عن التكون التاريخي للهوية التركية 1 - 2

نشر في 29-05-2008
آخر تحديث 29-05-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

بفضل اللحظة التاريخية التي سبقت ورافقت قيام الجمهورية التركية؛ تم إعلان الجيش رديفاً للدولة وحارساً على مكتسباتها ووصياً على نظامها السياسي في حين ترسخت العلمانية هدفاً أعلى للدولة التركية لا يمكن المساس به، بحيث تتطوع له أي اعتبارات قد تتصادم معه.

تستقطب أخبار تركيا اهتمام المتابعين في كل المنطقة، بسبب الثقل التركي الواضح سياسياً واقتصادياً في معادلات المنطقة. ولا تقتصر أهمية تركيا لدى شعوب الشرق الأوسط على عوامل السياسة والاقتصاد فقط، إذ إن روابط الجغرافيا والتاريخ التي ربطت العرب بتركيا منذ مئات السنين لاتزال ممتدة على كامل مساحة الذاكرة والتراث العربيين. وبالرغم من الحضور العريض لتركيا في ماضي وحاضر المنطقة وعلى الأرجح في عمق مستقبلها أيضاً، إلا أن مسألة الهوية الوطنية التركية لم تكن يوماً محل إجماع منذ إعلان الجمهورية في عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك وحتى كتابة هذه السطور، وتعد الهوية باعتبارها مدركات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي؛ من أهم العوامل الحاكمة في رسم السياسة الإقليمية للدول. وبالرغم من دورها الانطلاقي والأساسي في رسم السياسة فإن الهوية الوطنية لا يمكن حسابها بالطرق الاعتيادية المتبعة في قياس قوة الاقتصاد ومدى ارتباطه بالاقتصاد العالمي، أو قياس نسبة الصادرات إلى الواردات، وغير ذلك من المعايير الثابتة. ولذلك فمن الطبيعي أن تختلف مدركات هذه الهوية من حزب إلى آخر، ومن فصيل سياسي إلى غيره من الفصائل خصوصاً في دول العالم الثالث، وهذا الاختلاف يقود إلى اعتماد البرنامج السياسي للأحزاب الحاكمة على رؤى بعينها في القضايا المختلفة ومنها طبعاً السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية.

تبدو هذه الحقيقة ثابتة في إدارة العلاقات الدولية ورسم السياسات المختلفة للدول، بحيث يمكن تقدير أنها لا تنطبق على الحالة التركية فقط، بل تختزل في نفسها أهم العوامل على الإطلاق في توجيه ورسم السياسات الإقليمية للدول المختلفة. وإذ تستند السياسات الإقليمية للدول إلى مجموعة من الركائز المعروفة في العلوم السياسية مثل: التحالفات الدولية والموقع الجغرافي والإمكانات البشرية والاقتصادية، إلا أنها لا تقتصر في الواقع على ذلك فقط، حيث تلعب الروابط التاريخية دورها الكبير في رسم سياسات الدول. ويتطابق إدراك المؤسسة العسكرية التركية، المسيطرة تاريخياً على مقاليد السياسة التركية، لهويتها مع التوجه الأوروبي العام لتركيا. والأخير يبدو حلقة متصلة منذ إعلان الجمهورية وحتى اليوم باستثناء فترات تاريخية قصيرة نسبياً اختلف فيها إدراك الحكومات التركية لهويتها عن العسكر. وتتمثل هذه الفترات في مدة حكم حزب الرفاه الإسلامي بقيادة الزعيم التاريخي للإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان في الفترة الواقعة من 1996 حتى 1997، وكذلك فترة حكم حزب العدالة والتنمية المطعم بجذور إسلامية من عام 2002 حتى الآن.

واستطاع هذا الإدراك المتميز نسبياً للإسلاميين الأتراك أن يوجه السياسات الإقليمية لتركيا بشكل مختلف بعض الشيء، ولكن من دون أن يفلح في توجيهه إلى منتهاه، ويعود ذلك إلى هيمنة المؤسسة العسكرية على الدولة التركية من ناحية، وأيضاً بسبب وعي الإسلاميين الأتراك بالمحاذير الدولية لهكذا توجه من ناحية ثانية؛ وليس آخراً أيضاً بسبب الاختلافات الفكرية والعملية في معسكر الإسلاميين أنفسهم.

تستطيع الظروف التاريخية التي ترافقت مع تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك (أبوالأتراك)؛ تقديم تفسير معقول لواقع الصراع التركي الراهن على تعريف الهوية. وظهرت إرهاصات هذه الظروف في فترة تفكك الدولة العلية العثمانية، وما أعقبها مباشرة من فرض اتفاقية سيفر بالعام 1920، تلك المعاهدة التي ارتأت قيام دولة للأرمن في شرق تركيا وحكم ذاتي بصلاحيات واسعة للأكراد جنوبي الأناضول، في ظل احتلال اليونان وفرنسا وإنكلترا لكامل الغرب التركي. وجاءت الفرصة التاريخية المتمثلة في الجمهوريةالكمالية واتفاقية لوزان عام 1923، تلك التي ألغت عملياً اتفاقية سيفر وثبتت الجمهورية التركية في حدودها الحالية. ومن يومها وبفضل اللحظة التاريخية التي سبقت ورافقت قيام الجمهورية؛ تم إعلان الجيش رديفاً للدولة التركية وحارساً على مكتسباتها ووصياً على نظامها السياسي، في حين ترسخت العلمانية هدفاً أعلى للدولة التركية لا يمكن المساس به، بحيث تتطوع له أي اعتبارات قد تتصادم معه. وإذا كان خبراء الاستراتيجية والنظم السياسية قد حددوا أهداف الدولة، أي دولة، في ثلاث عناصر رئيسة هي: البقاء، السيادة والتنمية الاقتصادية، فإن النموذج السياسي التركي قد نجح على مدار عقود في إعادة تعريف العلمانية بوصفها صنواً لبقاء الدولة التركية في مواجهة التنافر الطائفي الداخلي، وأساساً لقدرة تركيا على الوصول للحرية والسيادة على أراضيها المترامية المساحة والموزعة على قارتين!.

* كاتب وباحث مصري

back to top