الناقدة يمنى العيد: همّي أن يتحرّر القارئ من النقد الوظيفي
تؤكد يمنى العيد حضور المرجعيّ-الاجتماعي في النص الأدبي حضوراً متميّزاً بفنيته. لذلك فإن تعاملها مع هذا النص سوف يستهدف هذا المرجعي في محاولةٍ لتبيّن أثره في تشكّل بنية النص: «ما هو شكل حضور المرجعي في النصّي؟» و«كيف يتشكّل النص بنائياً بعلاقته مع المرجعي الحيّ؟».
لقد عملت منذ البدايات في «ممارسات في النقد الأدبي» و«الدلالة الإجتماعية للأدب الرومنطيقي في لبنان» على إرساء معالم مشروع نقدي يبين حدود التمايز بين النص الأدبي والنصّ النقدي وحدود اختلاف (أو تفاوت!) الوظيفة المعرفية بين النصين.تشكِّل مؤلفاتها النقدية علامة متميزة ليس في مجال النقد الأدبي فحسب بل في الثقافة العربية.حول أبرز القضايا النقدية والثقافية التي تناولتها العيد في هذه المؤلفات كان لنا معها هذا اللقاء:يعتقد عددٌ من المفكرين والكتّاب المعاصرين العرب أن أزمة الثقافة العربية تكمن، أولاً، في غياب الفكر النقدي، إلى أي مدى توافقين هذا الرأي؟عندما كنت أسأل عن أزمة النقد الأدبي العربي كنت أردّ هذه الأزمة الى أزمة الثقافة العربية، باعتبار النقد الأدبي مستوى من مستويات هذه الثقافة أو وجهاً من وجوهها الفكرية، بمعنى أن عجز المعرفة عن انتاج معرفة بالمقروء من النصوص مردّه إلى افتقار ثقافتنا العربية الى أنواع المعارف التي تسمح لنا (للنقّاد) بالتعمّق وبالمقارنة ورؤية الاختلاف، وبالتالي تخوّلنا التعليل وردّ الأسباب الى مسبّباتها ووضع الإصبع، كما يقالُ، على مكمن الجروح وبؤر العجز وعوائق التقدّم.ولعلّ غياب المعارف أو إعاقة ثقافتنا عن إنتاج معرفة تسمح بممارسة النقد، يعود الى هيمنة الفكر الذي يردّ ويفسّر كل شيء بالمعطى المطلق، أي بمسلّمات لا تجوز مناقشتها. وهو فكر هيمن في الغرب في القرون الوسطى وحكم وعي الناس الثقافي الذي كان يردّ كل شيء الى قدرات غيبية لا تطالها المعرفة ولا تجرؤ على محاولة تفسيرها بمنطق العلوم والمعارف الوضعية.ولعلّ المخيف في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر هو نزوع ثقافتنا العربية الى مثل هذه الإيمانية الشمولية المطلقة على حساب ما سعت إليه وتسعى ثقافتنا النقدية المنفتحة المتمثلة مرحلياً، بشكل خاص، في الرواية التي تبني عالمها المتخيّل من منظور نقدي يرتكز على المعرفة بوقائع الأمور وأحوال المعيش.من الملاحظ أن تطوّر الاتجاهات النقدية (من الإنطباعية الى التحليلية، إلى القراءة الشاملة التي ترتكز على الدراسات الألسنية والدلالية المركّبة) يعكس تعدد أو تطوّر وظيفة النقد، ما هي برأيك وظيفته؟وظيفته هي في إنتاج معرفةٍ بالمقروء أو المشاهد أو المسموع. هذا ما سعيتُ إليه منذ بداياتي النقدية وفي كلّ ما كتبت، وهذا ما توخيته في ممارستي التدريس في المراحل الثانوية وفي الجامعة بشكل خاص. كان همّي وما زال تكوين ناشئة تفكر وتسأل وتبحث وتفسر وتسعى إلى المعرفة- المعرفة العلمية بحقيقة ما يجري، بالأسباب والمسبّبات، بطبيعة أحوالنا على هذه الكرة الأرضية، فلا نضع الأسئلة عن الكون والطبيعة والماوراء، شأن ما يجري في بعض الأقطار العربية، في خانة المحرّمات مما يجعلنا نتماثل في «المعرفة» ونصبح كتلة أو مجموعة عددية في عهدة الواحد المرجع أو الراعي العارف أو الموجِّه أو الدال على الصحيح والخطأ. وعليه، فأنا أرى أن تطور الاتجاهات النقدية هَدَف، على تعدّده وتنوعه، الى انتاج معرفة هي، وان كانت في بعض هذه الاتجاهات تخصُّ التقنيات وأشكال البنى وسبل القراءة، تخدمُ، وبشكل غير مباشر عملية انتاج معرفةٍ بالمقروء النصّي وتشرّع أبواب النقاش الفكري حول مواضيع ونظريات تتجاوز حدود النص الى ما له علاقة بمعنى الحقيقة ونسبيتها وبمفهوم المتخيّل وعلاقته بالواقع المرجعي وبمعنى الزمن وتاريخيته. إنها مسائل تفضي الى أسئلة فلسفية تتصل بعلاقة الفكر البشري بالكون والوجود.ما مدى صلة النقد بالقارئ؟ الى أي مدى يحضر هذا الأخير في قراءتك للنص الأدبي ؟إذا كان النقد قراءة فإن القارئ حاضر بمعنى من المعاني. حاضرٌ بمعنى التحاور وكونه طرفاً يتخلّقُ النصُّ بقراءته. وقد ترى في ما أقول تناقضاً مع ما سبق وقلته (كون الناقد ينتج معرفة بالمقروء). قد يبدو الأمر كذلك ولكننا حين نتمعّن في الأمر يمكننا القول بأن هذا التخلّق ينطوي على معرفة، أو هو تخلّق معرفيٌّ يمارسهُ بعض النقد ولا يمارسه بعضه الآخر، عنيتُ النقد التوصيفي أو الإنشائي الذي يكرّرُ النص أو يقفل معناه العميق ومنظوره الناظم لسياقه ولتجلياته الجمالية.لعلّ القارئ المقصود في سؤالك هو القارئ العام. مثل هذا القارئ لا يحضرُ في قراءتي للنص الأدبي، وإن كان هو همّي الأساسي ـ بمعنى تمليكه سبل القراءة النقدية وأدواتها المنهجية بحيث يصبح كل قارئ ناقداً وبحيث يتحرّر من سلطة النقد الوظيفي أو هذه «الأستذة» الإرشادية التي يدّعيها بعض النقد إن لم نقل معظمه. لعلّي بذلك أتطلع الى قارئ يشاركُ في إنتاج ثقافة مجتمعه وإلى نقدٍ يرتقي الى معالجة قضايا جوهرية، أي الى قارئ ناقد وناقدٍ مفكّر يمارسان دوراً ويشاركان في تحقيق أحلامنا نحن أبناء مجتمعاتٍ تعاني القهر والظلم والجوع الى الخبز والطمأنينة ونقاوة الهواء. ما هي، برأيكِ، المداخل (المفاتج) الأكثر نفاذاً الى النص الشعري؟اعتبر حازم القرطجي العجيب، أي هذا الذي يدهشك مدخلاً الى شعرية الشعر وقيمه المعيارية. بالنسبة إلي لا بدّ من ثقافة شعرية، ولا بدّ للناقد من أن يكون قارئاً متابعاً للشعر وعارفاً بتاريخه وتطوّر قيمه وبمتغيرات معاييره. ثمة جانب جمالي حسيّ ـ وجسدي إذا صحّ التعبير ـ يشكّل مُدخلاً لكن هذا لا ينفي الجانب المعرفي الذي يحب أن يمارس دوراً في الارتقاء بهذا الجانب الحسي لا أن يطغى عليه أو يحجمه، ذلك أن الشعر يتعامل، وبشكل أساسي، مع زمنٍ حُلمي ومتخيّل ماورائي. وهو، من هذهِ الناحية، ليس كالأدب الروائي. فالسرد يتعامل مع زمنٍ تاريخي، (هنا يغلب المدخل المعرفي لقراءة النص). ثمة متعة هي غالباً، وحديثاً، مدخلي الى النص الشعري، علماً بأن هذهِ المتعة مرتبطةٌ عندي أو تستندُ الى أسئلة لها علاقة بالوجود وبالزمن والتأمّل في هذا الكون وحياتنا فيه. لعلّ هذا جعلني أخيراً أتذوقُ الشعر أكثر مما أقرأهُ قراءة نقدية وان كان تذوّقي له لا يخلو ضمنياً من قراءة نقدية.... والنصّ الروائي؟ثمة أسئلة طرحتها عليّ الرواية العربية. فهي من حيث روائيتها فنٌ حديث، مال عددٌ كبيرٌ من النقاد، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين الى اعتبارها فناً وافداً يحاكي الرواية الغربية. كذلك مال بعض النقاد في ما بعد، وحتى زمنٍ ليس بالبعيد، الى اعتبارها دون الرواية الغربية قيمة، كون ثقافتنا العربية تفتقر الى مستويات معرفية هي شرطٌ لتعدّد الأصوات ـ اللغات في الرواية، وهي (المستويات المعرفية) مكوّنٌ أساسي لنشوء الرواية الغربية الحديثة.السؤال الأول هو: هل صحيح أن الرواية العربية كانت تقليداً أو محاكاةً للرواية الغربية؟ الجواب عن هذا السؤال قادني الى التمييز بين التقنيات باعتبارها أدوات عامة أو مشتركة، بمعنى أنها لا هوية لها، أي ليست فرنسية أو روسية أو انكليزية، وإن كان مبدعها فرنسياً أو روسياً أو انكليزياً، فنحن نرى هذهِ التقنيات على مستوى الخطاب الروائي، وهي تخصّ روائية الرواية التي هي مسألة فنية ـ تاريخية أي مفتوحة على التجارب العامة (المشتركة)، فالحبكة الروائية مثلاً هي تطوّر فنيّ تعود بدايته الى تنظير أرسطو لشعرية النص المسرحي، الذي هو حكاية، إضافة الى شعرية مسرحة هذهِ الحكاية ولا تقف فنية هذهِ الحبكة عند آلان روب غرييه.مثل هذه التاريخية العامة لتقنية الحبكة التي هي في الوقت نفسه فنيّتها جعلني أرفض القول بأن نجيب محفوظ، مثلاً، استعار أو قلّد أو حاكى الرواية الغربية خاصة في الثلاثية. وأميل الى القول بأن التقنيات لها صفة العام والمشترك والتاريخي ـ الفني.أما السؤال الثاني الذي ما زلتُ أشتغل عليه فهو يتعلق بالمرجعية السردية الحيّة وأثرها في تمييز بُنى عالم المُتخيَّل الروائي ولا سيما في ما يخص التعامل مع الزمن السردي. ثمة روايات عربية تقدّم مثالاً بارزاً على تميّز هذهِ الرواية بروائيتها باعتبارها مرجعية المسرود الحي أو المعاش وأثره في ابتداع بنى فنيّة للعوالم المتخيَّلة.متى يتشكّل موقفك النقدي من النص الذي تقومين بقراءته؟ ألا تترك الانطباعات الأولى ظلالها على القراءة «النقدية» للنص؟حالياً لم تعد الانطباعات بالنسبة إلي مجرد انطباعات. ثمة خميرة أو تراكم ما لا يمكن تجاهله أو التحرّر منه كلياً بحيث تكون الانطباعات بكراً. مثل هذهِ الانطباعات ليست مرتبطةً بتذوقي للنص فحسب بل بالموضوع الذي أعمل عليه. أضف الى ذلك أن قراءتي، بوجه هام منها، تتوخى كما سبق واشرت إشراك القارئ منهجياً ومعرفياً وجمالياً بما أقرأ، بهدف أن يكون ناقداً مشاركاً محاوراً متملكاً لمقومات الحوار.ما هي المرجعيات والمصادر التي يستند إليها (أو يستعين بها) نَصك النقدي؟كانت كثيرة ومتعددة ومتنوعة. وهي في معظمها غربية ثم أضفت إليها تراثي النقدي العربي الذي قرأتُ الكثير منه في ضوء معرفتي بنظريات النقد الغربية الحديثة. وهو ما مكنّني من الإفادة من هذا التراث مع معرفتي بالفروقات، ومن دون أن أقع في المماثلة بين الجرجاني مثلاً الذي أناط الدلالة بالصياغة ولكنه قال المعاني مركوزة في النفوس، مما أدى عنده الى الحد من أهمية الصياغة أو قدرتها على توليد المعاني وبين دي سوسير الذي مال الى إسقاط مرجعية المعنى.أود أن أوضح أن علاقتي بالمرجعيات والمصادر كانت تقوم من خلال منظور نقدي وتهدف الى إعانتي في موضوعي الذي أعمل عليه وهو علاقة المُتخيَّل الفني بالمرجعيِّ الحيّ.كيف تفسرين غياب النقد الأدبي في هذهِ المرحلة، أو انحساره في مقالات صحافية (دعائية) في معظم الأحيان؟أحياناً أتساءل لماذا النقد الأدبي؟ أتساءل وأنا أرى أن ما يغلب اليوم هو الإعلام والإعلان! وقد يكون هذا من مقتضيات زمننا الحداثي المعولم. لذا قد يبدو ضرورياً أن يكون كل قارئ ناقداً كما ذكرت. وهذا معناه أن نلتفت الى واقع ثقافتنا وإلى ما يجعل منها ثقافة فكرية نقدية، أي أن نرى مشكلة الثقافة حيث هي في الأساس، أعني في نظم التعليم ونظم السلطة الحاكمة وفي انحسار القراءة وتراجع مساحة الحرية، في هذا الواقع البائس الذي تتهمش فيه الثقافة وتتراجع فاعليتها أو تتحول الى «ثقافة» ملحقة بالطوائف في وقتٍ تتراجع فيه الأحزاب ـ عندنا ـ وتترك مكانها لسلطة المال والاقتصاد.· من مؤلفاتها: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميّز الخطاب 1998، الكتابة: تحوّل في التحوّل مقاربة للكتابة الأدبية في زمن الحرب اللبنانية ـ 1993، في القول الشعري 1987، الراوي: الموقع والشكل 1986، في معرفة النص 1983، الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان 1979، ممارسات في النقد الأدبي 1974.· شاركت في تأليف كتب جماعية أبرزها: شعر المقالح مرجعيته وشعريته 1991، في التناقص وسطور وعناوين في سيرة مهدي عامل والممارسة في فكر مهدي عامل 1989، القصة القصيرة والأسئلة الأولى/ اللغة/ الأدب/ الايديولوجيا 1986، قتل مفهوم البطل: منظور فكري يخلق نمط بنية في القصّ العربي المعاصر 1986، حسين مروه والمنهج الواقعي في النقد الأدبي 1981.