المقاومة وبعض صورها

نشر في 26-12-2008
آخر تحديث 26-12-2008 | 00:00
 محمد سليمان الكلمة سلاح يُعيننا على صد عواصف الضعف والانكسار وصور المحو المختلفة، ويمنحنا في الوقت نفسه القدرة على التواصل والالتقاء بالآخر، وعلى السرد والقص وإطلاق طاقات الخيال، وتشكيل عوالم فنية ساحرة وممتعة، نقاوم بها انحطاط الواقع وقسوته.

على حافة العدم والمحو يتوهج الوجود وتتصاعد المقاومة ويستبسل الإنسان في الدفاع عن ذاته وحياته بكل الوسائل، مستعيناً بطاقات هائلة كامنة في أعماقه، يستفزها ويطلقها خطر تقليص الوجود أو محوه.

قبل شهور نشرت الصحف حكاية الفلّاحة الصعيدية المسنة التي هاجمها ذئب أثناء عودتها من حقلها إلى القرية، وأجبرها على الاشتباك معه في صراع هائل دامٍ عدة ساعات، قبل أن تتمكن من التغلب عليه وذبحه، رغم الجروح التي أنهكتها وبعض أصابع يدها التي قضمها الوحش، وأظننا لم ننسَ اللوحة البديعة التي رسمها في إحدى قصصه القاص الأميركي جاك لندن لذلك الصراع الهائل بين رجل وذئب يزحفان على الجليد جائعين ومنهكين ومشرفين على الهلاك، وكل منهما لا يرى في الآخر سوى الوجبة المنقذة من الجوع المهلك، والقادرة على ترسيخ وجوده، وتنتهى القصة بالذئب، وقد خارت قواه، وفقد القدرة على الزحف والمقاومة، وبالرجل وهو ينقض عليه.

بالإضافة إلى اليد وقوة الجسد والطاقات الكامنة فيه، هناك أيضاً قوة الكلمة المكتوبة أو المنطوقة، وقدرتها على الصد والمقاومة، وإزاحة البداوة والظلام والتوحش والنسيان الذي يعني الانفصال عن الماضي-الذاكرة- مستودع الجذور والتراث والتاريخ وعن الحاضر وأحداثه، وهو انفصال يزلزل الوجود ويقلصه، لذلك يحارب الإنسان النسيان، ويسعى بالكلمة واللحن والصورة وأحياناً بالعقاقير والمستحضرات الطبية إلى دحره وتنشيط ذاكرته:

«أكتب كيلا أنسى

الصمت بياضٌ

وأثرثر كي أتذكر أن البحر هناك

وأن السفن تسير

وتعرف كالأفيال نداء المرسى».

الكلمة إذن سلاح يُعيننا على صد عواصف الضعف والانكسار وصور المحو المختلفة، ويمنحنا في الوقت نفسه القدرة على التواصل والالتقاء بالآخر، وعلى السرد والقص وإطلاق طاقات الخيال، وتشكيل عوالم فنية ساحرة وممتعة، نقاوم بها انحطاط الواقع وقسوته، وأشير هنا إلى أحد أهم كتب التراث العربي وأكثرها شهرة وتأثيراً على الأدب العالمي وهو «ألف ليلة وليلة» وإلى شهرزاد التي واجهت طغيان شهريار الذي أدمن قتل زوجاته بالكلام، وبسيل من الحكايات التي تتوالد وتتداخل وتوسع دوائر الفضول والإبهار والانتظار واللهفة، وقد ظلت شهرزاد بحكاياتها الآسرة تؤجل تنفيذ قرار إعدامها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد آخر حتى استطاعت في النهاية صد خطر المحو، وإنقاذ نفسها وبنات جنسها وشهريار نفسه من مرضه وقسوته.

بسبب قوة الكلمة وقدرتها على التأثير تلجأ الشعوب في أوقات الشدائد والمحن إلى شعرائها وكتّابها ومثقّفيها القادرين على إيقاظ روح المقاومة، ورفع راية الصمود والتحدي، لذلك يتردد بين وقت وآخر السؤال القديم الجديد عن دور الشعر والأدب، ويتجدد الحديث عن شعر وأدب المقاومة وانفصال الشعراء والكتّاب عن هموم الواقع وقضاياه، واحتمائهم بالكهوف والأبراج، وينسى الناس أن معظم ما يكتبه المبدعون والشعراء هو في الواقع أدب مقاومة يشنّ حرباً على كل أشكال القمع والقهر والتخلف، وينسون انحسار القراءة الدائم واختناق الكلمة وتراجع سطوتها، خصوصاً في عصر السموات المفتوحة واتساع غابة الفضائيات التي انحازت إلى الإثارة وثقافة التسلية، ويحيلنا هذا الأمر إلى طبيعة الكلمة كسلاح ذي حدّين قادر على إيذاء من يعبث به أو يستهين بقدراته، ويبدو أننا في السنوات الأخيرة قد نسينا أدبنا وتراثنا وأمثالنا وحكمة رجل الشارع التي تقول «لسانك حصانك.. إن صُنته صانك.. وإن خنته خانك» وأدى هذا النسيان إلى شحوب الضمير الإعلامي وتصاعد البلبلة والفوضى، خصوصاً بعد تكاثر الفضائيات العربية وانشغال بعضها بالبحث عن مكان في الساحة الإعلامية، ولجوئه إلى الإثارة وإشعال الحروب الكلامية والطائفية، واستضافة بعض مشعلي الحرائق والفتن ودعاة التفتيت والهدم، في وقت تشتد حاجتنا فيه إلى التماسك وتعظيم المشترك وإبرازه، لمواجهة توحش العولمة والأعاصير السياسية والاقتصادية التي تهب علينا وتهدد وجودنا.

* كاتب وشاعر مصري

back to top