سياسات عظمة وأغراض وغدة

نشر في 10-08-2008
آخر تحديث 10-08-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد مات سولجنستين صاحب «أرخبيل الغولاغ» أهم نقد للدولة الستالينية في تاريخ الأدب، عرى توحش الدولة والبشر الذين استنفدت الدولة إنسانيتهم فجعلتهم ضحايا ومفترسين في وقت واحد. ورغم أن هذا النقد الصارم للستالينية بدأ من لسان الدولة السوفييتية ذاتها في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956، ورغم أنه تكرر على لسان مئات من الشعراء والمفكرين والمبدعين في روسيا وفي الخارج بالطبع، فإن ستالين ظل «معشوقا» أو في أسوأ الأحوال «مهابا» في روسيا.

النقيض الكامل لستالين أو خصمه اللدود ممثلا في الأدب الروسي بذاته وفي شخص الكسندر سولجنستين ظل أيضا «مهابا» في روسيا حتى بين صفوف رجال الدولة الذين اتهم أسلافهم بجميع ما هو معروف من الجرائم اللاإنسانية.

لماذا يمكن أن يهاب الشعب الروسي ستالين وخصمه؟ السر في رأيي هو المجاز بأصله ونقيضه. المجاز الذي نتحدث عنه هو العظمة- المجد- النصر- الرسالة العالمية- الانقاذ- الولع بالتاريخ أي بالفكرة- روح أو ماهية شعب أو رسالته في الكون. المجاز يتعلق في النهاية بالسماء: أي الوصول إلى قمة الأشياء- الخلق والبعث والخلاص النقي أو المعذب.

يعشق الشعب الروسي ستالين مع جرائمه ضد الإنسانية كلها لأنه حقق له- رغم أنه لم يكن هو ذاته روسيا- شعورا عاتيا بالمجد الوطني... فهو أنقذ روسيا والاتحاد السوفييتي الذي شكله الروس كخاتم حام من حولهم من الانهيار التام بعد حرب أهلية مدت أجل التضحيات والخراب الذي سببته الحرب العالمية الأولى... ثم أنه أنقذها من أكبر، أو «أعظم»، آلة حربية في التاريخ على الإطلاق حتى مقارنة بالامبراطورية الرومانية، أي الجيش الهتلري المهاب.

سولجنستين له سلطة أخرى: سلطة الأدب؟ ليس بالضبط. ففي الواقع أنه كان متعلقا برسالة أخرى تماما استنبطها بالتحديد من عدائه للستالينية، أي من فهمه الخاص للمسيحية. وكان هذا الفهم خلاصيا بطريقة دينية وعلمانية معا، وهو أيضا متعلق بمشكلة الأخلاق وإدانه سلسلة طويلة من الفلاسفة الغربيين، وبالذات شوبنهاور ونيتشه، للانحطاط الأخلاقي في الغرب!

وهو، أي سولجنستين، كان يريد أن يبعث من جوف التاريخ أو من جوف الرسالة المسيحية، عقيدة كونية جديدة تدور في نهاية المطاف حول روسيا: أعتذر/ حول «العظمة» بذاتها... وإن كانت عظمة فيها معنى العاطفة والحنو والاستعداد للتضحية وحب الوطن والشعب وإدراكه حاملا لرسالة، وليس كتلة جهنمية من الأفواه المفتوحة والعقول المخوّخة التي لا يملأها سوى الجشع للسلع ولذة الحياة النمطية العادية، أي ما يسمى بالهومو ايكونوميكوس (الإنسان الاقتصادي). هنا تظهر الروحانية المسيحية كما رأها فلاسفة الروح وبالذات هيجل باعتبارها حاميا للأمة من الفساد المادي!

* الرسالة الكونية

لماذا اهتم العالم كله برحيل ألكسندر سولجنستين؟ بالطبع هناك قيمته الأدبية، ولكن السبب الحقيقي والأهم هو أن هذه اللحظة في التاريخ العالمي تشهد احياء لنمط مميز من السياسات نادى بها وتاق إليها ودافع عنها الرجل: سياسات المجد! وجانب من هذا الإحياء يهم الغرب بشدة لأنه متعلق بلغز روسيا: الفقيرة العظيمة التي حسمت حروب العصر الحديث كلها منذ نابليون والتي لا تزعم لنفسها في الوقت نفسه أي «حقوق كونية خاصة».

ولكن جانبا آخر تماما من القصة يتعلق بهؤلاء الذين يزعمون لأنفسهم «حقوقا كونية خاصة»! وفي هذه اللحظة بالتحديد هناك إحياء رومانتيكي آخر من نوع ما، وإن كان يمثل امتدادا لمساعي جورج بوش الابن: أي شخصية جون ماكين المرشح الجمهوري للرئاسة.

شبهته «واشنطن بوست» بمسيح علماني: وصف مختلف لما تاق له سولجنستين وربما شوبنهاور والدعاة الكبار جميعهم، لشكل أو آخر من الترجمة السياسية للرسالة الكونية للمسيحية! الدعوة التي يقول بها ماكين هي ببساطة الرسالة الخاصة لأميركا كما ينطقونها عندما يريدون حفز الشعور بالهيبة والعظمة وإيقاظ روح العزيمة وأحيانا الخلاص المسيحي! الرجل يقول إن أميركا لديها حق التدخل في شؤون الأمم الأخرى لأن أميركا متوافقة سياسيا وأخلاقيا ولأن العالم يحتاج اليها! ولأن دولة أخرى لا تستطيع أن تضطلع بالرسالة التي تتصدى لها أميركا.

* المجاز روحاني والغرض امبراطوري

وبالفعل فقد بدأ الرجل يجمع حوله بعض الأنصار المتحمسين لرسالة أميركا وبالذات بين المحافظين الجدد والأصوليين المسيحيين الذين تلقوه في البداية بقدر كبير من الشك لأنه من حركة أقلية تسمى الليبرتاريانز: «الحرياتيين». وهذه الحركة تمجد الفرد ولا ترى وجها لتدخل الحكومة وترفض أي ادعاءات أخلاقية للدولة على حساب الفرد... إلخ.

ويبدو الأمر ملتبسا بشدة لأن دعوة الرجل تبدو مُساقة على قضيبين لا يلتقيان أبدا: الفكرة الرومانتيكية عن الرسالة والتكليف (شبه الالهي أو المقدس وإن بلغة القوميين وليس الأصوليين) من ناحية، والمنفعة الفردية، وهي بالضرورة والتعريف مادية وربما متعوية واقتصادية من ناحية أخرى. ولذلك فأكثر ما يفهم فيه الرجل هو الاقتصاد. وفي النهاية، فإن دعوته للتدخل في شؤون الدول الأخرى واحتقاره لأوروبا التي لا تجرؤ على التدخل ليست سوى غطاء بائسا وربما أشد بؤسا من غطاء زجاجة بيبسي كولا: تخلعه بمنتهى البساطة وتلقي به جانبا فلا يبقى له أثر لغة من كلام مبتذل يستهدف في النهاية سرقة موارد الآخرين. وماكين هذا صاحب خطاب المجد والرسالة ليس سوى طامع أشد شراسة من بوش نفسه في ثروة العراق النفطية...هكذا ببساطة ومن دون تعبيرات فخمة ونداءات سماوية... فالقصد ليس حتى أرضيا... إنه تحت الأرض!

والواقع أن أحلام سولجنستين وحتى نيتشه وهيجل لم تكن أكثر نبلا، إطلاقا. فالقيصرية والامبراطورية والمسيحية التي حلم بها سولجنستين لم تكن سوى كيانات قسرية ارتكبت، أو ارتكبت باسمها، فظائع لا تطاق في التاريخ. ولهذا يصبح خطاب «العظمة» والرسالة خاليا من «التفاصيل»، أي معلقا بنتيجة ما وصفية متعالية إيحائية أو بالأحرى لغوية أو مجرد طنطنة إن جُرِّدت من أثرها العاطفي على الناس. وهي في ذلك مثلها مثل الأفلام السينمائية التي تثير الرغبة في البكاء على أبسط أشكال القسوة من دون أن تمنع من مزاولة أعمال أشد منها مئات المرات بعد أن تنتهي مباشرة.

وبالنهاية خانت الأخبار عن عودة ست شركات نفط أميركية للعراق لتسيطر على ثلاثة أرباع الثروة النفطية في هذا البلد المكلوم كل هذه اللغة وكل هذه الرطانة عن «العظمة» و«الخلاص» و«الدور الكوني» لأميركا.

ولكن أميركا وروسيا ليستا حالتين خاصتين... لقد ادعت بلاد كثيرة «العظمة» والتكليف بدور كوني... والواقع أننا نجد هذا الزعم في بلاد أخرى أبسط وأصغر وأقل تاثيرا بكثير في تاريخ العالم مثل أفغانستان.

فـ«العظمة» والرسالة، هما عناوين أو «مانشيتات» لنمط معين من السياسات قد نسميها «سياسات المجد» التي قد نجدها في أبسط البلدان. وفي أغلب الأحيان تُفضي سياسات المجد أو ادعاءات الرسالة الكونية إلى نتائج مرعبة. وتجسد النهاية «العادلة ربما» لألمانيا الهتلرية درسا لهؤلاء كلهم الذين ينشدون المعزوفة نفسها. فعلاماتها محددة للغاية: مغامرة عسكرية طويلة المدى لرجل «مجيد» واحد (لنتذكر لغة صدام) تقلب موازين القوى في العالم وتقود إلى سلسلة طويلة من الحروب... ومن ثم إلى مذابح وأعمال إبادة جماعية واحتلالات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد... تبرر باسم رسالة أو خلاص... مسيحي أو إسلامي أو شنتوي أو بوذي... أو باسم أمة... ومن دون اسمها أو إذنها أحيانا... وكنا جرَّبنا هذه السياسات وهذه الآلام الشنيعة في العالم العربي ممثلة في شخصيات مثل صدام حسين. والآن ربما لا يكون سلوك أحمدي نجاد أو حتى خالد مشعل سوى تعبير عن المسعى نفسه أو التوق ذاته أو بالنهاية المشهد الدرامي نفسه، أو ربما اللعنة «التاريخية» أو «الكونية» نفسها.

وفي معظم الأحوال يكون وراء سياسات «العظمة» مجرد أهداف وضيعة وخالية كلية من أي مجد أو نبل أو قيمة أخلاقية... بالعكس عادة ما تكون مادية. وببساطة عادة ما تخبئ سياسات العظمة «شغل حرامية»!

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top