محطات في حياة المسافر (1) عمر الشريف... طائر الشرق السعيد!
من الإسكندرية إلى هوليوود، حوار مفتوح كتبه عمر الشريف بجرأة المقامر الذي يعرف قوانين اللعبة جيداً، ويعرف كيف يؤديها بالمستوى نفسه من التماهي الذي يسمح له بتغييب الحواجز القائمة بين التناقضات، ويجعله أقرب إلى القدر منه إلى الغموض... رحلة طويلة وحافلة رسمها ابن العرب وتوغَّل فيها بخطوات متوهجة من الخصوصية والحميمية إلى «بلاد الخواجات» حلمه وعشقه الذي سحبه خلفه الى آخر الدنيا.عمر الشريف «الخواجة» كما أطلقوا عليه عند إطلالته السينمائية الأولى في مصر، «صاحب اللكنة المميزة، والعينين الغارقتين في حزن، حنان ورقة أخاذة في السحر...»، هو الخواجة «ابن الإسكندرية ومدينته المفتوحة على البحر... طائر «الشمال» المتطلع دائماً بشغف إلى «الشمال». جاءت عائلته من سورية في الشمال وعاشوا في الإسكندرية شمال مصر. حين استطاع التحليق، طار فورا إلى شمال آخر أبعد... إلى أوروبا ومنها إلى أميركا.
عبر الطائر الشمالي الحدود الفاصلة بين الشرق والغرب وراء «نداهة أحلامه» التي كانت تناجيه لفضاء أوسع، فصار نجماً فارقاً في سماء العالمية هادياً للآخرين الحالمين بجموح مثل جموحه، ومطمعاً للمغامرين وصائدي الأخبار، وذوي المخيلات الواسعة في إثارة الفضائح.هل كان الشريف خائناً وعميلاً للغرب، دفعته شهوة الرغبة في العالمية إلى التمسح في اليهود، وارتكابه نزوات سينمائية مناقضة لقيم مجتمعنا العربي؟ أم كان فناناً كبيراً رفع اسم مصر في السينما العالمية ومحافلها؟ الإجابة الحاسمة نجدها في مسار طويل من التحديات والأسئلة والتفاصيل الحياتية والإنسانية لفنان استطاع أن يصنع أسطورته الخاصة... الفاتنة.في حلقات «الجريدة»، نبحر في العوالم الساحرة لأسطورة عمر الشريف، ونتعرف الى تفاصيل غامضة في حياته، تكوينه الشخصي، أسرار عائلته، قصة حبه وزواجه وطلاقه من الفنانة الكبيرة فاتن حمامة، هجرته وغربته، وعلاقته بالقمار والنساء والسينما، حيرته بين حريته في الخارج وحنينه إلى وطن تركه برغبته وكامل إرادته، وأمور أخرى كثيرة صنعت من حياته رواية تستحق أن تُروى.اللغزمن الإسكندرية وإليها، يعود الشريف حاملاً لغزه الخاص الذي يستعصي دائماً على الحل أو إزاحة ستار غموض ساحر ميزه عن الجميع وجعله طوال الوقت «النجم الفارق»، تماما كما الإسكندرية، مدينته وسماؤه الأولى التي لم يرض عنها أبداً بديلاً.. هو «الفنان اللغز» والإسكندرية هي «النبع اللغز» للفن والسحر والمقاومة والتسامح والعجائب والتناقضات، هي بحر الدهشة الهادر، وهو فيها موجة ساحرة لا تهدأ.هنا على شاطئ بحر الإسكندرية، يقف الشريف شارداً ساهماً والغيم يتسع في عينيه، وكأنه خرج تواً من البحر المليء بالعجائب أو كأنه صورة من قصيدة شجية، صامتاً يصغي الى أغنية قديمة عن الإسكندرية بصوت جورج موستاكي، يحكي فيها عن طفولته في تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثلث سكانها في أوائل القرن الماضي من جنسيات وثقافات متعددة تعايشت مع بعضها في سلام، تغنّى بها سيد درويش، داليدا، كلود فرانسوا وحتى الشيخ إمام، مرورا بالحجار وغيرهم من نجوم الغناء «يا إسكندرية بحرك عجايب... ياريت ينوبني من الحب نايب... تحدفني موجة على صدر موجة... والبحر هوجة والصيد مطايب...». يشخص الشريف بنظره إلى الجانب الآخر من الشاطئ، حيث البلاد البعيدة التي تغرب في موانيها ومطاراتها وفنادقها سنوات طويلة قبل أن تجرفه أمواج الحنين وتعيده مرة أخرى .. لكنها لم تكن عودة الإبن الضال بل عودة الإبن النجم الذي استطاع أن يحجز لنفسه مكاناً على القمة ثم اختار الاستقرار في وطنه آخر المشوار.يعود عمر الشريف إلى الإسكندرية في مفارقة غريبة تشبهه تماماً، حيث كانت محطته الرئيسة في تصوير فيلميه الجديدين «المسافر» و{حسن ومرقص» الذي يتشارك بطولته مع النجم عادل إمام في مواجهة فنية ربما تأخرت كثيراً، كما يقول الشريف، وكانت ضرورية، كما يقول إمام، «لأنها ليست فرصة للوقوف أمام نجم عالمي وإنما أيضاً أمام فنان تعرض كثيرا للهجوم تماما مثلما تعرضت أنا».في فيلمه الثاني، يقدم الشريف صورة مباشرة للتسامح الديني في مصر، وفي الأول الذي تنتجه وزارة الثقافة المصرية يحكي «رحلة حياة» لشخص يعود بكل الحنين والاشتياق لوطنه، ويستعرض الرحلة بأبعادها الإنسانية المختلفة، وكأنه يتحدث عن الشريف نفسه أو يقدم صورة حديثة مستنسخة ترصد لحظة انتقالية مهمة في حياته، حين يأتي لاهثاً متخلياً عن هدوئه وثباته الملازمين له، ليعانق بحر ورمل وشوارع وطنه الأول الذي يعترف بحبه كلما أتيحت له الفرصة ويسميه «الوطن الأسطورة».لم تكن لشريف مشاهد في فيلم «المسافر» يصورها في الإسكندرية، لكنه أصر على السفر بحجة تحية زملائه في العمل، كان يريد أن يستعيد جزءاً من روحه التي لا يجدها سوى هنا في رمل وبحر الإسكندرية، وهي فرصته التي يقتنصها كلما كانت الظروف مواتية.على شاطئها، يتذكر الإسكندرية القديمة... مدينته المفتوحة بلا خوف أو قلق، تصيغ علاقتها بالآخر وبالعالم من دون تردد أو ارتباك من سؤال الهوية الذي ظل مطروحاً سنوات طويلة، فالمدينة التي اختلط فيها الأجانب بأهلها الأصليين كانت مركزاً لتفاعل وانصهار الثقافات والحضارات: يونانيون وأتراك ومالطيون وفرنسيون ومسلمون وأقباط ويهود... كلهم يتعايشون معاً ويتجاورون. كانت مدينة عالمية بلا شك، مثل اللوحة الجميلة المتداخلة الألوان التي رسمها إدوار الخراط في «ترابها زعفران»، «كان الطفل يجري إلى بيت أم توتو «الجريجية» في تقاطع شارعي اللبان والنرجس، كأنه يلوذ بمكان مسحور لم يكن في حسه تماماً معنى أنها جريجية. كان الاختلاف عنده من طبيعة الأمور، كان يشتري الفول من «التركي» بشاربه الأبيض الكبير المصفر قليلاً عند أطرافه من الدخان، وكان عندما يدخل بيوت جيرانهم المسلمين يحس بشيء من الرهبة، ومن الكونستابل «المالطي» الذي ينطلق بالموتوسيكل في شارع الترامواي...».في تلك الأجواء، لم يشعر الشريف المنتمي الى عائلة كاثوليكية ذات أصول غير مصرية بحاجز أمام إحساسه بالانتماء إلى الإسكندرية وإلى مصر كلها ثقافياً وحضارياً، وكغيره من ذوي الأصول غير المصرية، مسيحيين أو يهود، ولد في مصر وصار جزءاً منها ومن تاريخها، بل حتى الأجانب الذين عاشوا فيها كان لديهم الانتماء الذي عبروا عنه بتفاعلهم مع المجتمع.تضرب الأمواج الشاطئ أمامه، يتذكر الشريف مشاهد متلاحقة وسريعة من حياته الحافلة، منذ وطأت قدماه أرض الإسكندرية، وصرخته الأولى في حضنها، مشاحناته مع والده المتشدد دينياً ووالدته الجميلة المتحررة ورفضهما لعمله بالتمثيل ولأول قصة حب اكتشف خلالها حماسته المتزايدة للحياة، وأحلامه الأولى بالتمثيل والسفر والحرية والانطلاق، من صورته الأولى كفنان وسيم له نظرة وابتسامة ساحرة، إلى صورته الأخيرة كنجم عالمي حقق الأحلام كلها وصار أكثر نضجاً وتسامحاً كأفلامه الأخيرة الحاملة لتلك المعاني والمنسوجة كالدانتيلا بخبرة السنين الطويلة التي زادت شعره شيباً وزاده شيبه وسامة أكثر.ينظر الشريف إلى الأمواج الهادرة فيعرف أن ثمة ما يعكر صفو البحر، أو كما يقول عمنا الشيخ إمام عيسى من كلمات نجيب سرور: {البحر غضبان ما بيضحكش... أصل الحكاية ما تضحكش... البحر جرحه ما بيدبلش»، فيستدير ناحية المدينة وينظر إليها نظرة عميقة تخترق وتضم كل شبر فيها، ثم يبتسم في حزن ويقول: «نعم هي الإسكندرية، الصورة صورتها تماما كما أحببتها دائماً، أسطورة وخيال لوطن لم نصنعه نحن، لكنه هو الذي صنعنا، هو أبونا وأمنا، لم نشتره ولم نتبناه ولم يقنعنا أحد بحبه، لكننا وجدنا أنفسنا هكذا نبضاً في دمه ولحمه، لكن ثمة ما يشوش انتباهي عندما أنظر إليها الآن، فالصورة تغيرت.. فيها شيء لا أفهمه... لا أعرفه... لا أعرف ماهو؟» كلام الشريف لا يعبر عن درجة من درجات التشوش والارتباك فحسب، بل عن درجة ساخنة من التوتر والاستفزاز، يشغله سؤال رومانسي حول التغير العنيف الذي حدث لمسقط رأسه، فهو لا يراها الآن بصوت سيد درويش أو المطربين والشعراء الذين غنوا لها وعنها أو كما وصفها قلم إدوار الخراط أو إبراهيم عبد المجيد أو حتى عين يوسف شاهين. «ثمة فجوة كبيرة بين الماضي والحاضر، فجوة يبدو أنها اتسعت أكثر من اللازم لتدفن الماضي الجميل ولتطفو على السطح صورة «ملخبطة»، لحاضر غريب» كما يقول الشريف، «ليس ملكنا ولا من اختراعنا ولا نريده لأنه شوه جمال المدينة، جمالها الداخلي قبل الخارجي. ثمة شيء مهم فقدته روح الإسكندرية... ما زلت لا أعرف».يحاول الشريف أن يربط بين إحساسه الجديد بالمدينة التي عاد ليستكشفها، تلك المدينة التي شهدت أحلامه الأولى والتي شكلت شخصيته ووجدانه الإنساني والفني، فالصورة القديمة هي جنّته المفقودة كآثار الإسكندرية المدفونة والغارقة في البحر من دون أن تجد من ينتشلها ويعيد إليها الروح. يقول: «لا أصدق أن تلك هي الإسكندرية، هل هي أول مدينة مصرية وعربية تتعرف الى اختراع السينما؟ هل هي المدينة التي حضر لها من فرنسا الأخوان لوميير اللذان اخترعا السينما وقدما فيها أفلامهما الأولى، البلد التي شهدت أول عرض سينمائي وأول سينما، وصوِّر فيها أوائل الأفلام في العالم كله ، البلد التي خرج منها المخرج محمد كريم وتوجو مزراحي ومحمد بيومي وفاطمة رشدي وشادي عبد السلام ويوسف شاهين وغيرهم وغيرهم؟ لقد تغيرت ملامح المدينة وأيضا روحها».من جملة صادمة لغريب عابر يرى أن الفن حرام، يتأكد الشريف أن التغير أصاب مدينته الجميلة في مقتل، فهي لم تعد الحاضنة للفن والتعدد الثقافي الذي تميزت به وصار النسيج الغالب لساكنيها. يوضح الشريف: «لست متشائماً، لكن الماضي فعلا كان أجمل وأنقى، وفي اعتقادي أن هذه كانت طبيعة الإسكندرية منذ أن أنشأها الإسكندر الأكبر، بالتأكيد هي ليست رملاً وبحراً، لكنها أيضاً بشر جاؤوا إليها من كل مكان عاشوا فيها واعتبروها وطنهم، وكان ذلك أجمل ما فيها».على قدر البساطة التي يطرح من خلالها النجم العالمي مشاعره تجاه مدينته أو جنته المفقودة كما وصفها، إلا أنها تحتوي على قدر مماثل من الوعي بأزمة مدينة ضربها إعصار التغيير فلم يعيدها إلى الوراء, حيث كانت تبدو الصورة أجمل، وإنما زحزحها من مكانها ونقلها بعنف وبلا هوادة لمكان آخر ليس مكانها ولم يخطط لها، فأفقدها هويتها الأصلية وملامحها القديمة وروحها التي خلقت عليها، حتى صارت الآن مجرد فكرة أو ذكرى ردمت برياح النسيان... صورة وهميَّةالإسكندرية ليست من وحي خيال الشريف ولا من اختراعه كما قالها بنفسه، لكنها صارت بالنسبة إليه إحساساً شخصياً، حالة وجودية، فالتعدد الثقافي والحضاري والجاليات الأجنبية التي تحدث عنها، لن يجد من ذلك كله سوى مجرد أسماء على بعض المحلات التجارية حين يسير قليلاً في شوارع وسط المدينة، فالصورة القديمة صارت صورة وهمية، بينما في الواقع هناك إسكندرية أخرى تماماً لم يعرفها الشريف أبداً وجرحته حين احتك بقشورها من الخارج، وعلى الرغم من حماسته للإسكندرية القديمة كصورة جميلة ضاعت ملامحها بفعل الزمن أو حتى عوامل التعرية، كما يتندر أو يسخر البعض، فإن صورة الماضي، على ما يبدو دائماً، تكون أجمل مهما كان تحمل من جراح.صحيح أن الإسكندرية كانت مدينة عالمية مفتوحة، اتسعت للأحلام وكذلك للاختلاف وكانت فيها الحياة على قدر هذا الاتساع، غير مرتبطة بدين أو جنسية أو لون أو أصل، فالجميع انصهر في بوتقة واحدة، لكن الإسكندرية كانت أيضاً جزءاً من مصر تأثرت بتحولاتها التاريخية دائماً، ذاقت الآلام في ظل الاستعمار، واندلعت فيها نيران المقاومة تتحدى استعماراً يخطف حرية أبناء البلد ويتعالى عليهم، يعرف أهل الإسكندرية جيداً كيف يميزون بين من جاء ليستعمرهم ويسرق وطنهم منهم وبين من جاء يعيش بينهم كواحد منهم، لذلك لم تنقطع ثوراتهم ضد الاستعمار، ولم ينته تسامحهم مع الغرباء، ربما لا يعرف الشريف بكل ذلك، لأنه يتعامل مع الإسكندرية والماضي على طريقة المسافر والمهاجر الذي يشتاق إلى أرضه الأولى ويرى صورتها دائماً أجمل، وربما لا يعرف أيضاً فيلماً تسجيلياً عنوانه «مافيش داريل»، أخرجه الفرنسي نيكولاس باري، تناول فكرة أن الإسكندرية التي كتبها الروائي والشاعر البريطاني لورانس جورج داريل (1990:1912) في رباعيته الشهيرة «جوستين – بلثازار- ماونتوليف – كليا» لم تعد موجودة. إنها الآن مثلها مثل المدن الأسطورية، سمرقند وطنجة، مدن لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، أو الكتب، أما في الواقع فهناك مدينة أخرى، ليست الإسكندرية التي بناها الإسكندر الأكبر وشهدت ميلاد كليوباترا أو إقليدس أو سيد درويش وعبدالله النديم وجمال عبد الناصر، ولم يعش فيها أفلاطون أو كفافيس و.. غيرهما، فهذه صورة لمدينة قديمة مسجونة في إطار الذكريات الأقدم.ربما لا يعرف الشريف ذلك كله ولا يدرك سبب التغيير ولم يقرأ، ولو عابراً، ما كتبه ابراهيم عبد المجيد، الكاتب والروائي السكندري في كتابه «غواية الإسكندرية.. ما وراء الكتابة»، حين قال: «من قديم الزمان، تشهد الإسكندرية هجرات داخلية من النهر إلى البحر، أي من الريف، الدلتا والصعيد، إلى الإسكندرية، لكن المهاجرين كانوا يذوبون فيها تدريجيا، منذ نصف قرن أخذت الهجرات تزداد بسرعة كبيرة، ومنذ ثلاثين سنة ازدادت بشكل كبير مع انحطاط مستوى المعيشة في الريف وعجزت المدينة عن الاستيعاب الروحي لهؤلاء المهاجرين، فعاشوا فيها ويعيشون محتفظين بثقافتهم الريفية ولهجاتهم... يتمركزون في جنوب المدينة - هم الغالبية، 4 ملايين ريفي مقابل مليوني سكندري، والكارثة أنه منذ 30 سنة أيضاً حدث في البلاد كلها غزو ثقافي رجعي... نالت الإسكندرية مثل غيرها نصيبها منه، وهكذا صارت المدينة مثل برج بابل».لعل الشريف لم يتابع الفتنة الطائفية التي اندلعت في السنوات الأخيرة في الإسكندرية، ليتأكد أن الصورة فعلا تغيرت، وأن ثمة سؤالاً صار مطروحاً في الشارع الإسكندري: مسيحي أو مسلم؟. سؤال بالتأكيد لو علم به سيزعجه ويؤرقه الى النفس الأخير وهو الذي لم يصادفه في أيام الشباب من يسأله: إنت مصري ولا خواجة؟ في ظل الوجود الأجنبي الكبير حينذاك، هل من الممكن أن يأتي من يسأله بهذه المباشرة المزعجة: أنت مسيحي أو مسلم؟، لكنه على رغم الشك في عدم معرفته بذلك كله، يدركه ويشعر به بإحساسه وبمجرد نظرة عابرة الى مدينته وهو يقف على شاطئها، إنه الخط المفتوح بين الأحباء على موجة النوستالجيا التي تكشف المفارقة بين الإسكندرية التي كانت والتي أصبحت.لم تعد الصورة فاتنة، ذلك ما أدركه الشريف بنظرته الأولى التي أصابت قلبه وجعلته يلجأ إلى نهر الذكريات لعله يعثر ولو على ملمح واحد من جنته القديمة ويستطيع أن يتلمس طريقه إلى «إسكندريته» المفقودة... «إسكندرية ماريا وترابها عفران» و{صبية مهما يطول الزمان»، يريد أن يستعيد قدرته القديمة على غرام مجنون بمدينة منحته الكثير وأسكنها هو في قلبه. يؤكد الشريف: «لو لم أولد في الإسكندرية لكنت خسرت الكثير، فأنا عاشق لذلك البلد لأقصى درجات الغرام، لا أعرف هل الإسكندرية هي التي صاغتني بتلك الصورة، أم أنني خلقت على ذلك النحو، المؤكد أنها مدينة تصاحبني دوما وفي كل مكان أذهب إليه، إذا ما سافرت أو رجعت تلازمني كأنها في دمي، كما أنا في دمها».الإبن المدللعمر الشريف ابن الإسكندرية وعاشقها هو نفسه ميشيل شلهوب، ينحدر من أسرة ارستقراطية، درس والداه في مدارس الرهبان والراهبات، سعى الأب وكان أحد أكبر تجار الأخشاب في مدينة الإسكندرية، إلى إعداد ابنه ليكون شخصاً مرموقاً في عالم التجارة والمال، فأدخله المدارس الأجنبية واجتهد في إلحاقه بأبناء الصفوة، وحين ازدهرت تجارته استقر مع أسرته في حي البرجوازية القاهرية يومئذ، غاردن سيتي، يجمع من التجارة ثروة كبيرة بمقاييس ذلك العصر.أما والدة الشريف فتنتسب إلى عائلة مسيحية، أحرزت بالنسبة إلى جيلها ثقافة عالية وذكاء براقًا، وكان الإبن ينتسب إلى المدارس الأجنبية التي لم يع فيها حضوراً عربياً تقريباً، فزملاؤه أرمن، ويونانيون، ويهود مصريون، وأقباط، وربما عدد غير قليل من أولاد الإنكليز، كان الشريف يؤمّ النوادي الرياضية الراقية ليمارس الرياضة البرجوازية، مثل التنس وركوب الخيل، فبرنامجه اليومي كان موزعاً بين المدرسة ونوادي الرياضة وزيارة الكنيسة.يقول الشريف: «عشت مع عائلتي حياة مرفهة منذ طفولتي، أرتاد الأندية الكبرى التي كان لا يدخلها سوى الأثرياء، مثل نادي الرياضة الملكي ونادي محمد علي، وما زلت حتى اليوم أتذكر هذه العمارة المؤلفة من طابقين وتقع وسط حديقة رائعة في حي كليوباترا بالإسكندرية، وعلى رغم الحب الشديد الذي كنت أحظى به من أبي وأمي، إلا أنهما كانا حريصين على ألا أنشأ مدللاً وأنانياً، لأنهما كانا يريدانني شخصاً مستقلاً وقوياً لا ضعيفاً واتكالياً، وأعتقد أنني كنت عند حسن ظنهما».نشأ الشريف إذن في أسرة أرستقراطية محظوظة، نعم أفرادها برفاهية العيش، علاقاتهم بالثقافة الغربية متينة، عاش في الإسكندرية ثم في القاهرة في بيئة الأقلية المسيحية النازحة من بلاد الشام، وهؤلاء ينقسمون إما إلى مثقفين أجادوا اللغات الأجنبية، وكان لهم دور رائد في تاريخ الترجمة والصحافة في مصر... وإما تجار أثرياء، وهم من المسيحيين العرب الذين عرفوا بعلاقاتهم القديمة مع أوروبا وأميركا، عبر التجارة، ومدارس الإرساليات التبشيرية، حيث كانوا يرسلون أبناءهم إليها لتعلمهم اللغات، وتربيهم على روح الانضباط والطاعة وتقديس الكنيسة.هنا كانت البداية الحقيقية للشريف الإنسان والفنان داخل بيت لأسرة ثرية بالإسكندرية، من أصل سوري مسيحي، حيث تلقى تعليمه في أرقى المدارس الخاصة، مثل « فيكتوريا كوليدج» المدرسة الإنكليزية التي ضمت صفوة المجتمع حينذاك والتي دفعته الى الفن، كذلك أهّلته لإتقان اللغة الفرنسية كتابة وقراءة وتحدثاً قبل أن يجيد الإنكليزية والإيطالية والإسبانية واليونانية التي تعلمها خلال أسفاره وتعرف الى أصولها في مدينته الإسكندرية التي كانت أيضاً انطلاقته الأولى نحو عالم التمثيل والنجومية والعالمية... أمور كثيرة تعلَّمها عمر الشريف من مدينته ومدرسته وأسرته، أثَّرت في شخصيته وتكوينه، وهو ما سنتعرف إليه تفصيلاً في الحلقة المقبلة.