شلالات الصور

نشر في 01-05-2009
آخر تحديث 01-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان الصور أكثر التصاقاً بالذاكرة من الكلمات والعبارات وأقدر على التأثير والإقناع، لذلك تحدث بعض المفكرين والمنظرين عن تراجع سُلطة الكلمة وقدرتها على التأثير والتوجيه وبروز سلطة الصورة وتصاعدها، خصوصا بعد ثورة الاتصالات التى مكنت الصور من إنهاء العزلة واقتحام الحدود والمنازل وإيصال الرسائل نفسها إلى الناس هنا أو هناك.

قبل أكثر من قرن ظهرت السينما لتضيف إلى الفنون المعروفة فناً آخر ساحراً وجديداً مادته الصورة ثم ظهر التلفزيون أحد أهم وأخطر مخترعات القرن الماضى، والذي تطور وانتشر وغزا المدن والقرى والكفور، واحتل موقعاً متميزاً في المنازل ليقود التحول ويرسخ سُلطة الصورة بالأفلام والمسلسلات والإعلانات والأخبار المُصورة، ولكي يواجه الإنسان بكل مشاكل العصر وقضاياه، وبسبب السموات المفتوحة وتكاثر الفضائيات لم يعد هناك ما يُستر أو يُوارى وأُجبر إنسان زمننا على العيش وسط غابة من الشاشات وشلالات الصور مشوشاً ومرتبكاً وحائراً وعاجزاً أيضاً عن المتابعة.

«هل تملك ست عيونٍ

أو سَبْعاً

أو عشراً

لترى.. وترى وترى وترى؟

أم تجلس كالتمثال على كرسيٍّ

وتُضّيق عيناً بعد الأخرى

لترى العالم صوراً

والشاشات كشلالاتٍ؟».

هذه الشاشات جرّت الإنسان خصوصا الأمي والقروي والبعيد من عالمه الصغير إلى بؤرة الأحداث، وأشركته بشكل أو بآخر في معظم قضايا ومشاكل العصر المُثارة كالحرب والسلام والإرهاب والعولمة والأزمة المالية والفساد والكساد وتلوث البيئة والاعتصامات والاحتجاجات وغيرها، كما ساهمت بالنصيب الأكبر في ترسيخ شهرة عدد كبير من كتاب جيل الرواد بعد تحول معظم أعمالهم الروائية والقصصية والمسرحية إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية منهم طه حسين، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، ويوسف إدريس، وكان لشاشة التلفزيون الفضل الأكبر في هذا المجال بسبب قلة دور العرض السينمائي وخلو آلاف القرى منها، وفي المقابل لم يحظ معظم كُتاب الستينيات والسبعينيات بدعم الشاشة بعد انصراف السينمائيين الجُدد عن الأعمال الأدبية وانشغالهم بالسينما التجارية والكوميديا السطحية والفجة أحياناً، لذلك لا يعرف الناس في القرى والأقاليم والأحياء الشعبية أسماء جمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وبهاء طاهر، ومحمد مستجاب، وخيري شلبي، وإبراهيم أصلان، وإبراهيم عبدالمجيد، ومحمد المنسي قنديل، وعبدالحكيم قاسم، ومحمد البساطي رغم صلاحية الكثير من رواياتهم وقصصهم للإنتاج التلفزيوني والسينمائي.

وكما رسخت الأفلام والمسلسلات اسم وشهرة نجيب محفوظ وزملائه في الذاكرة الشعبية، رسخت السينما العالمية أسماء وشهرة العديد من كتاب العالم الكبار منهم تولستوى، وديستوفيسكي، وتشيكوف، وهيمنغواي، وشتاينبك، وغونترغراس، ودورينمات، وكازانتزاكيس، وآرثر ميللر وغيرهم.

وفي كتابه «أدباء العالم والسينما» الصادر عن هيئة الكتاب المصرية 2008 يتحدث الناقد سمير فريد عن ثلاثة أنواع من العلاقات بين السينما والأدب، النوع الأول: فيلم يهتم فقط بترجمة العمل الأدبي إلى لغة السينما بدعوى احترام النص والنوع الثاني: فيلم يستغل شهرة العمل الأدبي لأغراض تجارية ثم النوع الثالث الذي ينحاز إليه المؤلف وهو الفيلم الذي يعتبر العمل الأدبي مصدراً للإلهام ويجد فيه صانعه ما يُعبر عن ذاته ويفجر ينابيع إبداعه وإلى هذا النوع ينحاز أيضاً الناقد د. جابر عصفور في الكلمة التي قدم بها الكتاب عندما يقول: «من حق المخرج أن يستوحي فكرة أو تيمة من العمل الأدبي ومن حقه أن يجمع بين أكثر من عمل وأن يقدم النص القديم في رؤية عصرية».

عالم الصور الذي نعيش فيه ليس وردياً ولا مُبشراً بالأفضل دائماً، ففي الخمسينيات والستينيات قبل ظهور التلفزيون وانتشاره، وقبل انهمار كل هذه الصور كانت القرى تعتمد على نفسها تماماً وتنتج بالإضافة إلى طعامها فنونها الشعبية المختلفة كالرقص الشعبي، والأغاني والمواويل، والموسيقى، والحكايات والأمثال، ومسرح السامر والفرجة الشعبية وهذا الإبداع الشعبي الذي كان يُميز ويُثري الحياة المصرية جرفته شلالات الصور فانحسر وتوارى وتوارت معه بعض أهم ملامح الهوية.

* كاتب وشاعر مصري

back to top