الطيب صالح

نشر في 22-02-2009
آخر تحديث 22-02-2009 | 00:00
 محمد سليمان لكل مبدع كبير عمل ما يرسّخ اسمه، ويصنع أسطورته الخاصة، ويصبح علامة عليه رغم صدور أعمال إبداعية أخرى له قد لا تقل أهمية أو فرادة، فرواية «المحاكمة» صارت علامة على الروائي التشيكي كافكا و«الحرب والسلام» علامة على الروسي تولستوي و«لعبة الكريات الزجاجية» على الألماني هيرمان هيسه و«العجوز والبحر» على الأميركي هيمنغواي و«الثلاثية» على نجيب محفوظ وقصيدة «الأرض الخراب» علامة على الشاعر الإنكليزي ت.س إليوت وقصيدة «في انتظار البرابرة» على الشاعر اليوناني كفافي. ورواية «موسم الهجرة إلى الشمال» صنعت أسطورة الطيب صالح المبدع السوداني الذي رحل قبل أيام، وصارت علامة عليه، وقد صدرت هذه الرواية عام 1966 في بيروت، واحتفى بها القراء والأدباء وأشاد بها النقاد، وفي مقدمتهم رجاء النقاش الذي كان مسلحا بحس نقدي صادق ومتفرد مكنه من اكتشاف وتقديم العديد من الشعراء والكتّاب في الخمسينيات والستينيات والدفع بهم إلى واجهة المشهد الإبداعي.

وفرادة موسم الهجرة إلى الشمال تأسست في تقديري على انشغالها بالعلاقة الملتبسة بين الأنا والآخر وبين الشمال والجنوب والجديد والقديم، وعلى بطلها الإشكالي مصطفى سعيد وعلاقته الملتبسة بذاته وهويته، فهو المنتمي للتراث والأرض والنيل وحكايات الأجداد وأساطيرهم، وهو أيضا اللامنتمي- اليتيم العاجز عن الارتباط الحميم بأمه أو بزملاء مدرسته وهو المسلح بعقل لامع واستثنائي وبقلب لا يعرف الحب أو يعترف به- شبكة من العلاقات الملتبسة تشكل محور الرواية وتجبر القارئ على الغوص والتأمل ومتابعة رحلة البطل الطفل من قريته في السودان إلى الخرطوم إلى القاهرة فلندن، وهي الرحلة التي تتم وتتطور بمباركة الآخر الإنكليزي القاهر والمحتل والغازي والقادر على تبديل المصائر، فهو الذي حمل البطل الطفل إلى المدرسة من قريته، وعندما اكتشف ذكاءه وتفوقه دفع به إلى القاهرة، ثم لندن ليواصل دراسته ويصبح أستاذا للاقتصاد، ولكي يصطدم بعالم هذا الآخر الغازي قاهر الجنوب «هذا عالم منظم بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقا لخطة... الغدران لا تتعرج بل تسيل بين شطآن صناعية والقطار يقف في المحطة بضع دقائق فيخرج الناس مسرعين ويدخلون مسرعين لا ضوضاء». هذا العالم الجديد والمتقدم يُشعر البطل بعجزه وضآلته ويستفزه في الوقت نفسه، ويدفعه للانطلاق ومحاولة ردم الهوة بين الأنا والآخر، ويفضي أيضا إلى انشطار الذات إلى نصفين: أولهما، ثائر على الآخر المذل والقاهر وكاره له وراغب في الثأر والانتقام، والثاني، متعاطف معه مقدر لتحضره وتقدمه «هناك مثل هنا لا أحسن ولا أسوأ، وكونهم جاؤوا إلى ديارنا فسيذهبون إن عاجلا أو آجلا كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة، وستبقى سكك الحديد والمصانع والمدارس والمستشفيات».

هذه العلاقة الملتبسة والمؤسسة على الكره والتعاطف تحدد شكل الصراع وتحول البطل إلى غاز من نوع مختلف يهمّش العقل لأنه سلاح الشمال المتقدم، ويلوذ بسلاح البداوة محولا نفسه إلى زير نساء يغوي ويعد بالزواج، ويذل ويغش ويخدع... سلاحه الجنس والأساطير والحكايات الخرافية والأكاذيب، أيضا «أنا صحراء الظمأ متاهة الرغائب الجنونية سألتني عن بلدي فرويت لها حكايات ملفقة عن صحارى ذهبية الرمال وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها وشوارع العاصمة التي تعج بالأفيال والأسود... كانت حية تحن إلى مناخات استوائية وشموس قاسية، وآفاق أرجوانية، وكنت في عينها رمزا لكل هذا الحنين».

وكان من الطبيعي أن تسفر مواجهة أُسست على الكذب والغواية وانتحال الأسماء والوعد بالزواج وانتحار ومقتل خمس نساء باعتقال البطل ومحاكمته وبقاض يقول له: «أنت يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوقك العلمي، رجل غبي وفي تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس– طاقة الحب». ثم يأمر بسجنه سبع سنوات ليخرج بعدها إلى الضياع والتشرد في مدن أوروبية عديدة قبل أن يقرر العودة إلى الجذور وشراء أرض في إحدى القرى السودانية المغمورة، والزواج من فتاة ريفية والعمل كالآخرين فلاحاً، ولكي يقابل الراوي العائد من لندن بعد انتهاء دراسته للشعر الإنكليزي، ولكي يختفي بعد اجتياح الفيضان لمزارع ومنازل القرية تاركاً للراوي أوراقه ومذكراته، وأمر رعاية ولديه وممتلكاته، وهذا الاختفاء ملتبس بدوره، فالفيضان أغرق البعض لكن البطل يجيد السباحة، ولعله اختار الانتحار بعد عودته من الشمال تاركاً هناك نصف ذاته وقبر فتاة صغيرة، كانت تدرس اللغات الشرقية في الجامعة وأحبته وانتحرت بسبب خداعه وأكاذيبه.

هذا البطل الإشكالي وشبكة العلاقات الملتبسة منحا الرواية زخما وتوهجا جعل منها واحدة من أهم الروايات العربية، فقد تناول الطيب صالح علاقة الأنا بالآخر والشمال بالجنوب والشرق بالغرب من منظور جديد ومختلف، فلم يسر وراء المبهورين بالغرب ولا خلف الثائرين عليه، والذين يحملونه تبعة ضعفنا وتخلفنا «إذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا». يقول بطل الرواية ليؤكد مسؤوليتنا عن تردي واقعنا وتشبثنا بالأكاذيب والخرافات.

بالإضافة إلى هذه الرواية صدر للطيب صالح أعمال إبداعية أخرى لا تقل أهمية منها: عرس الزين، ومريود، وضو البيت، ودومة ود حامد، وبندر شاه... وكلها تؤكد أصالة الكاتب الراحل وتفرده.

* كاتب وشاعر مصري

back to top