ميتافيزيقيا المكان

نشر في 10-08-2008
آخر تحديث 10-08-2008 | 00:01
 محمد الحجيري في كتابه «جماليات المكان»، يكتب المفكر غاستون باشلار: «إنسان آخر هو الذي منحني هذه الصورة، لكنني أشعر أنه كان بإمكاني أن أخلقها، بل كان علي أن أخلقها بالفعل، تصبح الصورة وجودًا جديدًا في لغتي، وتعبر عني بإحالتي إلى ما تعبِـر عنه، هنا يخلق مثل هذا التعبير الوجود». ليس شعر اللبنانية سوزان عليوان ببعيد عن هذه العبارة، فهي ترسم في كتابها الجديد "كل الطرق تؤدي الى صلاح سالم" صورة جديدة للشارع خريطة روحية او لنسميها ميتافيزيقيا المكان او الجغرافيا، وليس شعرها توثيقا للشارع بل ذاكرة انتقائية له، لأن الذاكرة لا توجد الا انطلاقا من الحاضر، فهي تحوّل أثار الماضي طبقا للمصير وللقراءة التي تقوم بها في الحاضر وللحاضر. تفترض الذاكرة النسيان، بينما يمتلك الأرشيف آثار ما وقع، ويدعي الاحتفاظ بها، وان كتبت عليوان ذاكرة انتقائية للشارع فهي زودتنا بصور التقطتها له تبدو بمثابة أرشيف له.

 سوزان عليوان شاعرة بعيدة عن الأضواء بعكس معظم الشعراء الذين يجعلون من مجرد ديوان لهم «جواز سفر» في المدينة والمحافل والمناسبات.

تبدو عليوان ابنة المدينة (بيروت) منهمكة بشغلها، لا تضع الشعر في الواجهة، تكتب الشعر من أجل الشعر، ترسم في ديوانها الجديد خريطة لامرئية لشارع صلاح سالم الشهير في القاهرة، هذه المدينة التي عاشت في كنفها عشر سنوات، وتعتبرها من أجمل المدن، لم تشعر بالغربة فيها، بل كانت جزءا من نسيج حكايتها والتقت الكثير من شعرائها الجدد.

 عادة نقرأ أن أقطاب الرواية يكتبون عن الحيّز الجغرافي، خصوصًا الحارات في روايات نجيب محفوظ، لكن الشعراء غالبا ما يترفعون عن الأمكنة والجغرافيا ويختارون عناوين «الفضائية» او «الميتافزيقية» في أعمالهم، ربما ما نلاحظه في دواوين بعض الشعراء الجدد ومنهم عليوان اختيار الحيز  في المدينة، والكتابة عن نبضه ومعانيه ومعالمه وشرطته ولافتاته وغسله. مع أنها لم تكن من سكان شارع صلاح سالم، لكنه يعني لها الكثير في لاوعيها، تبحث عن علامات شارع كان بالنسبة اليها بوابة الدخول الى القاهرة و»عتبة الفراق» عنها، تسير فيه السيارات مثل نهر، تقول في الديوان:

«ليسَ الأسَى

النافذةُ جُرْحُ جدارٍ

البابُ مرآةٌ مُغْلَقَة

تعلمينَ

في العَثْرَةِ حجرٌ يُرْشِدُنا

على جانبي الأيسر

حافَّةُ السريرِ والعالم

الحائطُ وجهٌ قريبٌ

أقسو كي لا يكسرَني حناني».

غادرت عليوان القاهرة عام 2000، لكنها لم تكتب عن تلك المدينة الا بعد سنوات، كأن الكتابة بالنسبة اليها هي محاولة مقاومة للنسيان، او عودة جديدة إلى المكان في اللاوعي، او نوستالجيا الى المكان الذي ما زالت تحبه وتشتاق الى زيارته، وهي التي عاشت طوال فترة التسعينات في تلك المدينة، وسبق لها أن كتبت عن بيروت ولندن في كتابها «كراكيب الكلام»، وثمة من قارن بين كتابها وكتاب «حزن في ضوء القمر» للشاعر السوري الراحل محمد الماغوط.

عنونت عليوان كتابها على هذا النحو لأنها كانت برفقة صديقاتها في سيارة، وكلما قطعن شارعًا كن يكتشفن أنهن ما زلن في شارع صلاح سالم، إزاء هذا قالت: «كل الطرق تؤدي الى صلاح سالم» وأصبح عنوان كتابها، رسمت غلافه بيدها واعتادت الرسم من موقع الهواية، وهو قصيدة واحدة بمقاطع كثيرة.

back to top