المفكِّر هاني فحص: خطورة العولمة على الإسلام شكلاً وعلى المسلمين واقعاً ومضموناً

نشر في 18-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 18-09-2008 | 00:00
No Image Caption
لا يستطيع محاور أو قارئ المفكّر الشيعي، اللبناني الهوية والانتماء، السيد هاني فحص إلا التوقف طويلاً عند كل كلمة وعبارة، فبين الفكرة الأولى والفكرة الثانية تستوقفك فكرة ثالثة جديدة، لا تشبه ما سبقها أو ما يليها. هو أشبه بالرجل الموسوعة، الذي لم يفته تفصيل في الدين والسياسة والاقتصاد والأدب، وهو من الرواد الأوائل في مجال الحوار المسيحي الإسلامي في لبنان. من خلفية نضالية غنية، يسهب فحص في حديث لـ{الجريدة» في شرح وجهات نظره، مفنّداً الوقائع ومفسّراً الآليات التي من شأنها أن تحدث نهضة العالم الإسلامي على المستويات كافة.

كيف تنظرون الى التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي، على أكثر من مستوى، في عصر العولمة؟

هذا التعميم، العالم الإسلامي، سليم ولكن الى حد ما، لأن داخل هذا العالم عوالم، تمر بها التحديات العامة، لكنها تواجه تحدياتها الخاصة. ليس من المجدي، كما لم يكن مجدياً سابقًا، تخطّي الخاص، ولا الاستقالة من العالم بذريعة الخاص. مثلا، تختلف تحديات افريقيا السوداء عن تحديات شمال افريقيا ووداي النيل أو القرن الافريقي...كذلك الامر بالنسبة الى آسيا العربية والإسلامية من بلاد الشام، الى العراق واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي وايران وتركيا والباكستان... كل بلد من تلك البلدان يعيش تحديات خاصة مثل فلسطين والاحتلال، ولبنان والتعدد المسكون باحتمالات الحرب لأسباب داخلية وخارجية، وبشكل دوري ما يتصل بواقع التعدد الديني أو المذهبي أو الاثني في كل الكيانات، وهو يؤشر على احتمال انفجارات تنزل بالانقسام السياسي الى حالة من الانقسامات الاجتماعية الحادة التي تهدد بسقوط فكرة الدولة ودورها الجامع، وتحويل تلك الكيانات الى كيانات مجزّأة يبقى كل جزء منها مهدداً بمزيد من التجزئة وسريان العدوى باستقواء السلطة على مكونات الاجتماع والدولة واستقواء المكونات على الدولة. ينتهي ذلك الى إسقاط دائم ومتبادل بين الدولة والمجتمع، بما يحمل ذلك من مخاطر استشراء الكوارث التي تفاقم من حالة التخلّف، وتحوِّل الثروات الى جهالات، والمعرفة الى فقر مدقع، والعودة الى التطرف كردٍّ على التحدي من دون ضمان من أن يتحول هذا التطرّف الى إرهاب داخلي.

أعتقد أن التحديات الوجودية تفاقمت على مدى طويل، والآن على مفترق العولمة وتجديد الاستعمار بصيغة امبراطورية أميركية، وإن تكن مأزومة، تلك التحديات تبلورت بصورة تشير الى إمكان حصول كارثة إن لم تحدث تحوّلات او تحويلات تقترب من المعجزات. مرّت أمم قبلنا بتحديات مماثلة وأعظم منها، لكنها نهضت على رغم كل ما تعرضت له من انكسارات، وفي هذا الإطار أمامنا تجربة اليابان التي قام فيها أول مشروع تحديثي واقعي... كان بإمكان إيران أن تسبق الجميع في ضرب المثال في هذا المجال، نظراً الى ثرواتها العظيمة، إلا أن العقائدية سيطرت على عقلها، فذهبت الى حالة من التطرف والتعصب والنزوع القومي الى محاولة الهيمنة على ما ومن حولها، والى تضخيم تعارضاتها مع الغرب وأميركا خصوصاً، مترافقاً مع غباء وخبث أميركي في التعامل معها، ما جعل المنطقة على حافة خسارة ما اكتسبته، على قلّته، ومضاعفة خسائرها وفقرها وتخلّفها وتطرّف أجيالها المحبطة.

هذا في حين أننا ما زلنا نعتبر هزائمنا انتصارات، وكلما انهزم زعيم فينا حوّلناه الى زعيم خالد، وبدل أن نضيق المقدس، كان إصرارنا على إرسال مقدسات الى السماء على حساب الأرض والسماء معاً، وهذا يعيدنا الى مسألة أساسية والى السؤال عن نظامنا المعرفي وعن ضرورة نقده وتجديده كشرط للنهضة، وهو ما لم يحصل، في حين انصبت جهودنا على تغيير النظام السياسي، على الانقلاب، فأسقطنا ديكتاتوريات ولم تقم لنا ديمقراطيات بعدها، وأسقطنا فكراً متخلّفاً ليتبين لنا أن الفكر التقدمي أكثر تخلفاً.

تحدينا الأول والعمومي والذي يتجسد في تفاصيل وخصوصيات تناسب كل بلد من بلداننا هو الكف عن تقديس الذات وأبلسة الآخر، والكف عن استرجاع الماضي وكأنه المثال الأمثل، وأن نختار النسبية نهجاً في المعرفة وفي العمل، وأن نلتفت الى أنه لا بد من إنجاز كياناتنا الوطنية أو المحلية، قانوناً ودولة واجتماعاً بالديمقراطية، ديمقراطيتنا، وبالتنمية لنحقق ما تلزمنا به عروبتنا أو عربيتنا وإسلامنا، وننجز كيانات عربية وإسلامية تنمو معاً بشكل فيه درجة من التكافؤ والتناظم والتكامل، بحيث يصبح طموحنا مشروعاً الى حالة كحالة الاتحاد الأوروبي الذي قام على أساس كيانات متكاملة لا وحدة متوهمة، تحت سقف القانون والحرية وحقوق الانسان والقطيعة مع الحروب القديمة.

هل تعتقدون أن العولمة تضع الدول، ومن ضمنها الإسلامية والعربية، في حالة من المواجهة معها؟

الدول والمجتمعات كافة تكون في مواجهة مع العولمة أو لا تكون، أي كما تشاء، وإن كانت الدول الصغيرة أو الضعيفة أو الفقيرة أو المتوترة أكثر تأهلاً من غيرها للمواجهة، باعتبار أن العولمة كواقعة جارية منذ زمن بعيد وتصاعدت وتيرتها بتصاعد وتيرة التقدم العلمي الذي فتح الحدود، وهو في طريقه الى إلغائها، وأن جريانها بدأ من الدول الكبرى حسب تراتبها، وفي رأسها الولايات المتحدة، بسبب سبقها العلمي، الذي أتى من هيمنتها، ولكن ليس من الهيمنة وحدها، بل من انشدادها الى المستقبل، مع وجود ماض مخفف غير ضاغط.

على هذا الأساس، أساس السبق العلمي الذي يحقق القوة، تصبح دول المنشأ للعولمة أقل مواجهة معها، أما الدول الاخرى فهي أمام خيارين: خيار الإفادة من حسنات العولمة وخيار الوقوع في أضرارها المدمّرة، ومن أضرارها تحطّم النواظم الجامعة، من الدولة الى الكيان الى الوطن الى المدينة الى الجامعة الى المصنع الى العائلة الى كل الجوامع، وتحول المجتمعات المعولمة بسبب ضعفها وتخلفها وتوترها الداخلي الى أفراد يستهلكون كل شيء من الفن الى العلم والتكنولوجيا والبيئة والدين...أما حسنات العولمة فهي المشاركة في أولياتها ووقائعها للحفاظ على الوجود، وهذا لا يتأتى إلا بالطموح الى تحسين أو تجديد أو تغيير الشروط الذاتية والموضوعية في واقعنا لدفعه باتجاه امتلاك القدرات العقلية والعلمية والجسدية للدخول في مشروع نهضوي يرفع قدرتنا الى مستوى فرض أنفسنا كشركاء. هذا أمر يمر في كل شيء وفي شروط علمية وتنظيمية وحوارية كبيرة وعظيمة. في النهاية لا بد من تنتهي قسمتنا لأنفسنا وقسمة الغرب لنا بين اثنتين: إما عملاء وإما أعداء...فهل نريد ونعمل على رفع حالنا الى مستوى أصدقاء، بما تعني الصداقة من شراكة.

خطورة العولمة على المسلمين وليست على الإسلام، او هي على الإسلام شكلاً وعلى المسلمين واقعاً ومضموناً...علينا إنقاذ أنفسنا بالإسلام من خلال فتحه على الحياة والمعرفة.

أدّت أحداث 11 (سبتمبر) أيلول الى ربط الغرب الأعمى بين الإسلام والإرهاب، هل يمكن القول إن للإرهاب انتماءً دينيًّا؟

صحيح أن الغرب يفعل ذلك، ونحن أيضاً نربط بين الإرهاب والمسيحية واليهودية، من الحروب الصليبية وحروب الإبادة تحت مظلة الكنيسة على مدى تاريخ طويل، الى حركة الاستعمار الى فلسطين. لكن لا بد من الانتباه الى أمر في غاية الخطورة وهو أن هناك اتجاهاً يضم مسلمين ومسيحيين ويهوداً وغيرهم وبدأوا يوجهون تهمة الارهاب الى الدين نصاً وسلوكاً... بمعنى أن من يريد أن يكون إرهابياً بمسوّغات دينية، يستطيع قراءة النص الديني قراءة إرهابية، ما يعني أن علينا أن نقرأ النص قراءة اخرى، وإن كانت فرصة القراءة الأخرى في بعض النصوص، فلا حلّ إلا التمسّك بتاريخيتها وارتباطها بظروف ومعطيات مختلفة عن الواقع المعاش.

لا بدّ من أن نلاحظ أن خمسة قرون من تاريخ أوروبا المسيحية كانت قرون الحروب الدينية، الى أن حصلت القطيعة معها من خلال الدولة الحديثة وتطور العلاقات الداخلية بين الدول من خلال الاتحاد الأوروبي، وإن كانت هناك بعض التوترات التي لا تزال قائمة بين بعض المذاهب المسيحية. من هنا، يضع الغربيون 11 سبتمبر على عاتق الإسلام والثقافة الإسلامية، ويضع الإسلام على عاتقنا أن نجترح رؤية وسلوكاً يثبتان عكس ذلك.

في هذا السياق، هل ينبغي على المثقفين والنخب المسلمة العمل لتوضيح صورة الإسلام الحقيقي؟

كل محاولات إظهار الوجه الحقيقي للإسلام أمام الغرب كانت محكومة بعقدة الغرب، إضافة الى أنها كانت ذات نوايا نهضوية أو تقدّمية او تجديدية، لكن استغراقها في تسويغ الذات مقابل الغرب، بما ينطوي على اندهاش بالغرب، أدى الى قطعها عن مسارها وتحويلها الى سلاح في أيدي السلفية أو الماضوية. هكذا نجد أثر محمد عبده عند بن لادن مثلاً، بينما كان ينبغي أن يكون التوجه مختلفاً، وهو إظهار الإسلام الحقيقي أو حقيقة الإسلام بالمقارنة التكاملية مع الغرب، اي اكتشاف المساحات التي يمكن أن نشارك فيها، والإصرار على مدنية الإسلام، لا في مقابل مدنية الغرب ومع الاختلاف عنها، أي الاختلاف التكاملي لا الإلغائي. هذا الكلام الآن، قوله وتطبيقه، أصعب بكثير من الماضي، من أيام رفعت الطهطاوي، لكن لا بد من أن يقال على رغم كل حماقات الغرب وانفعالات الشرق، وتوترات المسلمين، وإن كان مشكوكاً في جدواها إن لم تعقلن ويعقل الغربيون.

هل يمكن القول إن ثمة محاولات جادة تجري في هذا الإطار؟

هناك محاولات جادة فعلاً، لكن الأحداث والسجالات اليومية والتوترات المتفاقمة تغيبها، ومن شأن الفكر التحويلي العميق أن يعمل سراً، خصوصا في زمن الضجيج...لا أريد أن أقول من هم المشتغلون لأني لست في صدد الدعاية، لكنهم كثيرون، وهم في العموم مفكرون ليبراليون مؤمنون يمارسون نقداً تقويمياً لا تقويضياً على التجربة الإسلامية في كل متحولاتها وتراثها بأدب وعمق انتماء وهموم حضارية، على عكس ما فعل الشيوعيون العرب والمسلمون الذين قضوا ما يقرب من قرن من الزمان يشتمون الدين والمتدينين من دون أن يقدموا نصاً نقدياً علمياً واحداً.

كيف تنظرون الى الصراعات السنية الشيعية المتنقّلة في العالم الاسلامي، ولماذا يساق المسلمون فيها؟

الدولة هي الضامنة لائتلاف المختلف الديني والاثني. دولتنا الحديثة بصرف النظر عن عنوانها، المدني أو الاسلامي، أثبتت فشلها، وبدل أن تنشّط الحوار بين مكوناتها، فجّرت الصراع، لتعيش على هذا الصراع زمناً رغداً، حتى أتتها وأتتنا المنغصات. عندما يفقد الفرد أمانه وأمنه واستقراره وحريته في دولة المذهب او الحزب او الطائفة، يذهب الى جماعته التي هي الطائفة الأخرى، ويتحول الانقسام من السياسة الى الايديولوجيا، فتُستحضَر الفوراق والنزاعات من الماضي ويضاف إليها حتى تتم العزلة ويحتدم الصراع ويتحول الواحد الى متعدد.

الحل هو الدولة الديمقراطية، دولة الأفراد لا دولة الطوائف، مع احترام الطوائف كمتحدات اجتماعية. الحل دولة مدنية تحترم الدين ولا تنتجه ولا ينتجها. الحل هو الإثبات اليومي بأن التعدد المذهبي العقدي والفقهي لا يبرر صراعاتنا والدم الحرام المسفوك هدراً. الحل أن نشتغل عند الأئمة والسلف الصالح لا أن نشغلهم عندنا وبإمرتنا، وأن نشتغل على موروثنا بأن نضيف إليه لا أن نعيش عليه. الحل ألا تعتبر دولنا العربية والاسلامية بعضاً من مكونات اجتماعية جاليات أجنبية...الحل هو المواطنة.

هل من مسؤولية يتحملها الغرب في إذكاء تلك الصراعات، على غرار التجربة العراقية مثلاً؟

تكون المشاكل دائماً نتيجة تناغم بين الداخل والخارج. لذلك، الغرب مسؤول جزئياً عما حلّ ويحلّ بنا. هو يسعى الى مصالحه، التي يمكن أن نؤمنها له ونحن مستقرون متصالحون، فإذا لم نكن كذلك، يسعى الى تأمينها عن طريق إذكاء الصراعات، التي نحن أولاً مسؤولون عنها، عن تهيئة أسبابها وعن مخالفة قوانين التاريخ والاجتماع في تعطيل الصراع الداخلي لمواجهة التحديات الخارجية: «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»...وعليه فإن أي تأثير خارجي على موضوع ما لا يتم الا من خلال القوانين الداخلية التي تحكم هذا الموضوع. هذا ما يحدث في العراق الآن، لكنه نتيجة لما حصل وتأسس سابقاً وعلى يد نظام البعث. هذا ما كان وراء احتلال العراق الكويت وكان وراء خروجها منها.

أين أنظمتنا العربية والاسلامية اليوم من مفاهيم الإصلاح والديمقراطية والحريات؟ هل نحن بحاجة الى جرعات إضافية منها؟

هناك نسب من الديمقراطية في بعض البلدان العربية، لكنها قليلة وغير كافية، واللافت للنظر أن تلك الديمقراطية وتلك الحريات تكاد تكون معدومة في الدول العربية والإسلامية الثورية، أي التي حدثت فيها ثورات وانقلابات على أنظمة قديمة لأنها أنظمة مستبدة وقمعية ومتخلفة.

هناك أصوات عربية وجدت في دعوة الغرب للدول العربية الى الإصلاح والديمقراطية ذريعة للتنصّل من الإصلاح وإدانة الداعين اليه، وقد تشارك في هذا الأمر أنظمة عربية مع معارضات عربية للأنظمة بدعوى الديمقراطية.

تقديري أننا بحاجة الى الإصلاح والديمقراطية، بما تعني من حريات وحقوق انسان وحقوق عامة وقانون ومؤسسات وانتخابات وفصل سلطات وشفافية وأولوية حوار بين مكونات المجتمع وبين المجتمع والدولة ومجتمع مدني. واذا ما كان هناك من وصفة أميركية مشكوك فيها فلنعمل على توطينها، أي تحقيقها بالشروط الوطنية وجعلها ملائمة لبيئتنا. الديمقراطية ليست وصفة مجربة، بل فكرة عامة تمر بالخصوصيات الثقافية والمجتمعية والشروط التاريخية لكل بلد. ليس هناك ديمقراطية واحدة، ولا نمط قومي واحد، ولا تجربة علمانية واحدة، لكن هناك حاجة الى دول مدنية ديمقراطية في كل بلد، والى مزيد من الديمقراطية في كل بلد ديمقراطي.

هل يجب أن تبنى الروابط الدينية في عالمنا العربي على حساب الأوطان، وكيف السبيل الى بناء علاقة متوازنة بينهما؟

الدين الذي يلغي الوطن أو يقوم على أنقاضه ليس ديناً، والوطن الذي يلغي الدين ويقوم على أنقاضه ليس وطناً. الدين ضروري والانتماء إليه تعبير عن الحرية. أما أن تأكل تلك الضرورة ضرورة اخرى وهي الوطن فهذا يحوّل الدين الى ضرر، وكذلك فإن الوطن الذي يقوم، ولا أدري كيف على إلغاء الدين، هو وطن بلا مواطنين، أي ليس وطناً، والمأثور معروف : «من الايمان حب الوطن». الوطن هو اختبار التدين، كما أن الدين هو اختيار الوطنية وضمانتها. تلك الثنائيات الجميلة ليست متناقضة، وعلينا أن نبحث دائماً على الفضاء الذي يجمعها لنجتمع فيه.

أما في هذه اللحظة التي تتحول فيها الأديان والمذاهب الى بديل للوطن والوطنية فإننا مضطرون أن نؤكد أن في الإسلام مواطنة، وأن حدود الوطن لا بد من أن تحترم، وأن الجامع الإسلامي لا يلغي الأوطان التي هي ضرورات المواطن والمؤمن والإنسان عموماً.

في هذا السياق، هل تجدون من ضرورة لإعادة النظر في علاقة الدين بالدولة؟

دائماً كان هناك بحث في علاقة الدين بالدولة، وهناك تيار واسع لا يجد عائقاً في تأهيل قناعته بأن الدين عموماً والإسلام خصوصاً لم يصف لنا دولة بل وضع لنا مجتمعاً وتعامل مع الدولة نظرياً، كضرورة اجتماع ونظام عام وهي متغيرة تقدر بظروفها المتغيرة. وعليه فإن الدولة الديمقراطية الحديثة لا تقع بالضرورة خارج المنظور الإسلامي لبنية الدولة. نقول بأن الله تعالى لم يتعبدنا بشكل من أشكال الدولة، وليس هناك شكل واحد للدولة، حتى في العصر الراشدي.

قناعتنا أن الدين إذا أنتج الدولة فإنه يقوضها ويتقوض بها، وإذا أنتجته الدولة فإنها تقوضه وتتقوض به، والحل دولة مدنية تحترم الدين. أما فصل الدين عن الدولة فيمكن أن يتحوّل الى تمييز بين الحقلين لإتاحة الفرصة لتكاملهما، تماماً كما هو التمييز بين الديني والسياسي والثقافي. إذا كان لدينا عقدة من النماذج العلمانية، فلنضع رؤيتنا الخاصة للدولة المدنية ونضعها في التاريخ، في التجربة، ترسخها أو تعدلها.

هل تعتقدون بوجوب إعادة النظر وتحديث بعض جوانب الإسلام، على غرار ما فعلته الكنيسة، لا سيما في ما يتعلق ببعض المظاهر الاجتماعية وحقوق المرأة؟

اذا كانت الأكثرية من الحداثيين ارتكبت خطأ قاتلاً بإهمالها او محاربتها للدين، فأسهمت في إحباط مشروع التحديث وسوّغت الماضوية والانطلاق، فإن خطأ الإسلاميين في إهمال الحداثة أو محاربتها أو التنصل منها، لم يكن مغفوراً ولن يغفر إذا ما تجدد لأنه إساءة الى الإسلام، الذي إذا لم نجدده لم نتجدد به، وتجديده أي تحديثه يتم من داخله ولكن مع الاصغاء الى ما يأتي من الخارج وهو كثير وموضوعي ومحايد. أعتقد أن التحديث هو السبيل الوحيد الى حماية الدين من أعاصير السياسة وزوابع الحداثة. ما حصل في الغرب من تجديد بروتستنتي أجبر الكثلكة على التجديد لاحقاً، مع ملاحظة دور الدولة في ذلك. ما حصل هو الذي حفظ المسيحية بتحريرها من الكنيسة ووضع الكنيسة على طريق التحرر بالحداثة والأنسنة.

كل محاولات التحديث أو تجديد الإسلام كانت تصطدم بعقبة هي غياب القوى الاجتماعية الفاعلة في حملها. نجحت الإصلاحات الدينية في الغرب بفعل البورجوازية وضرورات التنمية كما رأتها، ونجحت البرجوازية بفعل نظرة الكنيسة الى ذاتها والى ضرورة النهضة.

الدولة المدنية المنشودة هي دولة الأفراد لا دولة الجماعات ولا الأجناس ولا العناصر، والمرأة تأخذ موقعها الحقيقي وتمارس دورها من خلال تلك الدولة المنشودة. أما أن الإسلام يعاند في ذاك، فتلك تهمة ظالمة، سببها استحكام عقل التخلف في تعاملنا مع النص المؤسس، حيث أدى بنا ذلك الى تحكيم الجزئيات بالكليات. الكليات القرآنية هي المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، والتمييز لا يطال الا منطقة التمايز الطبيعي او الوظيفي الذي فيه مشترك واسع بين الطرفين وفيه خصوصيات في كل منهما تؤسس للتكامل والحيوية والإبداع. الجزئيات هي التي تفوح منها رائحة محطات تاريخية أملت نوعاً من التمييز المحدود الذي دفعناه الى مدى أبعد من مقصده والظرف الذي أنتجه. انتهى مفعول تلك الاحكام بانتهاء مواضيعها أو التغير العميق في تعريف تلك المواضيع. لا يجوز بعد أن نؤسس عليها نظرة دونية الى المرأة ننسبها الى الإسلام.

منذ الفاتيكان الثاني (الستينات) حتى الآن، حصل تقدم عظيم في مسيرة الحوار والاعتراف المتبادل. تقدمت الكنيسة كثيراً والتواصل الاسلامي كان مرضياً وإن لم يكن كافياً. اما الآن وبعد 11 سبتمبر (ايلول)، ومحاولة الغرب إلقاء تهمة الإرهاب ومسؤوليته على الثقافة الإسلامية، مع وجود قوى مسيحية معادية للاسلام وقوى مسيحية متصهينة، مع كثير من الممارسات الخاطئة هنا وهناك، فقد بدا وكأن الحوار انقطع. ظهرت مخاطر ذلك جلية، فتحركت عجلة الحوار ثانية هذه المرة وبعمق أكثر، ما يجب تنشيطه وعدم اهماله مع التفاؤل الممزوج بالحذر وضرورة تحويل الحوار الى مؤسسات متكاملة والتركيز على الأجيال الشابة والمتعلمة وتنشيط مجالات التضامن الاجتماعي والتكامل الثقافي والسلوك المدني والتعارف والتثاقف والوعي العميق بأنظمة المصالح المشتركة والقيم المشتركة والعيش المشترك.

هذا السبيل من شأنه أن يفعّل الحوار ويرفع مستواه وجدواه ويزيل العوائق من وجهه. الاعتدال بشرط أن يتحول الى حيّز جامع يتيح المراكمة ويظهر كقوة هو الذي يعيد الحوار الى نصابه.

back to top