الوحي والواقـع

نشر في 15-09-2008
آخر تحديث 15-09-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

الخطاب الديني الذي يقوم على الوعظ والإرشاد معتمدا على الانفعالات الإنسانية، والإحساس بالذنب وضرورة التوبة وطلب المغفرة مع البكاء والنحيب كما يفعل الدعاة الجدد خطاب لا واقع له.

ليس الوحي مجرد كلام أو خطاب أو رسالة أو تبليغ بل هو تنزيل أي اتصال بين السماء والأرض، بين الله والعالم. الواقع هو مكان نزول الوحي كما هو معروف في «أسباب االنزول»، وتـُعاد صياغة الأحكام الشرعية طبقا لقدرات الواقع وعدم جواز تكليف ما لا يطاق كما هي الحال في «الناسخ والمنسوخ»، وقد كتب بعض الإصلاحيين من قبل عن «فقه الواقع».

ولفظ «الواقع» لفظ قرآني، ذُكر ومشتقاته أربعة وعشرين مرة بوضوح وقوة، منها إحدى عشرة مرة اسما، ولفظ «واقع» ست مرات، وواقعة مرتان. وذكرت مشتقاته وقعة، مواقع. وقد يكون الواقع شيئا حسيا مثل الجبل أو النار أو شيئاً بين الحسي والمعنوي مثل السماء أو يوم القيامة في المستقبل. والغالب هو الواقع المعنوي سلبا مثل العذاب والرجس والرجز والإثم أو إيجابا مثل الأجر والحق والقول والوعد والدين والكسب. والأكثر استعمالا هو وقوع الشيء من تلقاء نفسه مثل الحق والقول، فالحق فكر وواقع، ونظر وعمل.

الحق قول، والقول حق، والوحي حق نظراً، وواقع عملاً... الحق واقع، والواقع حق وهي الواقعة أي يوم القيامة، واقعة لا تكذب... الواقع صدق، وهو محك التصديق، وليس الصدق تطابق النتائج مع المقدمات كما هي الحال في المنطق الصوري بل هو وقوع الحق، مطابقة الفكر للواقع كما هي الحال في المنطق التجريبي. لذلك ارتبط الواقع بالصدق، وعدم الوقوع بالكذب. كما أن جزاء العمل إيجابا أو سلبا واقع نظرا لارتباط نتيجة الفعل بالفعل ارتباطا سببيا... إذا وقع الفعل وقعت النتيجة.

لفظ «الواقع» من أكثر الألفاظ قربا إلى الروح العربي الآن، تردد في الفكر العربي المعاصر، وأصبح شرطا لتقدمه في الفن والفكر والسياسة، وأصبح اللاواقعي نقدا، بل أصبح غياب الواقع في حياتنا الثقافية أحد الأسباب الرئيسة للتخلف. لا يعني الواقع ما هو شائع من ضرورة قبول الأمر الواقع بمعنى التسليم بكل ما يجري من هزيمة وفقر وقهر، فهذا إنكار للمقاومة.

فالمقاومة والرفض والاعتراض أيضا واقع، المثال واقع أكثر من الواقع، وكما قال فشته، الفيلسوف الألماني، من قبل: «لو آمنت بمثل أعلى أنه موجود، ثم اتضح لي في ما بعد أنه غير موجود، فليس خطئي أنني آمنت به، بل خطؤه هو أنه غير موجود».

الدين واقع بنص القرآن «وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ». فالدين ليس مجرد مواجيد للنفس ولا أحوال لها كما هي الحال في علم النفس الديني، مجرد تعبير عن رغبات وأمنيات وتمنيات لعالم أفضل، ظاهرة ذاتية خالصة. تتبخر بتغير أحوال النفس. الدين حلم لم يتحقق، وأمل صعب المنال، وقد يغالي البعض ويجعله من اختراع النفس وتجسيد للوهم، أسطورة من صنع البشر.

الدين واقع، له وجود فعلي في حياة الأفراد والمجتمعات، وليس وهماً أو أسطورة، يقوم على المسؤولية الفردية وقانون الاستحقاق الذي سماه القدماء «الكسب» أي ما يحصل عليه الإنسان بنفسه «مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ». فالإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن نتائج أفعاله، وهو واقع تحت المسؤولية القانونية. الإنسان حر عاقل مسؤول، في الدنيا والآخرة.

ولا شيء يستعصي على الوقوع حتى الجبال «وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ». فالوقوع أشبه بقانون الجاذبية، كل شيء يتجه نحو الأرض، الماء والطير والريح والحرارة والبرودة. إذن الخطاب الديني الذي يقوم على الوعظ والإرشاد معتمدا على الانفعالات الإنسانية، والإحساس بالذنب وضرورة التوبة وطلب المغفرة مع البكاء والنحيب كما يفعل الدعاة الجدد خطاب لا واقع له.

الواقع هو حياة الناس وما يدور فيها من فقر وجوع وعطش وعوز، لذلك كثيرا ما يتحدث القرآن عن الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأسرى وهم بتعبير المعاصرين «المعذبون في الأرض».

الواقع أيضا هو التوقع لنتائج الأعمال الإيجابية و السلبية، الثواب والعقاب، الوعد و الوعيد «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ». والأهم هو توقع العذاب يوم القيامة نتيجة لسوء الأعمال «إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ»، وليس مجرد تخويف أو ردع الغاية منه تربية النفس وإصلاحها. وهو ما يسأل عنه أصحاب السيئات «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ».قد يتنازل الإنسان عن الثواب، ولكنه لا يستطيع أن يتفادى العقاب.

إذن تصور الدين واقعا ليس كفرا وإلحادا وإنكارا للوحي، ولا مادية، ولا ماركسية، ولا وضعية، ولا براغماتية، ولا نفعية بل هو صلب الدين. الدين بلا واقع سماء بلا أرض، ماء معلق في الهواء، لا يروي ولا يُنبت.

* كاتب ومفكر مصري

back to top