الديـن والشرعيـة السياسيــة 1

نشر في 06-05-2008
آخر تحديث 06-05-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

بعد نجاح حركات التحرر الوطني واستقلال الدول الحديثة بدأت إعادة بناء الدولة الموروثة من الحقبة الاستعمارية ببرنامج للتحديث والتنمية واعتمادا على التخطيط والتصنيع. وخرج التسلط التقليدي من الموروث القديم لتأسيس دولة تقوم على الزعيم الأوحد، وتحكم باسم الحزب الواحد، وتدعو إلى الرأي الواحد.

ليس الدين فقط هو مجموعة الشعائر والعبادات أو العقائد والإيمانيات أو المؤسسات والهيئات أو الأماكن والأزمنة المقدسة أو الأعياد والموالد أو الطرق الصوفية أو رجال الدين إلى آخر ما يدرس في علم الاجتماع الديني وفي علم التاريخ المقارن للأديان. وليس هو ما يتحقق في التاريخ من حضارة وعمران أو من حروب وخراب، وكلاهما باسم الدين. وليس نظما سياسية «ثيوقراطية» تدّعي أنها تحكم باسم الله أو باسم الدين أو باسم الشريعة، وإلا كان الكيان الصهيوني دولة دينية، وكانت النظم السياسية القهرية التسلطية دولا دينية. وليس مجموعة من القوانين والشرائع تتقدمها الحدود، القتل وقطع الأيدي والأرجل والرقاب والصلب على جذوع النخل والاتهام بالكفر والردة. وكلها صور سلبية وممارسات فعلية للتدين الشعبي والرسمي.

إنما الدين أيضا هو الموروث الثقافي المتراكم عبر التاريخ والذي تحول إلى ثقافة شعبية اتّحدت مع خبرة الشعوب التي عبرت عنها في الأمثال العامية وسير الأبطال والقصص الشعبي. إذ يستشهد العامة والخاصة على حد سواء بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية كما يستشهدون بالأمثال العامية والأقوال المأثورة. كلاهما حجة سلطة لفهم الواقع يقوم على النقد الاجتماعي وإيجاد مبررات للسلوك الفردي والجماعي. هو الذي يحدد رؤية الناس للعالم، ويعطيهم موجهات للسلوك. هو المخزون النفسي الحاضر عبر الماضي والمتواصل معه من دون إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر كما فعلت أوروبا في بدايات عصورها الحديثة أو تجاور وتقسيم عمل بينهما، الموروث للحياة الخاصة، والحداثة للحياة العامة. وهو موقف له ما يشابهه في معظم الثقافات الدينية، الهندوكية والبوذية والكونفوشية واليهودية والمسيحية مباشرة أو عن طريق غير مباشر في الاتجاهات الحديثة منها.

وفي تاريخنا الحديث خرجت معظم حركات التحرر الوطني من الموروث الثقافي والإسلامي، فقد حدد الأفغاني هذا المشروع التحرري: الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج، والقهر في الداخل. وعلى إثره قامت الثورات التحررية الإسلامية ممثلة في الثورة العرابية في مصر في 1882، والثورة المهدية في السودان. واستمر الإسلام الوطني عند قادة ثورة 1919 من تلاميذ محمد عبده، تلميذ الأفغاني، بل تحول إلى نهضة شاملة وتحديث عصري، وحدث نفس الشيء في المغرب العربي عند علال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي في الجزائر، والسنوسي وعمر المختار في ليبيا، وحسن البنا وجماعة الإخوان في مصر وانتشارها في الوطن العربي، وفي الشام عند الكواكبي بحثا في «طبائع الاستبداد» عند الحكام، واللامبالاة والفتور في «أم القرى» عند المحكومين. وفي فلسطين عز الدين القسام ثم حركتا المقاومة الإسلامية «حماس» و«الجهاد». وفي لبنان الأحزاب الإسلامية خصوصا «حزب الله» الذي قاد حركة تحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني. وفي اليمن الأئمة الأحرار مثل زيد المشكي. بل إن الوهابية في ظروف شبه الجزيرة العربية كانت حركة إصلاحية ضد مظاهر الوثنية والشرك مثل التوسط بين الإنسان والله بالأولياء وبالرقى والطلسمات والأشجار والعظام المباركة. ثم تحولت إلى وهابية سياسية لتوحيد القبائل وتأسيس مملكة موحدة قبل أن تتحول الوهابية إلى سلفية دينية وقهر سياسي حتى ولدت الوهابية الجديدة التى تقبل الوهابية السلفية في العقيدة ولكن ترفض فساد النظام الحاكم ووجود القوات الأجنبية على أراضي البلاد. وساهم الإسلام في حركات التحرر الوطني في آسيا، في إندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان. وبلغ الذروة في الثورة الإسلامية في إيران، ووصول كثير من الأحزاب الإسلامية إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع كما هي الحال في تركيا والمغرب وليس عن طريق الانقلاب كما هي الحال في السودان.

وبعد نجاح حركات التحرر الوطني واستقلال الدول الحديثة بدأت إعادة بناء الدولة الموروثة من الحقبة الاستعمارية ببرنامج للتحديث والتنمية واعتمادا على التخطيط والتصنيع. وخرج التسلط التقليدي من الموروث القديم لتأسيس دولة تقوم على الزعيم الأوحد، وتحكم باسم الحزب الواحد، وتدعو إلى الرأي الواحد، والاختيار الأيديولوجي الواحد باسم القيادات التاريخية التي قادت حركات التحرر الوطني. وتنكرت لفرقاء النضال بالأمس، وبدأت تستأثر بالسلطة وحدها، والتخلص تدريجيا من باقي الفصائل. وتم حل معظمها إما بتهمة الانقلاب على نظام الدولة وإما من أجل الدخول كطرف في تحالف الحزب الواحد باسم الائتلاف الوطني أو تحالف قوى الشعب العامل. وظل الأمر على هذا النحو بالرغم من القلق في التنظيم السياسي القائم، وعدم اختفاء التنظيمات المهمشة أو اللاشرعية الخاصة، الإسلامية والماركسية. وطالما كان هناك مشروع قومي قادر على تجنيد الجماهير والدفاع عن مصالحها كانت الخلايا السياسية نائمة لا أثر لها وليس لديها القدرة على تجنيد الجماهير التى رأت في اختيارات الدولة الوطنية خير معبر عن مصالحها.

* كاتب ومفكر مصري

back to top