هَلْفَطة

نشر في 13-02-2009
آخر تحديث 13-02-2009 | 00:00
 محمد سليمان لأننا اعتدنا التفكير بالخيال والعواطف، وانحزنا إلى أحلام اليقظة، ونحّينا منذ زمن بعيد لغة الأرقام والمعادلات وكل النشاطات العقلية الأخرى، صارت «الهلفطة» ملاذاً لمعظمنا وطريقاً أفضل وأقصر لإخفاء العجز، وتزييف الواقع والحديث عن إنجازات وهمية ونجاحات لا وجود لها.

و«الهلفطة» مفردة أشاعها رجل الشارع المصري في الأعوام الأخيرة للدلالة على قول أو كلام لا قيمة له أو معنى أو مصداقية، إنه بعبارة أخرى كلام من أجل الكلام وإطلاق اللسان والصراخ أحياناً للإيهام بالصدق والقدرة والجدية، لذلك يُعلق رجل الشارع على معظم خطب المسؤولين وتصريحاتهم وأحاديثهم عن نجاحهم وإنجازهم قائلاً «هلفطة» وأحياناً «كلام فض مجالس» أي لا قيمة له ولا يعول عليه، مهمته الوحيدة هي التمويه، وإخفاء الحقائق والسعي أحياناً إلى إغراء البعض واسترضائهم خاصة في أيام الانتخابات.

وفي الأعوام الأخيرة تفشت «الهلفطة» وصارت إحدى ركائز منظومة القيم التي توجه مجتمعنا وتحركه، فالكل تقريباً يلوذ بـها ويمارسها أحياناً، المسؤول- الكاتب- الإعلامي- ورجل الشارع نفسه للخروج من مأزق ما أو للفوز بأمر ما، عملاً بالمثل الشعبي الشائع «اللي تغلب به... العب به» وما يحدث حولنا يومياً يؤكد ذلك، فرغم التردي في مجالات الصحة والإعلام والتعليم وغيرها مازلنا نشاهد ونقرأ تصريحات المسؤولين عن تعاظم الرعاية الصحية والإسعاف الطائر والريادة الإعلامية المصرية وتطوير التعليم رغم الشكوى الدائمة من التخلف والقصور في هذه المجالات، وكثرة النقد الموجه لكبار المسؤولين، وأشير هنا إلى ما كتبه لبيب السباعي في صحيفة الأهرام في 2 فبراير عن التعليم، وقد جاء فيه «أموت وأعرف سر تفاؤل وسعادة وابتهاج وانشراح الدكتور يسري الجمل وزير التربية والتعليم رغم الاكتئاب العام للأسرة المصرية ومعاناة التلاميذ وأولياء أمورهم من تدهور العملية التعليمية ورغم عشرات بل مئات من الندوات التي تختلف في كل شيء لكنها تتفق كلها على أن التعليم في مصر في خطر، وأنه ينحدر من سيئ إلى أسوأ رغم تصريحات الوزير وإعلاناته التي تزينها صورته بابتسامته المشرقة والمزمنة».

وقبل شهور «هلفط» المسؤولون وأشادوا بأنفسهم وعبقريتهم في فنون التخطيط والإدارة، وأعلنوا أن مصر لن تتأثر بالإعصار المالي العالمي، وبانهيار البورصات والركود الاقتصادي، ثم انهارت البورصة المصرية وتراجعت السياحة والنشاطات السياحية الأخرى، وفقد بعض المواطنين أموالهم ووظائفهم، وكثرت حوادث الانتحار بسبب تفاقم الخسائر وتعاظم الركود والبطالة.

وفي الأسابيع الأخيرة لمعت «الهلفطة» وبرزت كإنجاز عربي عام بعد وأثناء أحداث غزة التي فجرت الواقع العربي، وقسمته إلى معسكرات متحاربة في الفضائيات والصحف وأجهزة الإعلام المختلفة، وباستثناء غزة المُدمرة وضحايا العدوان الإسرائيلي الوحشي أدت «الهلفطة» والرغبة في إخفاء الحقائق إلى فوضى عارمة وشلالات من التصريحات المتناقضة، فمعبر رفح مفتوح ومغلق في الوقت نفسه، وشروط المصالحة الفلسطينية تتغير على ألسنة الزعماء الفلسطينيين بين لحظة وأخرى، والأطراف العربية تتخبط وتتصارع ويتهم بعضها بعضاً بالتفريط والانتهازية والعمالة، وزعماء الفصائل المقيمون في الخارج تتلوّن أحاديثهم وتصريحاتهم بألوان العواصم التي تحتضنهم، وهم في النهاية يصرون على التعامل مع الآخرين كحركة دينية مقاومة، وينسون أن عليهم أن يكونوا أيضاً سياسيين لهم وجوه وأهداف ومطالب يفاوضون ويحاورون من أجل تحقيقها.

أسفرت محرقة غزة عن خسائر باهظة في صفوف المدنيين وعن نسف وحرق آلاف المنازل والمنشآت المدنية الأخرى، وهذه الخسائر التي تحملها أهالي غزة هي التي هزت الضمائر، واستفزت الرأي العام، وأطلقت المظاهرات ومسيرات الدعم والمساندة، لكن «هلفطة» زعماء الفصائل والممانعين وتجار الكلام تكفلت بإرساء مفهوم جديد للنصر يُعلي من شأن الضعف وكل أشكال التحمل وتواضع القدرات العسكرية، ويمنح الفصائل الحق في الاحتفال رغم كآبة الواقع وترديه، فالحصار لم يزل قائماً ومرشحاً للتفاقم، والمعابر مازالت مغلقة وغابة الأنفاق على الحدود المصرية التي كانت تقلل من حدة العزلة وقسوتها لم تعد سرية أو مجهولة، وغزة بعد العدوان بحاجة إلى إعادة إعمار، يتحمل تكاليفه آخرون لهم مصالحهم وأهدافهم وأثمان دعمهم، ولا يلوذون مثلنا برايات «الهلفطة» وضبابها.

* كاتب وشاعر مصري

back to top