اليتامى

نشر في 12-01-2009
آخر تحديث 12-01-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي وهم من ضمن المهمشين الذين وضعهم القرآن مع المساكين اليتامى، فقد ورد لفظ «اليتيم» ثلاثاً وعشرين مرة، جمعا أربع عشرة مرة، ومفرداً ثماني مرات، ومثنى مرة واحدة مما يدل على أن اليتيم أكثر من فرد بل مجموعة أي فئة أو طبقة من الناس قبل أن يكونوا أفرادا أو فردين.

وقد ورد اللفظ بستة معانٍ متدرجة: الإكرام، والقرابة، ورد الأموال، وحقهم في بيت المال، والإطعام، والزواج.

الأول إكرام اليتيم «كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ»، ويتمثل إكرام اليتيم في عدم قهره ونهره وسوء معاملته «فَأمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ»، وقهر اليتيم ونهره كفر بالدين وتكذيب به، فالدين ليس إيمانا بعقائد نظرية بل سلوك فاضل وعمل صالح وحسن معاملة «أرَأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ»، وإذا سئل عن اليتامى فالخير والإصلاح لهم «وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ»، ومن حق اليتيم المأوى والرعاية في كنف الأسرة «ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى». وإذا كان ليتيمين جدار يحتميان به فلا يجوز تحطيمه «وَأمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ»، حتى لو كان ذلك حكم ظاهر الشرع دون باطنه، وحاضره دون مستقبله.

والثانى اليتيم في درجة القرابة، عضو في الأسرة، والوصيّ عليه حاميه وراعيه، ورعايته مثل البر بالوالدين والأقارب، وكلاهما مظهر من مظاهر عبادة الله «لا تَعْبُدُونَ إلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى»، والإنفاق على الوالدين والأقربين يمتد إلى الإنفاق على اليتامى «قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ». ولهم نصيب في الميراث عند القسمة «وَإذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ»، والوصيّ مثل الأب يجعل لليتيم جزءاً من ميراثه مع أبنائه في وصيته، في الثلث الخاص به.

والثالث عدم الاقتراب من مال اليتيم والمحافظة عليه واستثماره وزيادته وأخذ الأجر المناسب على ذلك مكافأة على الجهد أو التنازل عنه «وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ»، فإذا بلغ اليتيم سن الرشد رد إليه أمواله «وَآتُوا الْيَتَامَى أمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ». فأخذ مال اليتيم ظلما وحوبا كسب غير مشروع، والاستيلاء على أموال الغير بغير حق «إنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا»، ولا فرق في ذلك بين اليتامى واليتيمات، بل إن اليتيمات أولى لأنهن أضعف جناحا وأقل قدرة وخبرة في استثمار الأموال «قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ»، وكذلك المستضعفون من الولدان وضرورة إدارة أموالهم بالعدل والقسطاس «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ».

والرابع إعالة اليتامى من بيت المال إن لم يكن لديهم أموال، فهم مثل المساكين لهم حق في بيت مال الأمة، وواجب الجماعة إعالة الأفراد، ولهم حق في الخُمس طبقا لقسمة الغنائم، وهي أحد المصادر الرئيسة لبيت المال «فَأنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى»، وهو جزء من حقوق الله، فحقوق البشر من حقوق الله.

والخامس الإطعام مثل المساكين، فالجوع سبة في وجه الأمة وخرق لحقوق الإنسان، حق الحياة «أوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ»، وما أكثر حالات التصحر والجفاف في بلاد المسلمين، وما أكثر الجوعى في الأمة الذين يصلون بالملايين في الصومال والسودان وتشاد ومالي والحبشة وغينيا وفي بنغلاديش وكثير من البلدان الإفريقية والآسيوية، ومقياس الإيمان هو إطعام اليتامى مع المساكين والأسرى ومقاومة هوى النفس والرغبة في الترف «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأسِيراً».

والسادس الزواج من اليتيمات بدلا من حجزهن لدى الوصيّ طمعاً في أموالهن، وهو أحد أسباب تعدد الزوجات، فإذا ما كبرت اليتيمة وظهر جمالها رفض الوصيّ تزويجها للاحتفاظ بمالها، فأخف الضررين زواجها مع الاحتفاظ بمالها وهو ما قد يصعب أحيانا لأن الوصيّ بمنزلة الأب، واليتيمة بمنزلة الابنة «وَإنْ خِفْتُمْ ألا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»، فالوصيّ وصيّ حتى إذا بلغت اليتيمة سن النكاح، فإنه يتخلى عنها وعن مالها لزوجها أو يتزوجها هو نفسه «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهمْ أمْوَالَهُمْ وَلا تَأكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً أنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ».

وقد كان الرسول يتيم الأب ثم يتيم الأم ثم يتيم الخال حتى كفله عمه، وأعطته أسرته الرعاية والحماية ودافعوا عنه مثل الأبناء المباشرين، فالأسرة والمجتمع والدولة والأمة دوائر متدرجة لرعاية اليتامى والمساكين والمحرومين والمحتاجين والفقراء، بداية من الأسرة والقرابة ونهاية بالدولة والأمة. أما اشتراك الدولة والأمة في حصار المرضى والجوعى والمساكين والمحرومين والسائلين كما يحدث في غزة الآن فإنه ضد الإسلام ومناف للشريعة، وإيثار للدنيا على الدين، وتضحية بمصالح الأمة بلا ثمن إلا التبعية والخوف، والصمت والتواطؤ، والذلة والمسكنة، والرضا بالدنية في الدين.

وفي الأمة الإسلامية اليوم تتراكم الثروات عند الأقلية ويعم الفقر واليتم والجوع والعطش لدى الأغلبية، والأمة واحدة، تعبد إلها واحداً «إنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون»، ولكنها لا تتقيه «وَإنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون».

* كاتب ومفكر مصري

back to top