الكلمات وسحرها

نشر في 15-03-2009
آخر تحديث 15-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان للكلمات سحرها وبريقها وقدرتها على الإغراء والإغواء، وقد كان الشعراء ومازالوا حراساً لها، وعشاقاً يهيمون بها، ويضيفون إليها ويزهون بقربهم منها وامتلاك بعض أسرارها، فالمتنبى يزهو بذاته وموهبته وهيمنته على الكلمات معلناً في شعره أنه ينام ملء جفونه، تاركاً للآخرين السهر والكد والتأويل، وأبو تمام يرد على من سأله «لماذا تقول ما لا يُفهم؟» قائلاً «وأنت لماذا لا تفهم ما يُقال؟» ولأنني كنت في صباي مغرماً بالقصص الخرافية والأساطير وحكايات شيوخ القرية عن الشياطين والعفاريت والجنية التي تخرج من النهر عارية في الليالي المقمرة لتشاكس وتغوي، فقد بهرني الأعشى ببيته الشهير الذي يقول فيه:

«وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاوٍ مشلٌ شلولٌ شلشلٌ شولُ»

وحسبته يتحدث عن شياطينه الخمسة الذين يتبعونه ويقومون بنظم شعره، ولم أعرف إلا بعد أعوام أن الشاعر كان فقط يتحدث عن مُتعه وشوّاء اللحم «الكبابجي» الذي يتبعه ويصفه بالمهارة والخفة وسرعة الحركة، وكان في الوقت نفسه يستعرض مهاراته، ويلعب بحرفي اللام والشين لكي يسحر ويغوي ويتشبث بالذاكرة أيضاً:

«هل أنت وديع مثل نجيل الممشى

ومطيع كالجندي وظل الباشا

أعني لا تعرف إلا

هَشّ وبَشّ وغَشّ وماشي

وتطل من الشاشات لكي تتشبث

بالعينين رمدٍ؟

أم أنت الشاعر تسهر كي تصطاد فراشاً

أو تلهو بالشينات وتشدو

مثل الأعشى

كي تُبعد موتاً».

حتى الآن مازال جرس الكلمة وحمولتها الصوتية يشد الشعراء ويدفعهم إلى البحث عن كلمات مناسبة وأطر نغمية جديدة، تمنح العبارة قدراً من التماسك والتوهج والسحر، وقد كان الشاعر الإنكليزى ديلان توماس الذي اختلف النقاد في تفسير شعره، واتفقوا على أنه أحد كبار شعراء القرن العشرين، يعتقد أن القصيدة على الورق نصف قصيدة، وأن قراءتها بصوت عال تمنحها حياتها وتوهجها وتكشف قيمتها الفنية، وهذا الكلام يردنا مرة أخرى إلى جرس الكلمة والطاقة الصوتية الكامنة فيها، وإلى موسيقى الشعر الظاهرة أو المتوارية، وفي حوار له، ترجمه القاص والمترجم أحمد عمر شاهين ونشره في كتابه «عن جنون أزرا باوند وآخرين» يقول ديلان توماس «أردت كتابة الشعر لأنني وقعت في حب الكلمات... وأول قصيدة عرفتها كانت قصيدة أطفال، وقبل أن أستطيع قراءتها بنفسي أحببت كلماتها... الكلمات فقط أما ما تعنيه هذه الكلمات أو ترمز إليه أو تعبر عنه فكان ذا أهمية ثانوية جداً، وما أثارني وشدني كان جرس الكلمات الذي بدا لي كرنين الأجراس، وأنغام الآلات الموسيقية، وكأصوات الريح والبحر والمطر».

هذا الاحتفاء بالجرس والقيمة الصوتية للكلمة نجده أيضاً في كتابات المبدعين والنقاد العرب والأجانب، فالشاعر والناقد الأميركي أرشيبالد ماكليش يتحدث في كتابه «الشعر والتجربة» عن اختيار الشاعر لكلماته، وعن الكلمات التي تُستخدم كأصوات، أي بسبب جرسها والطاقة النغمية التي تشحن بها النص الشعري.

من ناحية أخرى هناك شعراء يعتبرون التشبث بصوت الكلمة وجرسها نوعاً من الحنين إلى الماضي، وعائقاً يصد المبدع عن التجريب والتجديد، فبيان الحركة المستقبلية الذي صدر قبل قرن في إيطاليا دعا الشعراء إلى الخروج عن الوزن والقافية وقواعد تركيب الجملة، وحض الجماهير على قطع علاقتهم بالماضي، ومن ثم تدمير المتاحف والأكاديميات والمكتبات وكل ما يشد إلى الوراء أو يُذكر بالقديم، وكان زعيم الحركة هو الشاعر الإيطالي مارينيتي المولود في الإسكندرية عام 1876، ولم تنجح الحركة في تحقيق أهدافها وإحداث قطيعة إبداعية ومعرفية مع الماضي، والبدء من نقطة الصفر، فظلت المتاحف والمكتبات، وظل الشعر ملتصقاً بالموسيقى، والشعراء مشغولون بابتداع نغمات جديدة قادرة على الإمتاع، وظلت الكلمات غاية ووسيلة في الوقت نفسه لتجسيد السحر وإبراز موهبة الشاعر.

قبل أكثر من عقدين أعلن الحداثيون من شعراء قصيدتي النثر والتفعيلة أنهم لا يكتبون قصائد مهرجانية تصلح للإلقاء في المؤتمرات والمهرجانات، وهاجموا جماليات الإلقاء، مؤكدين أن الشعر الجيد يلوذ بورق المجلات والدواوين وبقارئ من نوع خاص، لكنهم في السنوات الأخيرة يقاتلون من أجل المشاركة في المؤتمرات والمهرجانات الشعرية، ربما لأنهم اكتشفوا أن إلقاء قصيدة جيدة في مهرجان ما يؤكد حضور الشعر والشاعر، وأن القصيدة على الورق هي نصف قصيدة كما قال ديلان توماس، وأن قراءتها بصوت عال يفجر السحر ويضاعف المتعة.

* كاتب وشاعر مصري

back to top