عوالم تزدهر


نشر في 24-05-2009
آخر تحديث 24-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان في الحروب تتراجع أهمية وقيمة الإنسان ليصبح مجرد واحد من ضحايا لا يحصون، ويتضاعف حجم الخراب والدمار عادة في الحروب الأهلية التي يفجرها ويقودها العمى والحقد والرغبة في الانتقام وإبادة الآخر. وقد كانت إفريقيا ومازالت ساحة لصراعات عرقية ودينية عديدة أسفرت عن ملايين المشردين والقتلى وعن خراب لا حد له. وبن أوكري قاص وروائي وشاعر نيجيري فاز بجائزة البوكر عام 1991 عن روايته «دروب الجوع»، وقد عايش في طفولته أحداث الحرب الأهلية في بلاده فانطبعت في ذاكرته ولوَّنت العديد من قصصه، خصوصا قصص مجموعته «نجوم حظر التجوال الجديد» التي ترجمها صبري محمد حسن وأصدرها في مصر المشروع القومي للترجمة عام 2004.

ومن الطبيعي أن تقترب بعض كتابات بن أوكري من أعمال كتاب أميركا اللاتينية الكبار، خصوصاً ماركيز، وأن نرى تجليات الواقعية السحرية في بعض قصصه ورواياته، فإفريقيا هي قارة السحر والأساطير والحكايات الخيالية المعبأة بالألغاز.

وقد تحدث أوكري كثيراً عن طفولته المترعة بالحكايات التي استمع إليها وكان عليه أن يرويها. وأشار إلى مركزية الخيال وأهميته في حديثه عن روايته «مناظر طبيعية داخلية» قائلاً: «الرواية فيها جرس غير عادي وحياة خيالية وأنت عندما تكون ذلك الفقير المسكين ستجد أن كل ما تبقى لك هو الخيال.»

وقارئ مجموعته «نجوم حظر التجوال الجديد» سيكتشف أن الحرب الأهلية بشراستها وعنفها وفوضاها تلقي بظلالها الكثيفة على معظم القصص، كما سيكتشف ظلال حروب أخرى غرائبية ضد أشباح وكائنات لا مرئية وطبيعة متحولة ومعادية كما في قصة «ما رآه الخمار» حين يقول: «ضربه على رأسه من الخلف جسم ثقيل فاستدار بسرعة إلى الخلف ولم ير شيئاً، فانفجر ضاحكاً، لكنه ضُرب من الخلف مرة ثانية بصورة أشد جعلته يشعر أن مادة كينونته قد بدأت في الذوبان. وخلال الصمت الذي أعقب ذلك بدا النهر وكأنه يرتفع إلى أعلى».

لكن التطاحن الأهلي الذي يمزق الواقع وينشر الفوضى يظل أكثر بروزاً، خصوصاً في قصة «عوالم تزدهر»... فالراوي يحدثنا عن الطائرات التي تقصف المناطق الداخلية من البلاد، والنشاطات الاقتصادية التي يصيبها الشلل، والسكان الفارين من منازلهم، والعمال الذين فصلوا من وظائفهم، وعصابات القتل والنهب، ورئيس الدولة الذي رغم كل الخراب يتشبث بمنصبه ويتحدث عن المستقبل الباهر: «ظللت أتجول أياماً بحثاً عن عمل وكان العمال في جميع الأماكن التي ترددت عليها مفصولين بأعداد كبيرة... لم تكن هناك إضرابات أو مظاهرات... استمعت إلى ما تذيعه رئاسة الدولة... تكلم الرئيس عن التقشف وعن إحكام ربط الحزام الوطني وشده، كما تحدث عن المستقبل الباهر وكان صوته يبدو وحيداً كما لو كان يتحدث في غرفة شاسعة وخيالية».

في الحروب الأهلية تعلو رايات الارتياب والخوف والشك وسوء الظن وينسى الإنسان العلاقات الحميمة التي ربطته يوماً ما بزملائه وجيرانه، ومن ثم يتحول الجميع إلى أعداء مخربين ومتصارعين وتتكاثر عصابات القتل العشوائي والنهب.

«دق باب غرفتي... فتحت الباب فاندفع ثلاثة رجال إلى داخل الغرفة، كان اثنان منهم يحملان السكاكين، بينما يحمل الثالث بندقية... لم يكن هؤلاء الثلاثة أشقياء أو متوحشين وكل ما فعلوه أنهم طلبوا مني الجلوس في هدوء على السرير وطلبوا مني أيضا مشاهدة ما يفعلونه إذا أردت ذلك... راقبتهم وهم ينظفون غرفتي ويجردونها من كل مقتنياتي المهمة، كما أخذوا أيضا النقود التي وصلت أيديهم إليها ودردشوا معي عن سوء الطرق وسوء الحكومة، ثم كوموا أشيائي وحملوها إلى سيارة النقل التي كانت معهم كما لو كانوا يساعدونني على الانتقال من مكان إلى آخر، وبعد أن انتهوا من مهمتهم قال حامل البندقية: هذا ما نسميه السرقة العلمية... وإذا سعلت سأفتح النار على عينيك.»

تبرز الحروب الأهلية أسوأ ما في الإنسان وتوقظ بداوته وعنفه وخوفه من الآخرين ورغبته في الانتقام والتخريب ومحو المختلف، وبن أوكري يقصد بعنوان قصة «عوالم تزدهر» الإشارة إلى عوالم الخراب والتمزق والانهيار التي تعينها الفتن الطائفية والصراعات الأهلية على البروز والازدهار.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top