سعدية مفرح في ليل مشغول بالفتنة... عباءة مطرّزة بالجمر والحرير

نشر في 04-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 04-12-2008 | 00:00

دأبت الشاعرة سعدية مفرح على إبداع عالم متكامل من البناء الشعري، ففي ديوانها «ليل مشغول بالفتنة» نلمح رؤية شعرية تمثلت في صوت موسيقي خافت، وليل مطرّز بالجمر خاطت الشاعرة نجومه بالحرير.

بعد أن طوت «كتاب الآثام»، والتساؤلات المحرمة في «إثم الكلام»:

ما الذي يمزج للشمس ألوانها

ثم يمشي الهوينى بهودج أحلامها

إلى أن تؤوب إلى خدرها

فتدني عليها خمار المساء

وتغمض أجفانها وتنام؟؟

(قبر بنافذة واحدة- مختارات- 190)

وتملصت من المرآة، من هباء الصورة وخوائها، من الألوان المخادعة إلى الألوان ذاتها، من الانعكاس إلى نقطة الضوء، من ظلال عابرة لا تمتلك حقيقة الجسد، ولا ماهية الروح: «حين يجيء المنتظر الألق، ونستقبله كما يليق بنا ويليق به نكتشف أن مجيئه ليس إلا طقساً نزقاً من طقوس وداع متوقع؟ يذهب، كأنه لم يأت ولم يلوّن رماد النهارات المملّة بألوانه القزحية!».

(مجرد مرآة مستلقية، 34)

هشمت الشاعرة المرايا، في «ليل مشغول بالفتنة»، وعبرتْ من الظلال إلى الجسد والروح، ولم يعد للأسئلة المعلقة سوى إجابة حرة، بعد انطفاء الألوان وتشكّل قدمي طفلة لامستا للتو لزوجة الكلام، وتحسستا مشاعر الأرض التي نمت كأزهار غريبة لها رائحة الخيال حين يتحقق. أخيراً، تمكنت مفرح من تحطيم الجدار والنافذة ولبست الهواء العاري، بعد فضاء الملل، بعدما اعتقدت أن أحلامها تواضعت كثيراً:

كل يوم أبدأ رحلتي في ذات الشارع

أعدّ بلاطات الرصيف مع كل خطوة

وقبل الوصول بقليل

يتشابه البلاط

فأبدأ العدّ من جديد

(تواضعت أحلامي كثيراً 25)

التلال الحالمة، الإشارات المواربة، السهوب وما وراء الأنهر... تلك العناصر كلها ترتبط ببعضها البعض بجسور شفافة، تنزلق إلى جسور أخرى، من دون أن يعي القارىء شهوة الارتفاع، أو صحو الماء. وعلى رغم استخدام الشاعرة الفعل المضارع كستار سحري تفتتح به المشهد المتواصل لعالمها المتشكّل ما بين كلمة وأخرى، بات الفعل ذاته مجرّد «تكتيك» لغوي، تشير، من خلاله مفرح، ساخرة من الأعين المحدّقة الى المجهول: «هذه أنا».

حين يتسلل النص إلى هذا الحس من الروحانية، يتحوّل إلى غيمة إطارها الانهمار، أو إلى موجة روضها التلاشي والفناء، ومن ثم يبدأ الصمت بالنمو، والانطلاق كوحش ناعم في كهوف الذاكرة المظلمة، وفي الوقت الذي يعانق الغلاف الغلاف، ننتبه إلى وجودنا المشتبك مع خيوط ضوئية تشدّنا نحو الخفاء، حيث ينسج النص علاقته معنا في الماوراء، فنشرّحه تارة ويدركنا تارة أخرى.

على رغم هذا الواقع اليومي المزدحم في الصورة الأفقية، ومظاهر المادة الطاغية في الليل المشغول بالفتنة، بإمكاننا تحديد ملامح الجسد الروحي، وتلمّس الأنفاس الصوفية، فالجذور الخفيّة لعناصر المادة الطاغية، أثمرت ما لا يُرى سوى بحدقة الشعور، وما لا يُلمس سوى بأصابع الروح، فانطلق الفيض الروحي الدافق إلى آخر نقطة بصرية، مخلفاً مجراه الضوئي الهادر في الأعماق:

قبل أن يتوقف العد فجأة

فيلمع في نهاية درب التبانة

نجم متمرس في معرفة الحيل البشرية كلها

وبالتماعته الفضية البراقة

تتوسلين دروباً أخرى

لعلك تصلين

***

ينهض جسدك عبر أقل الأشياء وأكثرها

ليفارق شيئيته قليلة كانت أم كثيرة.

(ليل مشغول بالفتنة 14)

دأبت الشاعرة بتؤدة على تشكيل عالم متكامل، وفي اللحظات اليائسة كانت لا تهتم بتهشّم غيمة هنا أو انطفاء نجمة هناك، وربما ساهمت عامدة في مزيد من التدمير، لكنها، بعد كلمات قليلة، سرعان ما تستعيد بهاء الروح، وتعاود مسيرة الولادة، فترمّم الضوء، وتعيد ترتيب السماء.

انعتاق الصوت

منذ الهزيع الأول من الليل المشغول بالفتنة، نلمح رؤية شعرية تمثلت في انعتاق الصوت الموسيقي الخافت، الذي رافقنا مثل دليل حكيم، باح بقليل مما رأى، ومنحنا الشعور بمرونته الزمنية، فجذبنا النص في الماضي فيما كانت الشاعرة في زمن آخر، مجرد راوية، تجلس على أطراف الأرض، وفي يديها خيط لا مرئي، تحرِّك به عناصر المكان:

معلقة على حافة الدهشة

وفي غمرة التوحّد بالآخر

يذهب هذا الجسد ذهابه الأول

نحو الجسد الآخر

(ليل مشغول بالفتنة 71)

طرّزت الشاعرة عباءة الليل بالجمر، وخاطت نجومه بالحرير، وفي مساء الاشتعال، انفجر ما يشبه التاريخ، انفلتت طلقات ساخرة، صوّبتها مفرح نحو الحبل السري، فسقطتْ ما بين تأتأة الطفلة، وصمت الأم الطويل، وما لبثت أن دشّنت مسيرة الجسد، منحته الروح ليقطع مفازة الموت، نحو الحلم - الجمر، حيث تتلظى عناصر النص، مذ ذاك، في مزيج تصاعدي إلى الرماد، وهنا تكتمل سيرة الجسد إذ يصل إلى نقطة الفناء، وما تبقى أرَّخته اللقطات الخاطفة من ذرى الذكريات النافذة من العالم الخاص، والممتدة إلى الرياح المفتوحة على الجهات، كعاصفة سحريّة بعثرت أوراق السكون.

شاءت مفرح أن تسدل الستار على الرماد والاشتعال، على ما حسبته صرخة النهاية... أن تنخفض في صمت وتتسلل مثل دخان في العتمة، تختم بالشعر على صندوق الأسرار المبتورة. شاءت أن تحمل الرماد والصندوق في دمها، وتدفنهما في غابة النار، وتختفي في مدار متجدّد... في آخر «الفتنة»... «مدججة بقلب حي».

back to top