زمن جميل مضى

نشر في 12-05-2009
آخر تحديث 12-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان في الزمان والمكان يرحل المبدعون والكتّاب مسلحين بالماضي القريب والبعيد، حالمين بالمستقبل ومشتبكين عادة مع الحاضر الذي لا يرون منه غالبا سوى بعض جوانبه بسبب انحيازاتهم الفكرية والإبداعية والسياسية. ولا يملك المبدعون في الواقع سوى الماضي القابع في الذاكرة وعلى رفوف المكتبات وفي الشوارع والمتاحف، يفتشون فيه ويشدون منه لكي يكتبوا قصائدهم وقصصهم وسيرهم، ولكي يصدوا جهامة الواقع وقبحه وقسوته بالحنين إلى زمن جميل مضى، فأبو العلاء المعري الذي عهدناه قلقا وشاكا ومتشائما وغير مقبل على متع الحياة يهزه الحنين إلى صباه فيقول في إحدى قصائده:

«منك الصدود ومني بالصدود رضا من ذا علي بهذا في هواك قضى

لو أن ما بي غدا بالشمس ما طلعت من الكآبة أو بالبرق ما ومضا

إذا الفتى ذم عيشا في شبيبته فما يقول إذا عصر الشباب مضى

وقد تعوضت عن كل بمشبهه فما وجدت لأيام الصبا عوضا».

الحنين للصبا ومباهجه واستعادة رحلة الكد والمعاناة والحنين للمكان وجمالياته يهيمنان على شعرنا وأدبنا القديم والحديث، فالمكان ذاكرة أخرى أكبر وأعمق مسكونة بصور الماضي وأحداثه وثقافاته، لذلك يتشبث الكتّاب والمبدعون به ويذوبون فيه، ويرونه أحيانا جسدا للنفس، وملاذا كما يقول ابن الرومي:

«ولي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا

فقد ألفته النفس حتى كأنه لها جسد لولاه غودرت هالكا».

ويختلف الاتكاء على الذاكرة والسفر في الماضي لاستدعاء تفاصيله وأحداثه من كاتب إلى آخر، فالشاعر قد يستدعي صورة أو حادثا ينطلق منها ويؤسس عليها نصه الشعري، ولا يلزم نفسه بالتفاصيل أو بالسفر الخطي في الزمن، بينما يتجلى ذلك السفر والاعتماد على التفاصيل في كتب وروايات السيرة. فطه حسين في كتابه الشهير «الأيام» يقدم للقراء بطله الطفل والصبي والشاب ورحلة معاناته في المراحل العمرية المختلفة بالإضافة إلى صور المجتمع في تلك المرحلة.

وقد صدر قبل أيام كتاب «زمن جميل مضى» للناقد جابر عصفور عن سلسلة «كتاب اليوم» يقدم بالإضافة إلى فصول من السيرة الذاتية لمؤلفه صورا أخرى للمكان والمجتمع خصوصا في الستينيات حقبة التأسيس الثقافي والمعرفي والمد القومي وأحلام الصعود والنهوض ثم الانكسارات وهي أيضا الحقبة التي تشكل فيها وعي أبناء جيلي الذين كانوا أطفالا في الخمسينيات، وانتقلوا من القرى والمدن الريفية إلى القاهرة في الستينيات لاستكمال رحلة التعليم تحت رعاية عبدالناصر، وبالقرب من طه حسين وتوفيق الحكيم وعبدالحليم حافظ الذي فتنا بأغانيه في ذلك الوقت. ويقول جابر عصفور في مقدمة كتابه «أعترف أن تذكري لمشاهد هذا الزمن الجميل الذي مضى لا يخلو من معنى الإدانة للحاضر والرفض للأسباب التي انقلبت بالجمال إلى قبح وبالمعرفة إلى جهل وبالاستنارة إلى الإظلام» ويحدثنا جابر عن مدينته «المحلة» ومكتبات المدارس والبلدية وعن زملائه وأصدقائه الذين سحروا مثله بالإبداع والثقافة وانتقل معظمهم إلى القاهرة معه أو بعده ليصبحوا مبدعين ومفكرين، منهم سعيد الكفراوي، ومحمد صالح، ونصر أبو زيد، ومحمد منسي قنديل، ومحمد فريد أبو سعدة. وعن انبهاره بطه حسين والتحاقه بكلية الآداب جامعة القاهرة لدراسة الأدب العربي بسبب ذلك الانبهار، وعن زيارته للعميد في منزله بصحبه أستاذته سهير القلماوي.

وقد لون ذلك الانبهار رحلة جابر عصفور الحياتية والفكرية فكتب في الثمانينيات واحدا من أهم كتبه عن طه حسين هو «المرايا المتجاورة» وانشغل بالنقد وبقضايا التنوير والدولة المدنية وسيادة العقل تماما كأستاذه. ويحدثنا جابر عن القاهرة الخديوية والطرز المعمارية الجميلة التي تهيمن على وسط المدينة وعن الخديوي إسماعيل الذي سعى إلى بناء باريس أخرى على النيل، وهو الحاكم الذي قدر ذكاءه وطموحه إدوارد ماليت الذي عاصره والتقى به، وتحدث بإسهاب لتحديث مصر في كتابه «مصر وكيف غدر بها» الذي ترجم وصدر قبل عقود وضاع من الذاكرة للأسف اسم المترجم. «الموتى لا ذاكرة لهم» أقول في إحدى قصائدي وفي القرى يدعون لك قائلين «تعيش وتفتكر» عندما تتحدث عن الماضي أو تتذكر أحد الراحلين، فالاتكاء على الذاكرة إثراء للحياة واستنفار لطاقات الروح والجسد لمقاومة جهامة الواقع وقبحه.

وجابر يحدثنا في الذكرى الثلاثين لوفاة عبدالناصر قائلا: «لا أعرف لماذا اكتسحتني الذكريات الناصرية قوية وعنيفة هذه المرة هل لأنها الذكرى الثلاثون لوفاة البطل الذي كنا نرى فيه الأب والقائد والزعيم والحامي الذي لم ننظر إليه على أنه حاكم قط؟ أم لأن الكثير والكثير من الفساد الذي نشهده متجسدا في رموز السياسة المعاصرة يوقظ في ذاكرتنا صورة القائد الزاهد الذي لم يعرف عنه أحد فسادا؟».

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top