ديوانيات الاثنين: الحدث ليس بعيداً ولا يمكن نسيانه (11)

قوات الأمن تعود مجدداً من دون صدام في ليلة باردة بتجمع الصانع في كيفان

نشر في 17-02-2009
آخر تحديث 17-02-2009 | 00:00


منذ تسعة عشر عاماً وتحديداً في الرابع من ديسمبر 1989، حين كانت الكويت تعيش زمنا مأزوماً بلا دستور، بدأت «الحركة الدستورية»، وهي تحالف شعبي موسع قاده 30 نائباً في مجلس الأمة الذي حُلَّ عام 1986، وفعاليات مبدعة من مختلف قطاعات الشعب الكويتي، المطالبةَ بإعادة العمل بالدستور الذي تم الانقلاب عليه وتعليق بعض مواده وفرض الرقابة المسبقة على الصحافة وقمع حرية التعبير في الثالث من يوليو 1986.

وبما أننا نعيش هذه الأيام في أجواء تأزيمية وحالة احتقان سياسي ملحوظ، وتتردد أقاويل هنا وهناك عن أن النية قد تتجه إلى انقلاب ثالث على الدستور، فإنه من الضرورة بمكان التذكير بما جرى في البلاد آنذاك عسى أن تنفع الذكرى.

على مدى هذه الحلقات تروي «الجريدة» قصة التحرك الشعبي بين عامي 1986 و1990.

كانت عطلة نهاية الأسبوع التي بدأت الخميس 11 يناير 1990 نشيطة على غير العادة، فبعد ليلة الانتصار بالإفراج عن أحمد الشريعان يوم الأربعاء، أرسلت السلطة رسالة تهدئة مختلفة عن رسائلها التي تجلت بمنع الديوانيات ومحاولة اعتقال أحمد الشريعان، فأتت الرسالة من القاهرة عبر مؤتمر صحافي عقده ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح بمناسبة زيارته لها، إذ أكد الشيخ سعد وجود «أنباء طيبة» خلال أيام حول إلغاء الرقابة المسبقة على الصحف، في ما أشار إلى أن الحكومة «تبحث الآن عودة الحياة النيابية بصيغة تمنع الكويت من التعرض لأزمة أخرى، معرباً عن تفاؤله بهذا الصدد»، بينما كانت «الحركة الدستورية» في ذات الوقت تعمل على حشد الحضور لتجمعها يوم الاثنين في ديوانية فيصل الصانع بمنطقة كيفان.

لقاءات مهمة

وفي يوم السبت، 13 يناير عقد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد سلسلة لقاءات مهمة، كان أولها مع عبدالعزيز الصقر وحمود النصف وبدر الخالد ويوسف ابراهيم الغانم وعبدالله المفرج وأحمد السرحان وعبدالرزاق الخالد، وفي لقائه الثاني التقى عبدالمحسن المرزوق ومحمد الحميضي ويوسف النصف وجاسم الصقر وبدر السالم ومحمد الخرافي وسليمان العيبان وعبدالعزيز الصرعاوي وعبدالعزيز الشايع، وحملت اللقاءات تأكيدات المجتمعين على تمسكهم بإعادة الديمقراطية وفق دستور 1962، فأكد لهم الشيخ صباح الأحمد أنه سيرفع الأمر ويوصل وجهة نظرهم الى الأمير.

كان يوم الاثنين يوماً بارداً للغاية على عكس الأيام التي سبقته والتي كانت برودتها أقل حدة. وفي صباح ذلك الاثنين البارد، استدعى مدير أمن محافظة العاصمة أحمد الرجيب النائب فيصل الصانع ليطلب منه إلغاء «ندوة الليلة» كما أسماها، فرفض الصانع قائلاً «اللي عندي اليوم ديوانية مفتوحة للناس»، فقال الرجيب ان سبب طلبه إلغاء الندوة هو ألا يقال ان السلطات الأمنية تمنع الديوانيات.

القوات مجدداً

وبخلاف ما قاله الرجيب للصانع، فقد بدأ لقاء الاثنين باكراً لسكان منطقة كيفان، حيث وجدت قوات الأمن في محيط الديوانية منذ الظهيرة عازمة في ما يبدو تكرار أحداث الاثنين الماضي بالجهراء، ففرضت سياجاً حديدياً من الأسلاك حول الديوانية لتمنع الدخول إليها، فاحتجز بفرض الحاجز النائب فيصل الصانع وعضو مجموعة الـ45 خالد الوسمي و40 شخصاً آخر غيرهم ممن وجدوا باكراً داخل الديوانية ولم يستطيعوا الخروج. وانتشر أفراد الأمن في الشوارع المحيطة، في تكرار للسيناريو الذي حدث في الجهراء، مما أرسى مخاوفاً لدى بعض الموجودين من صدام جديد مع السلطة.

ومع مغيب الشمس واقتراب الموعد، وكما جرى في الجهراء، أغلقت قوات الأمن كل مداخل ومخارج المنطقة لمنع دخول غير قاطني كيفان، وكما حصل في الجهراء أيضاً، فقد وجد الناس ضالتهم وبدأوا بالتوافد إلى مقر الديوانية ليفاجأوا بالاسلاك الشائكة تحول بينهم وبينها، فتوجه النواب صالح الفضالة ومبارك الدويلة وأحمد الربعي وأحمد باقر ود. يعقوب حياتي إلى أحد ضباط القوات الخاصة وهو النقيب أحمد مال الله طالبين منه السماح للمواطنين بالوصول الى الديوانية فرد عليهم بالقول «عندي تعليمات بمنع الناس من الوصول الى الديوانية»، ورفض تلبية طلبهم.

حضور نسائي

بدأ الليل يخيم فازدادت برودة الجو، واخترق برودته صوت عوض دوخي الشجي آتياً من سماعات وضعت على سطح الديوانية وهو يشدو «وسط القلوب يا كويتنا»، فازداد الجو دفئاً بفعل الحماس الذي اشتعل فجأة، وبدا أن سيل الناس الذين بدأوا بالتقاطر على مقر الديوانية كان هائلاً، قدر في ذلك الوقت بنحو 9000 مواطن، كان معهم ما يقارب 150 امرأة، وهو أكبر وجود نسائي في أي من تجمعات الاثنين. واتفق النواب على تجميع الناس في الشارع الموازي للديوانية ونقل التجمع من الديوانية إلى الساحة، وهو ما تم فعلاً فاصطف آلاف الأشخاص في مساحة ترابية صغيرة إلى أن أغلقوا الشارع بسبب كثافة عددهم.

«رجاء يا شباب قعدو»، أتى صوت رئيس مجلس الأمة أحمد السعدون من مقدمة الجماهير عبر مكبر يدوي للصوت، وتوقفت موسيقى عوض دوخي، «الإخوة النواب يطلبون منكم الجلوس»، فكان في طلبه هذا يعلن بداية اللقاء، الذي استهلّه بالأسف على منع الحضور من دخول الديوانية، مبيناً أن هذه هي المرة الثالثة التي يتم بها ذلك بعد تجمع ديوانيتي العنجري والشريعان، وموضحاً أن ما يجمع الحضور لهذه التجمعات هو حب الكويت «فحب الكويت لا يمكن أن يكون مجرد شعار يرفع أو كلمة تردد، وإنما حب الكويت يكون بحب دستورها والتعلق بدستورها وحب نظام حكمها»، ومؤكداً أن «شكل الدولة في الكويت وراثي في ذرية المغفور له مبارك الصباح»، فصفق الجمهور لذلك، وأكمل السعدون «وأؤكد أيضاً أنه لا يمكن القبول ولا التجاوز ولا بأي شكل من الأشكال على المادة السادسة التي تقول إن نظام الحكم في الكويت ديمقراطي السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً»، فصاح أحد الموجودين «صح لسانك يا السعدون!» وصفق الجمهور. وأضاف السعدون «هذا الكلام لا نقوله خشية أو مجاملة أو نفاقا وإنما نقوله التزاماً بعهد ووعد، ونقوله التزاماً بميثاق»، مبيناً أن ما يقال في تجمعات الاثنين هو نفسه ما يتحدث فيه الناس في كل ليلة.

وكشف السعدون عما شهده اجتماع كتلة النواب في اليوم السابق لتجمع كيفان، موضحاً أن «أحد النواب جاء للاجتماع وقال إن الأخ وزير الداخلية طلب منه الحضور لينقل له ما يدور في اجتماعنا، وقد أبلغنا زميلنا أننا نتمنى عليك أن تنقل للأخ الفاضل وزير الداخلية دعوة صادقة من إخوانه وزملائه لحضور جميع اجتماعاتنا»، فضج الحضور بالتصفيق، وأكمل السعدون «وإن لم تكن هذه الدعوة قد وصلت إليه فنحن نريد لكل من يسمعها أن يوصلها إلى الأخ الفاضل والأخ الكريم وزير الداخلية وهي والله دعوة صادقة له، ولعل أقرب لقاء لنا ندعوه إليه هو يوم غد على الغداء بإذن الله في الديوان عندي»، وتواصل تصفيق الجمهور.

شعب واحد

كان واضحاً أن أجواء التجمع كانت مشحونة، وتحمل بعض روح الانتصار لدى الموجودين بعد أحداث الأربعاء الماضي وإطلاق سراح أحمد الشريعان، فحرص السعدون على تهدئة الجمهور الكبير الموجود وطلب منهم الإذعان للإجراءات الأمنية، قائلاً: «بينما نرى هذه المظاهر غير المستحبة، وأقصد بها الأسلاك الشائكة ووراءها إخوة أفاضل لنا يلبسون الزي العسكري ويؤلمنا ذلك لأنهم إخوة أفاضل، إلا أن ما يسعدنا هو التزامكم والتزامنا جميعاً بالرغم من قناعاتنا بأن هذا الأمر غير مستحب، إلا أن المهم جداً أن نلتزم بألا يتجاوز أي واحد منا ما منعنا عنه، لأننا إذا كنا نطالب بالدستور فإننا أيضاً نحترم بعض الإجراءات حتى وإن كانت هذه الإجراءات غير مستحبة وحتى وإن كانت هذه الإجراءات نعتبرها غير قانونية»، مشيراً إلى أن المطلوب هو إيصال رسالة لمن اتخذ مثل هذا القرار «ولمن اعتقد أنه يمكن أن يصطدم الكويتي بالكويتي المدني بالعسكري» بأن ذلك بإذن الله لن يقع وكلنا شعب واحد.

وحرص السعدون في نهاية كلمته على إعلان أن لقاء النواب المعتاد يوم الاثنين في الأسبوع القادم «سيكون عند الأخ الكريم عباس بن حبيب مناور السويلم في منطقة الفروانية، خلف مجمع مناور، قطعة ثلاثة».

السلطة غير المقيدة

ثم جاء دور المتحدث الثاني في اللقاء الدكتور عبدالله النفيسي، الذي أشار إلى الخيارات التي تواجهها البلاد، «فالخيار الأول هو خيار السلطة غير المقيدة حيث يتركز القرار بيد أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، يمنحون ويمنعون، ينهون ويأمرون، ويوزعون النفوذ والثروة على من يشاؤون دون رقيب ولا حسيب»، فضج الجمهور بالتصفيق، وأكمل النفيسي «أيها الإخوة، في ظل السلطة غير المقيدة ينتهك المال العام، ويتمهد الطريق للتفاوت الكبير بين فئات الناس في الدخول والممتلكات والامتيازات، ويأخذ من لا يستحقون مالاً ويحرم من يستحق، وفي ظل السلطة غير المقيدة تنمو طبقة من الطحالب والمنافقين والسحرة الذين يزينون كل قبيح ويقبحون كل جميل، في ظل السلطة غير المقيدة تنتهك حقوق الإنسان وحرياته، وفي ظل السلطة غير المقيدة تتعطل استقلالية القضاء وتجرح حرمته وحياديته، ويتوقف تنفيذ الأحكام إن كانت تنصف الضعيف من القوي، في ظل السلطة غير المقيدة تتحول الصحافة من وسيلة إعلام للناس إلى وسيلة دعاية للنظام، وفي ظل السلطة غير المقيدة تتحول عملية التشريع من سن للقوانين التي تحمي المصالح العامة إلى سن للقوانين التي تحمي المصالح الخاصة. أما الخيار الثاني وهو الخيار المضيء المنير الذي يبشر به هذا التحرك الشعبي السلمي العلني، فهو خيار السلطة المقيدة بدستور 1962 الذي وضعه المجلس التأسيسي المنتخب مباشرة من الشعب الكويتي صبيحة 30/12/1961 وذلك في عهد المرحوم عبدالله السالم الصباح»، فقاطعه الجمهور بالتصفيق والهتاف «صح لسانك يا دكتور... عاش عاش الدستور».

وبيّن النفيسي أن أي عبث بالدستور هو عبث باستقرار الكويت، معرباً عن اعتقاده أن الأزمة الحالية لا تحل إلا بالدعوة إلى انتخابات يقرر فيها الشعب الكويتي مصيره بيده من دون العبث بقانون الانتخابات أو بالدوائر الانتخابية. ثم حيا النفيسي جمعيات النفع العام التي أرسلت برقيات استنكار لإجراءات السلطة، شاكراً الجهور على حضوره، ومؤكداً اللقاءَ المقبل «في ديوانية الأخ أبومطلق (النائب عباس مناور) في الفروانية».

راحة العسكر

وعاد السعدون ليستلم الميكروفون الأحمر من النفيسي، بينما كان الجمهور ينصت بصمت، موجهاً الشكر «للأخوة العسكريين الذين اضطروا وبكل أسف أن يتواجدوا قبلنا بساعات ولكن ليس هذا منا، فلعلهم سمعوا ما قلنا... والله لو كنا داخل الديوان لأرحناهم أو لأراحوا من كلفهم، فما كان سيقال ليس أكثر مما قيل في هذا المكان»، شاكراً كذلك النائب فيصل الصانع «الذي لا يستطيع أن يقف معنا لأنه محاصر داخل الديوان»، كما وجه الشكر «لنسائنا من أخوات وزوجات وأمهات فاضلات»، فصفق الجمهور طويلاً للتواجد النسائي اللافت. ثم ختم قائلاً «نشكر الله الذي من علينا بعد البرد القارس صباح اليوم بهذا الجو الجميل في تجمعنا.. شكراً لكم جميعاً وإلى اللقاء الأسبوع القادم».. لتعود أهازيج عوض دوخي من داخل الديوانية المحاصرة ويردد صوته «سطَّر الدستور كفاحنا... مجلس الأمة أملنا» فينصرف الحضور بهدوء.

صيحات الجماهير في تجمع كيفان

• وحدة وحدة وطنية... مجلس أمة وحرية

• الكرامة والأفكار... ما تنشرى بالدينار

• لا تعديل ولا تنقيح... إن طاح الدستور نطيح

• ما نلف ولا ندور... ما نبي غير الدستور

• قالو عنا قوم مكاري... يابوا قوات الطواري

• لازم يرجع لنا الحين... دستور اثنين وستين

• شعبنا ويا نوابه... مجلس بانت ابوابه

• تطالبونا بالقانون... وانتو عطلتوا الدستور

• ديمقراطية الكويت... تراها مطلب كل بيت

• لا شرطة ولا حراس... يطقون عيال الناس

عوض دوخي ألهب المشاعر  من ديوانية الصانع

سرى في تجمع تلك الليلة جو احتفالي أطلق المشاعر الوطنية الملتهبة بين الجمهور، فقبل بدء الخطب، وبينما كان الجمهور يكتمل، لوحظ فتح سماعات فوق سطح منزل الصانع المحاصر، ليأتي عبر أثيرها صوت موسيقى جميلة أعقبها عوض دوخي ينشد أغنيته الشهيرة:

وسط القلوب يا كويتنا وسط القلوب

نلتي المطلوب هنيالك نلتي المطلوب

ألف سهلة وألف مرحى

بيوم العيد والفرحة

شيد الكويت صرحه وسط القلوب

رافع البيض الصنايع

يرعى للخضر المرابع

سود أيام المواقع حمر العطوب

سطر الدستور كفاحنا*

بمجلس الأمة أملنا

والأمير توج نصرنا وعدى الخطوب

*مقطع تكرر أكثر من مرة خلال الأغنية.

(يتبع)

شاهد ملفات فيديو توثيق حلقات ديوانيات الاثنين على يوتيوب

نقول لمن يعتقد أنه يمكن أن يصطدم الكويتيون مدنيين وعسكريين إن ذلك لن يحدث لأننا جميعاً شعب واحد - أحمد السعدون

وزير الداخلية حاول تجنيد أحد النواب لينقل له أخبار الاجتماعات فعرض السعدون على الوزير أن يحضر اجتماع النواب على الغداء غداً في ديوانيته

في السلطة غير المقيدة بالدستور يتركز القرار بيد أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة... يمنحون ويمنعون... ينهون ويأمرون... ويوزعون النفوذ والثروة على من يشاؤون من دون رقيب ولا حسيب - د. عبدالله النفيسي
back to top