د. جورج قرم: الأصوليّات أنست المنطقة العربيّة تراثها النهضوي كلّه!

نشر في 19-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 19-12-2008 | 00:00

في كتابه «المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين» (دار الفارابي ـ بيروت) يضيء د. جورج قرم على ظاهرة عودة الدين في المجتمعات التي تعتنق إحدى الديانات الثلاث التوحيدية... ويعود الى التاريخ الأوروبي الوسيطي، عندما كانت الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك ومحاكم التفتيش تؤرق أوروبا، لشرح الأزمة التي يتخبط فيها الشرق والمجتمعات الغربية، حيث تختلط تعقيدات الهوية الجماعية بالثقافة وطروحات السياسة بمذاهب الدين والأصوليات...

يطرح الكتاب أفكارًا يعتبرها المؤلف حاجة ماسة لإعادة بناء المجتمع العربي على أسس واعية حضارية. يقول قرم: «لقد سعيت الى تبيان سخافة الأفكار والرؤى التي تحملها القيادات السياسية الغربية ومدى الضرر الذي تلحقه بنا... علينا أن نعيد بناء منظومة ثقافية لنهضة عربية ثانية مستقلة عما يأتينا من الغرب من دفق إعلامي أكاديمي متواصل أصبحنا مسجونين فيه. وعلينا أن ندخل في مراجعة نقدية صارمة لممارساتنا الثقافية والإعلامية التي صارت تشبه، الى حد بعيد، ما يأتينا من الغرب من أدبيات مفخخة حول عودة الدين وحرب الحضارات والقيم «اليهودية ـ المسيحية» في مقابل قيم «عربية ـ إسلامية».

أصدرت حديثاً كتاباً بعنوان «المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين»، لماذا الكلام اليوم عن المسألة الدينية وتحديدًا في القرن الواحد والعشرين، علمًا أنها ليست مستجدة وكانت حاضرة في قرون سابقة؟

لعل سبب اهتمامي بالأمر، عودة استخدام الظاهرة الدينية واستغلالها بشكل كثيف في السياسة الداخلية والدولية حتى في أوروبا وأميركا، حيث التحجج بالفصل بين الدين والدولة عالي النبرة. المسألة ليست في عودة الدين، كما يزعمون في وسائل الإعلام الغربية والأبحاث الأكاديمية، بل في استغلال الدين واستخدامه لأغراض سياسية محلية، إقليمية ودولية. هذه الظاهرة برزت مع نهاية الحرب الباردة. نذكر جيدًا أن الحملات الاستعمارية الغربية على دول العالم الثالث، لجأت الى العنصر الديني، كمسألة حماية الأقليات الدينية في العالم!

اليوم جاءنا الغرب بمقولة جديدة وهي أن جذور الغرب يهودية مسيحية، فيما كانت الفلسفة الغربية ولزمن طويل تقول إن جذور الغرب الحضارية والثقافية يونانية ـ رومانية. ثم حدث هذا الانقلاب! إنه استغلال للعنصر الديني.

في الحرب الباردة، بدأ استغلال المسألة الدينية في الحرب ضد الشيوعية وانتشارها وضد الاتحاد السوفياتي بطبيعة الحال، وبشكل واسع ضدّ الأنظمة القومية والاشتراكية والثورية في العالم الغربي، خصوصاً تلك التي لم تكن تتعاطف مع السياسات الأميركية. هذه الحال استمرت حتى انهيار المعسكر الاشتراكي.

يبدو لي، وهذا ما شرحته في الكتاب، أن اميركا والغرب عموماً، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والماركسية، كان لا بدّ لها من «اختراع» عدو آخر فطالعتنا بمقولات حول الفاشستية الإسلامية، والإرهاب الإسلامي. وبالعودة الى الذاكرة، يطرح الغرب اليوم المقولات ضذ المجتمعات العربية تمامًا كما كان يفعل ضد المعسكر الاشتراكي. نحن أمام عالم مقسّم بشكل مصطنع، بين غرب يدعي أنه يهودي ـ مسيحي وبين شرق يقول إنه عربي ـ مسلم. طبعًا هذا وضع يؤسف له. في رأيي، الذي «سمح» بعودة الدّين ليس زوال النظم الشيوعية، فالدّين لم يترك العالم. صحيح أنه تراجع في أوروبا، أما في أميركا فكانت دومًا مؤمنة وتقول عن نفسها إنها أمّة من المؤمنين! أما أميركا الجنوبية فهي مسيحية متحررة، (تيولوجيا التحرير أو اللاهوت التحريري). وفي الصين لا تزال البوذية موجودة كذلك الهندوسية في الهند. عموماً، الزعم بأن انكسار الماركسية سمح بعودة الدين هو كلام خرافي!

خلال الحروب الدينية في الغرب، بين الكاثوليك والبروتستانت (القرن الخامس عشر والسادس عشر)، تمزقت أوروبا. هذه الحروب هي التي أنتجت النظريات العلمانية، أي عدم استخدام الدين في إدارة الدولة، تجنبًا لخراب الدولة والمجتمع. وفي ذلك عِبَر كثيرة للعالم العربي والإسلامي. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أنه منذ الحروب الدينية، وأوروبا والعالم الغربي منقسمان الى اتجاهين. الأول إنسانوي مع فلسفة الأنوار والى حدّ ما مع الأوجه المقبولة في الماركسية، (عقيدة تنصف المظلومين، كمبدأ اجتماعي، وهي تتطابق في نظري مع التعاليم المسيحية والإسلام) من جهة، وبين نظريات رجعية غربية معادية لفلسفة الأنوار، معادية لتوجّه العدالة الاجتماعية وللمساواة... الوضع في الولايات المتحدة مختلف، ففي فترة جورج بوش الإبن توغلت سياسة أميركا الخارجية في الرجعية بتأثير من المحافظين الجدد.

في كتابك دعوة الى «إحياء تراث فلسفة الأنوار الأوروبية وروح النهضتين العربيتين، ومبادئ الثورتين الفرنسية والأميركية»، كأطر للحوار مع الفكر الغربي، بديلاً من توجهات «صدام الحضارات». ألا ترى في ذلك مغالات في مثالية غير واقعية؟ وكيف تترجم عمليًا هذه الدعوة؟

أعتقد أن الثقافة العربية مرّت بخضّات عنيفة بدأت في خمسينات القرن الماضي. الانقلابات العسكرية المتتالية في سوريا، ومصر ثم العراق وبعده ليبيا فالسودان... قضت على الحريات العامة وعلى الديمقراطية التي كانت لا تزال فتيّة. نذكر جيدًا أن تلك الأنظمة قبل الانقلابات كانت سياسية ـ برلمانية، تمارس تعدديّة الأحزاب. كان الوفد في مصر، والملكية الدستورية في العراق... كان الجو العربي عموماً ديمقراطيًا مع استثناءات قليلة...

نذكر جيدًا النهضة العربية الأولى التي كان بدأها محمد علي باشا في مصر سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا ومجموعة من كبار المصلحين الدينين واللغوين والمثقفين وعلى رأسهم الطهطاوي وسواه... هذه النهضة سقطت تحت ضربات شعار «الصحوة الإسلامية» المتزمتة، تحت شعار محاربة الشيوعية.

ترافقت هذه «الصحوة» مع الثورة الإيرانية الدينية (الخمينية). فنسيت المنطقة تراثها كله، من النهضة العربية الأولى والحضارة العربية والإسلامية، من زمن هارون الرشيد والمأمون و{بيت الحكمة»، والترجمات والفلاسفة الكبار! حصل نوع من الانقطاع الحضاري في قلب المنظومة الفكرية العربية.

سبَّب هذا الشرخ الخطير في التراث العربي سقوطاً فظيعاً أدّى الى تخلّف مريع في روح العصر والحضارة؟!

نهضة الفكر العربي الأولى كانت عظيمة جدًا، وما زلت أدعو الى نهضة ثانية تعيد الجسور مع تلك الأولى. أما الانقطاع فقد حصل نتيجة عوامل سياسية طغت على حياة المجتمعات العربية: القضاء على الحرّيات، تعاظم نفوذ الأحزاب الدينية الراديكالية الطابع والتي سيطرت بتلاوينها على المساحة العربية والتي مارست العنف الجهادي حتى ضد أبناء المسلمين نفسهم!! فأصبح كل شيء إسلاميًا: (ثقافة إسلامية، طابع إسلامي، مصارف إسلامية...)

مع احترامي لكل الديانات وبينها الإسلام، وضعتنا هذه الحال ضمن سجن كبير. ثم جاءت المزايدات، لأن هذه الحركات مذاهب مختلفة. بعضها جاء من إيران والسعودية وباكستان، مع تناقضات واختلافات كثيرة. وإذا أخذنا مثلاً التلاوين المختلفة ضمن المجموعات السنيّة، نرى الجهادية العبثية التي تقتل المسلمين، ونرى كذلك الإخوان المسلمين الذين يعملون تبعًا لشخصية القائد ـ المرشد!!!

أدت هذه الحال الى ضياع الأنتليجنسيا العربية وتشرذمها، وبعضها استقطبته أجهزة الإعلام الحديثة الطابع (المرئي خصوصاً) وحوّلته الى إعلامي في خدمة أصحاب وسائل الإعلام، سواء كانت حكومات أو أفرادًا، ما أدى الى انعدام وجود كتلة حضارية مثقفة مستنيرة في العالم العربي، تنتج فكرًا جديدًا عصريًا، أو ما نسميه منظومة عربية في خدمة المجتمعات العربية، أفرادًا ودولاً.

استشهدت في كتابك بموقف لعالم النفس الفرنسي جاك لاكان في مؤتمر روما عام ١٩٧٤، يعلن فيه تفوّق الدين على التحليل النفسي، أي على العلم! إذا كان هذا رأي لاكان ورأي كبار رجال العلم، كيف يمكن بناء مجتمعات لها أديانها والحدّ من جموح الدين وتوسّله العنف (الأصولية)؟

نعم، استشهدت بالعالم لاكان، لكن هذا لا يمنع من الوقوع في مغالطة فكرية كبيرة! الفيلسوف هيغيل كان منطلقه مسيحيًا محضًا، حتى عندما قال إن فلسفته هي للكون كله! استشهدت بلاكان كمثال على الخضوع للمؤثرات في السياسة الدولية. نادرًا ما شذّ المثقف عن التأثر بالموجات السياسية، في الغرب والشرق. ثمة مثقفون كانوا في قلب الماركسية، ثم انتقلوا الى الضفة المعاكسة تمامًا! في أميركا مثلاً مارس التروتسكيون أقصى أنواع الفكر الرجعي، تماماً كما فعل الفلاسفة الجدد في فرنسا...

أما مسألة جنوح بعض الأصوليين الى العنف والحدّ منها فأمر يتعلق بإعادة بناء المجتمع... الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت أورثتنا جذور العنف التوتاليتاري الذي يلغي الآخر جسدياً، وعلى رغم ذلك تجاوزت أوروبا هذه الموجات عبر إقامة المجتمعات المدنيّة!

هل ترى في الأفق إمكان صحوة أوروبية، على ضوء هذا التأزم المستحكم بين الشرق - المسلم والغرب – المسيحي، على غرار طروحات عصر التنوير، يؤدي الى مصالحة تاريخية؟

ثمة هوّة بين الرأي العام الأوروبي وبين صانعي القرار. الحكّام صاروا تابعين لسياسة أميركا! قرأت مرة نتائج استفتاء رأي حول «أي دولة تشكّل أكبر خطر على السلام العالمي». جاءت الإجابات: «الولايات المتحدة أولاً، تليها إسرائيل وفي المرتبة الثالثة إيران. هكذا أجاب الأوروبيون طبعًا ثمّ طُمست نتائج الاستفتاء!

هل ننسى نزول الأوروبيين الى الشوارع بالملايين احتجاجًا على غزو العراق، ما يفسّر أنهم شعب لا يريد الصدامات، بل قياداته وحدها تريد ذلك. يبدو أن المصالحة موجودة، لكن السياسات الرسمية تخرّب كل شيء.

أعود الى الكتاب لأتناول استشهادًا لك عن المفكر الفرنسي فيليب لونو الذي استبعد، باستخفاف، كل احتمال لتأثير العالم الإسلامي على الغرب. يقول بالحرف: «لدينا دليل غير مباشر على أن فكر الغرب العلمي لا يدين بشيء جوهري للعالم الإسلامي، حتى إبن رشد لم يكن له غد عند المسلمين...!!!»

هذا كلام صحيح وهو عنصري جدًا. ثمة فيلسوف آخر هو جاك إيلول وهو بروتستانتي، قرأت مقالاً له يحذّر فيه المؤمنين، يهودًا ومسيحيين، من أي تقارب مع المسلمين!!! هذا مناخ لا يعبر عن حقيقة تفكير الرأي الأوروبي العام.

مرّت سنوات على احتلال أميركا أفغانستان ثم العراق غداة أحداث ١١ سبتمبر (أيلول). إذا استثنينا مسألة النفط، كيف تقرأ نتائج هذه الغزوة؟

النفط عامل مهم، لكن قراءة سريعة للخريطة ومواقع انتشار الجيوش الأميركية بحجة أحداث ١١ سبتمبر والحرب على الأرهاب، نلاحظ «محاصرة» عسكرية أميركية مزدوجة للقوتين الكبيرتين الصين وروسيا. أميركا تريد الاستئثار بأحادية قطبية قيادة العالم. التفكير الأميركي الاستراتيجي، لدى الديمقراطيين أو الجمهوريين هو ذاته. اليوم وصل الديمقراطيون مع أوباما. لننتظر وسنرى النتائج.

أفردت فصلاً في كتابك حول الأزمة الدينية والسياسية المزدوجة في المجتمعات التوحيدية المعاصرة، سواء في الغرب المسيحي أو المشرق الإسلامي. ماذا عن المجتمع الإسرائيلي وعن مجتمعات الشرق الأقصى؟

المجتمع الإسرائيلي مصطنع مئة بالمئة، ومحكوم عليه بالزوال. أعتقد أن مقارنة وضع إسرائيل بالغزوات الصليبية تصحّ. ربما وضع إسرائيل اليوم أكثر تعقيدًا لأنها دولة نووية.

تدّعي إسرائيل أنها تمثّل يهود العالم كلّهم على أساس أنها الدولة الدينية، وهي تمارس أنواع الإرهاب كلّها على الفلسطينيين (غزة اليوم) وعلى كلّ من لا يوافق على سياستها العنصرية. الكاتب الفرنسي إدغار مورين مثلاً، سيق الى المحاكم، لأنه تجرأ على عنصرية إسرائيل! اليهودية اليوم كما المسيحية والإسلام، «تخلط الروحي بالزمني» وفي الشرق الأقصى، كما ذكرت آنفاً، بدأ الخلط كذلك.

كيف تقرأ خطاب الأصوليات الدينية المتحجّرة في طروحاتها؟

بروز الأصولية الدينية هو تعبير عن ضيق نفسي من التحوّلات السريعة في المجتمع. فإما الهروب الى المبادئ الإنسانوية والجمهورية، حيث العقل والمنطق والموضوعية، أو جنوح نحو ظواهر دينية، غيبية، وسلفيات وأصوليات... المعركة مفتوحة! وقد أردت أن يكون كتابي مساهمة في الحفاظ على إنسانيتنا....

back to top