... لكن المجتمعات هي الخالدة

نشر في 05-08-2008
آخر تحديث 05-08-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ أخطر ما في المنازعات الأهلية في مجتمعات الدول، كما في الدول على اختلاف مكونات مجتمعاتها، أنها تُحِط بالإنسان إلى مستويات من الوحشية المرافقة لانحطاط الروح الفئوي، من دون رادع من قيم أو إطار أو مرجعية. التنازع وأشكاله وجوهره «البراني والجواني» هو القيمة الوحيدة، قيمة الوجود في قلب المقتلة أو المقاتل المفتعلة أو المصطنعة فتنويا، تلك التي أمست نقطة التمركز الوحيدة لدى المتنازعين. كل يُعلي من شأن ذاته في مواجهة الحط من الآخر وتسفيه وتتفيه ما يقوله «الواحد» عن «آخره».

المشكلة أن «الآخر» هنا ليس العدو، حيث يرتقي الصراع معه إلى مصاف التناقض الرئيس، بل هو «عدو-شقيق» يفترض أنه شريك في الوطن وتبادل قيم المواطنة، شريك في مجتمع يفترض أن يكون واحدا موحدا لا مجتمعات متناحرة ومتنافرة، وشريكا في همّ أو هموم الاقتصاد والاجتماع، أو هموم السيادة والاستقلال الحقيقي عن خارج-عدو، وداخلا أمسى ينقسم هو الآخر أيضا كعدو؛ نوجه إليه كل سهام حقدنا وننزع عنه صفات المواطنة، لكونه يختلف أو نختلف معه في السياسة، أي في إدارة شؤوننا العامة.

ليس من شأن خاص أو فضاء خصوصي للسلطة، هي ليست خاصة بفريق «أكثري» أو «أقلوي»، السلطة شأن عام، ليست خصيصة مشاعية خاصة، عموميتها تقبع في «كليانيتها الدولتية»، وإلا لما كان هناك دولة، ولا مجتمع لدولة تفتقد فيه السلطة حس اجتماعها العام، وحس انتظامها كطليعة لمجتمع يتمادى في صيرورته واحدا موحدا، ولكنه متعدد ومتنوع في داخله ومن داخله، ومن دون الغرق في أتون المنازعات المدمرة؛ العامدة إلى انقسام المجتمعات وتفتيتها وتشظيها، بحيث تصير السلطة داخلها سلطات، والسياسة مجموعة من السياسات المتناحرة، تشهد انقطاعا في ائتلافها المجتمعي كما السياسي، وهذا هو حال المجتمعات المأزومة لأسباب تكوينية تخليقية؛ مجتمعات ضيّعت اجتماعها ومجتمعاتها، كما ضيعت السلطة فيها دروب تماسكها كسلطة موحدة لتنقسم إلى سلطات، بينما المجتمع كان قبلها قد انقسم إلى مجتمعات، والديموغرافيا إلى أشتات هنا وهناك، كل ينازع الآخر على البقاء في الواجهة... وفي المواجهة من أجل سلطة لا يقر لها قرار.

من هنا يبدو أن العوامل التي أدامت حكم سلطة ما، هي ذاتها ربما العوامل التي قد تطيح بسلطة مماثلة في بلد آخر، فما الذي أدام ويديم حتى الآن سلطة الحزب الشيوعي الصيني على مجتمع لشعب هو الأكبر تعدادا في العالم؟ بينما لم تستمر السلطة السوفييتية أكثر من 37 عاما؟ هذا على سبيل المثال لا الحصر. إن سلطة استبدادية أو دكتاتورية؛ عسكرية أو مدنية، تساهم في تحلّل واضمحلال مجتمعها، لا يمكن لها أن تستمر أو تواصل حكمها إلى الأبد- أبدها هي- ذلك أن سلطة كهذه تفتقد حاضنة ضرورية لقيام واستمرار والحفاظ على الدولة. المجتمع هو الشكل الجنيني للدولة في انتصابها جوهرا متحولا للاجتماع البشري. إن سلطة بلا مجتمع لا يمكنها التحول أو الانتقال إلى مرحلة البناء كدولة، على أن أي دولة بلا مجتمع أو دولة تذيب مجتمعها في مصهر استبداديتها لن تبقي لذاتها حتى مبررات وجودها الأولي-البدائي.

الوطن ليس دولة أو سلطة، هو مجتمع ينمو، وإلا فإن إجهاض تنميته، إنما هو عملية إجهاض لنموه كذلك، وبالتالي لا وطن بلا مواطنة، لا دولة بلا وطن تحترم فيه قيم المواطنة، على اختلاف مكونات هذه المواطنة في تعددها وتنوعها الخلاق. المواطنة متعددة بالضرورة، العقد السياسي والاجتماعي والمواطني ليس نتاج استبداد أو دكتاتورية وسلطوية الفرد أو الفئة أو المجموعة المصطفاة، أو «الأمة الخالدة».

وقيم المواطنة وعقدها ليست عرقية أو تميل إلى مصلحة الأغلبية العددية، ولا هي ذات نزوع «بيسماركي» في توجهها إلى أقلية أخرى، هي مجتمعية أولا، ومجتمعية أخيرا، أي وهي تتحول إلى جزء من نسيج لوحة فسيفسائية هي المعادل الموضوعي للدولة، الدولة التي لا تقوم قيامتها من دون إنجازها للوحة اجتماعها المتحركة غير الثابتة في عنادها لخلود مزعوم، المجتمع هو الخالد المتغير الدائم في تحولاته. لهذا تبدو رطانة الدفاع عن الدولة «في لبنان»، وعن السلطة «في فلسطين» أو العراق أو الصومال أو السودان أو تشاد أو زيمبابوي أو أي بلد آخر تماثل أوضاعه مع ما أمسى «النموذج الحصري» لـ«سلطة الأبد» الشخصانية والفردية، رطانة دفاع مهين عن رغبات مكبوتة عمادها الاحتفاظ بلعبة السلطة أو السلطة اللعبة، كما تتبدى للطفل الأناني أو النرجسي في دفاعه عن لعبته المفضلة، في مواجهة أي طفل آخر يريد مشاركته اللعب بها، وليس الاستيلاء عليها بالطبع. إن مجرد المشاركة أو التفكير فيها إشهار لعداء ما؛ قد يكون معلنا أو مضمرا، لمركز السلطة أو لمركز العالم الذي يقف الطفل في «دائرته الكونية»، فما حال التفكير في الاستيلاء على السلطة أو اللعبة؟

نحن هنا في مواجهة الإشكالية المتوسعة باطراد، في عالم يتعولم بلا ضوابط، إشكالية تستثيرها عقدة الصراع من أجل الاستيلاء على

السلطة-اللعبة، أو الاستيلاء على لعبة السلطة الرمزية، حتى وهي هنا تتقلب بين طرفين أو أكثر، كل يستبعد الآخر من «جنة» اللعب السلطوي المملوء نزقا وكراهية؛ لآخر لا يقل في امتلائه نزقا أكثر، وكراهية لا تقل في مفاعيلها التحريضية التنازعية، عن نزعات أو نزوعات التشبث باللعبة السلطوية، أو سلطويات اللعب مع «الكبار» الذين لا يستقيلون أو يقالون أو يتخلون عن سلطة قدرية «إلهية» وصلت إليهم في غفلة من المجتمعات، وذلك ما أضحى عليه حال سلطات «التحرر الوطني» سابقا، «التوريثية» أو «الأبدية» في سماتها العامة راهنا في بلادنا هنا... كما في إفريقيا.

* كاتب فلسطيني

back to top