التعليم والتنوير

نشر في 16-11-2008
آخر تحديث 16-11-2008 | 00:00
 محمد سليمان في مايو الماضي عقدت مصر مؤتمراً لتطوير التعليم والنهوض به، ثم قلصت في يوليو مخصصات التعليم في الميزانية الجديدة أكثر من مليار جنيه!! ووعدت في الوقت نفسه بتحسين رواتب المعلمين وإصلاح أحوالهم، الأمر الذي يعني المزيد من تآكل المبالغ المخصصة لإعداد وصيانة المدارس والنهوض بالتعليم ذاته، أو تحاشي المزيد من الانهيار والتردي، فإذا أضفنا إلى ذلك سعي الدولة إلى تقليص مجانية التعليم والهجوم الدائم عليها، واعتبارها إحدى سلبيات ثورة يوليو 52 أدركنا أن الظلام صار غاية وهدفاً لرجال الأعمال الذين يحكموننا، ولأنه كذلك أصدر وزير الإعلام في 15 سبتمبر الماضي قراره العجيب بإلغاء قناة «التنوير» وإيقاف بثها وتشتيت العاملين فيها، وهي القناة التي بدأت نشاطها عام 2001 كإحدى القنوات المتخصصة محاولة هز عقل ووجدان المشاهد بتقديم صورة أخرى للواقع صادقة وأمينة ومثيرة للغضب أحياناً، خصوصا عندما تستضيف معارضي النظام من الشعراء والكُتاب والمفكرين الذين كانوا في أغلب الأحوال يغنون أغنية لا ينتظرها بعض المسؤولين، ويتحدثون عن الفساد والركود والتخلف، ويتهمون النظام بتكريس اللامبالاة والظلام والفوضى وفتح الأبواب للتعصب والجهل والتشظي.

التعليم كان ومازال نقيضاً للظلام والتخبط والتشبث بأشباح الماضي والخوف من الآخرين، وهو أيضاً إطار التنوير وأساسه لكن المسؤولين في بلادنا لم يضعوا ذلك في حساباتهم، لذلك فشل مشروع التنوير بعد أكثر من قرن على بدايته، وهو المشروع الذي كان يسعى إلى جر مجتمعنا من ظلام وأساطير العصور الوسطى إلى قلب العالم الحديث، وكان من رواده «الأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وفرح أنطون، ولطفي السيد، وطه حسين وغيرهم».

وهكذا ظلت القضايا المحورية التي أُثيرت في عهد هؤلاء الرواد هي نفسها القضايا المُثارة الآن، فمازلنا ندور حول أنفسنا ونتحدث عن «الاستبداد، الديمقراطية، حقوق الإنسان، احترام التعددية» قضية الأصالة والمعاصرة وغيرها من القضايا التي لم نستطع بعد مرور أكثر من قرن حسم أي منها، لأننا على ما أظن كنا نتكلم عنها فقط ونعقد المؤتمرات والمهرجانات لكي نواصل الكلام... والكلام وحده لا يحقق حلماً ولا يغير واقعاً، وأظننا نعيش الآن في ما يسميه الكاتب الأميركي مارشال بيرمان «وهم الحداثة» أو «حداثة التخلف» التي تقوم على استعارة بعض مظاهر الحداثة من الآخرين، كبناء الجسور العملاقة والأبراج الشاهقة والشوارع البالغة الاتساع، واقتناء العديد من الأدوات والمعدات الحديثة دون الانشغال الحقيقي والجاد بتحديث التعليم وتشجيع القدرة على الابتكار وتطوير منظومة القيم والأفكار لتحديث المواطن والوطن في النهاية.

التعليم الجيد والحديث قاطرة عملاقة تجر الأمم إلى المستقبل وإلى الفاعلية والتأثير واكتساب احترام الآخرين، وقد كان الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون يعلن تقديره لإسرائيل لأنها، على حد قوله في كتابه «1999 نصر بلا حرب»، تنافس اليابان في الارتقاء الدائم بالتعليم، والجدير بالذكر أن رحلة التعليم والتنوير اليابانية بدأت مع رحلتنا الفاشلة قبل أكثر من قرن، فقد كان التعليم في اليابان متخلفاً وقديماً، ولا علاقة له بالعلوم والمعارف التكنولوجية في الغرب، وكان اليابانيون حرصاً منهم على أصالتهم ونقاء ثقافتهم والروح اليابانية يعزلون أنفسهم وبلادهم عن العالم، وعندما أجبرتهم أميركا بأساطيلها على فتح موانئهم وعقد المعاهدات التجارية والدبلوماسية اكتشفوا فداحة تخلفهم وبُعدهم عن العالم الحديث، ودفعهم هذا الاكتشاف إلى رفع راية التعليم والتنوير والسعى إلى اكتساب المعرفة من كل مكان في العالم، ويشير أمارتيا صن في كتابه «الهوية والعنف» الصادر عن سلسلة عالم المعرفة قبل شهور إلى المرسوم الأساسي للتعليم الصادر عام 1872 الذي أعلنت به اليابان الحرب على الأُمية «لن تكون هناك عائلة أمية أوعائلة فيها فرد أميّ».

هذا هو التحدي الذي قبلته اليابان مُعلنة أن شعبها لا يختلف عن الأميركيين أو الأوروبيين المعاصرين، والأمر كله يتعلق بالتعليم أو نقصه، ولأن اليابانيين ليسوا مُغرمين بالكلام مثلنا قادت الدولة مشروع التعليم وتحديث اليابان، فخصصت أكثر من 40% من ميزانيتها في بدايات القرن الماضي للنهوض به والانتقال إلى عالم الكبار القادرين على التأثير والهيمنة.

* كاتب وشاعر مصري

back to top