طلب «قهوة تركية» في بلاد الشام، فستواجه فوراً بنظرات العتاب لأن القهوة عربية. وتختلف طريقة إعداد القهوة وطهوها في دول العالم المختلفة، حيث يعتاد الناس في الغرب على احتساء القهوة صباحاً بكمية فنجان كبير مع طعام الإفطار وبعضهم يعود لتناول فنجان كبير آخر بعد الظهر. ولكن القهوة العربية تختلف عن مثيلاتها الأوروبية والأميركية من حيث أن مذاقها وكميتها وطرق إعدادها تختلف، بل إن طرق تحميص حبات البن تختلف في القهوة العربية عن مثيلتها الغربية. وحتى داخل البلدان العربية نفسها تختلف طريقة إعداد القهوة؛ ففي مصر مثلاً يحتسي المصريون القهوة على التركية، أي بالحرص على وجود طبقة من الرغوة في الفنجان صغير الحجم، كدليل على جودة طهيها. وفي مناسبات اجتماعية بعينها مثل الخطوبة أو العزاء لابد من توافر الرغوة التي يطلق عليها المصريون «وِش الفنجان»، حيث لا يمكنك التلذذ بقهوة من دون «وِش»، أي وجه! وفي بلاد الشام يفضل العرب احتساء القهوة مُرة ومغلية ومن دون وجه وأيضاً بكميات أكبر من العرب في شمال أفريقيا. أما في الخليج فيتفنن العرب بإعداد القهوة بطرائق مختلفة، ولكن القهوة هنا تختلف عن مثيلاتها في شمال أفريقيا والشام من حيث مرارتها و«الفناجين» التي تقدم فيها التي يطلق عليها «استكان». سألت أحد أصدقاء الدراسة الخليجيين في أوروبا عن نوع القهوة الذي يفضل شراءه، فقال لي بتنهد مَن يسترجع ذكريات حلوة: إذا أردت شراء قهوة عربية طيبة المذاق فلتطلب «قهوة مزينة برية». حفظت الاسم في ذاكرتي لسنوات طويلة، ثم تحقق لي مؤخراً زيارة بلد خليجي فقررت عدم تفويت فرصة شراء قهوة عربية. يندر أن أزور بلداً من دون أن أعرج على مكانين: مكتباته ومحال إعداد القهوة فيه. تشترك دول الخليج في أشياء كثيرة فيما بينها، ومن هذه المشتركات طريقة إعداد واحتساء القهوة. طالما رافقت والدي إلى محال بيع القهوة العربية بالقاهرة ولاحظت الفروق بين حبات القهوة، وأنواعها بين بن غامق، وبن فاتح، و«قهوة محوجة» أي مخلوطة بالتوابل، و«قهوة سادة» أي طحين حبات القهوة من دون إضافة توابل. وفي محال القهوة الشهيرة بلبنان يمكنك أن تجد القهوة المخلوطة وفق نسق بعينه، مثل خلطة «الحاج يوسف» وخلطة «أم أحمد». ويجد البائع مقادير هذه الخلطات معلقة على الحائط بجوار ماكينة طحن حبوب القهوة؛ فيقوم بإعدادها على الطريقة المطلوبة. تدخل المحل في العاصمة الخليجية وتستمتع برائحة حبات القهوة المحمصة، مثل كل مرة تدخل فيها محلات بيع القهوة، ويحاول أنفك التمييز بين ذاكرة الرائحة في لبنان وسورية ومصر وتركيا والخليج. قابلني عامل المحل عند الدخول، عرفت من ملامحه وقسماته أنه تايلندي. سألني بعربية مكسرة عما أريد. قلت باختصار الكلمة التي حفظتها بالذاكرة لسنوات: قهوة مزينة برية. باحتراف قام العامل بكيل كيلوغرام من حبات القهوة الفاتحة اللون وأصلها من اليمن الشقيق، الذي يشتق اسم القهوة العربية «موكا» من الميناء الشهير فيه. حبات القهوة تم تحميصها لدرجة خفيفة مقارنة بحبات القهوة في مصر وبلاد الشام، يضيف البائع إلى حبات القهوة حبات الهيل الخضراء وأعواد القرفة والزعفران ثم يقوم بطحنها جميعاً حتى تصير مسحوقاً يضعه في أكياس يقدمها لك في النهاية. تذهب إلى مكان دفع النقود لتدفع لقاء ما اشتريت، فتجد عاملاً آخر يبدو أفريقي السحنة يتحدث العربية بصعوبة. تدفع ثمن القهوة وتغادر المكان سعيداً بما حصلت عليه. تجلس في بيتك بعد عودتك من السفر لتحتسي القهوة العربية على الطريقة الخليجية، إنها رائعة المذاق حقاً. تشرب بكميات قليلة مع تناول حبات التمر لتخفيف مرارتها المحببة. تتأمل في «الاستكانة» التي اشتريت، إنها بيضاء بخط ذهبي عند فوهتها ومشغولة بشكل تقليدي على الطراز العربي. تقلّب «الاستكانة» بين يديك فتجد نقشاً بالإنجليزية Made in China. تسترجع مكونات قهوتك العربية؛ الهيل، وموطنه الأساسي جنوب الهند وسريلانكا، ويزرع الآن في غواتيمالا وفيتنام وتنزانيا. أما القرفة، فبلدها الرئيس الصين، حيث وجدت هناك قبل ثلاثة آلاف عام، قبل أن ينقلها فاسكو داغاما من سريلانكا إلى أوروبا في القرن الخامس عشر للميلاد. كما أنه لإنتاج كيلو من الزعفران يحتاج المرء إلى عدد نباتات يتراوح من ثمانين إلى 150 ألف نبتة تزرع على مساحة ألف متر مربع، في حين يقضي العامل الزراعي يوماً كاملاً لقطف ما وزنه 60 غراماً. ويعد الزعفران أغلى التوابل في العالم ومناطق زراعته إيران وإسبانيا وإيطاليا وتركيا واليونان. تتوزع إذن مكونات القهوة العربية الرائعة المذاق على بلدان شتى، حتى تبدو وكأنك ترتشف جغرافيا وتاريخ العالم في فنجان يجسد كل تناقضات العصر الحديث. شرفت... تفضل قهوتك! *كاتب وباحث مصري