جمال عبدالناصر.. فراغ الرحيل ومسلسل التذكير

نشر في 03-10-2008
آخر تحديث 03-10-2008 | 00:00
 يحيى علامو الأمم القوية هي وحدها من يعرف قيمة ومقدار وحجم إعلامها وصنّاع تاريخها ودورهم في صنع الحاضر والمستقبل بل في رسم معالم حضارتها، وهي وحدها من يجعلهم أحياء يشاركون شعوبهم في صناعة الحياة من خلال الدروس والعبر المستخلصة من تجربتهم التاريخية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية، ولهذا فإن حضورهم مستمر في كل مرحلة بناء، وفي كل قفزة تنموية ترفع الشأن وتزيد المتعة... وجمال عبدالناصر الذي يوافق رحيله في 28 سبتمبر واحد من هؤلاء الصناع الذين صاغوا مشروعا وطنيا وقوميا بامتياز يحفظ الكيان ويعزز الوجود، وعمل ما بوسعه لإنجازه معتمداً الصح والخطأ منهجا للتطبيق.

تسليط الضوء على شخصية جمال عبدالناصر والإحاطه بكل جوانبها بهذا المختصر يصعب علينا فعله، ولكننا سنركز على شفافيته التي جعلته يشعّ نزاهة رغم إغراءات الحضور والسلطة، فالفساد ارتبط عضوياً بالمال والسلطة وقلّما نجد حاكماً في واقعنا يتمتع بالنزاهة كما تمتع بها عبدالناصر، فكان حالة خاصة في ظل السلطة وإغراءاتها. إذ لم يستطع حتى أشد خصومه أن يثبت- رغم المحاولات العديدة- أن لهذا الرجل خطوة غير مشروعة أو تطاولاً على مال الشعب حتى أنه رحل بلا مال ولا متاع، واللجان التي شُكّلت بعد وفاته أثبتت صحة ذلك. فهذا النصع الأخلاقي انعكس إيجابا على عملية التنمية والبناء وساهم بشكل كبير في التوجه الصادق نحو السواد الأعظم من الناس... فكان بحق نصير الكادحين، وهذا النصع الوطني انعكس نصعاً قومياً، وبمصداقية عالية حتى بات الشارع العربي شارعاً ناصرياً بامتياز وهذا ما حمّل عبدالناصر عبئا إضافياً، في تحمل المسؤولية، إذ باتت خطواته منهاج عمل للنظام العربي والذي كان يعتبر مصر المرجع والمركز في كل القرارات المصيرية للأمة... وهذا ماجعل ناصر رقما صعباً في المعادلة الدولية باعتباره أمة في رجل... ولكن هذه الشفافية كان لها ثخنها أيضاً، فالثقة المفرطة في النظام الشمولي خطأ قاتل لعدم وجود مؤسسات رقابية تضبط السلوك وترقب التحركات، ولذلك كان إغراء السلطة مدعاة للانحراف والاستئثار من قبل بعض الأعوان حتى توج (بدولة المخابرات) التي أخذت على عاتقها تصفية الثورة تحت ذريعة الحماية من الأعداء... ومن هنا تقلصت خبرة عبدالناصر على التصحيح خشية الاصطدام ودفع الثمن وطنياً وسلطوياً، بل قوميا ناهيك عن رفضه الحسم الدموي حتى مع الملك فاروق وحتى مع عودة الوحدة.

ولادة مسلسل يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ مصر العروبة ويسلط الضوء على جوانب مهمة في شخصية عبدالناصر التي أصابها التشويش والإساءة من قبل نظم التبعية هو إنجاز وطني وعملي مسؤول، يستحق الثناء والتقدير، ويثبت أن حقائق التاريخ لا تطمسها النوايا الخبيثة، ولا إملاءات الخارج التي لا تستقيم مصالحها إلا بحجب الرؤية عن الشعوب، ومحو نصع تاريخها... ولهذا تم حجب مسلسل ناصر عن المحطات الأرضية المصرية إضافة إلى عدم إنتاجه في قطاع التلفزيون، وهذا ما دفع منتج المسلسل ليقول إن أسباب المنع «سياسية».

الأمم الضعيفة التي رضيت بما هو قائم تدفع الثمن مرتين... مرة بحاضرها البائس والمخترق من كل اتجاه.. ومرة في طمس جوانب النصع في تاريخها بل الإساءة إليه وتخسيس القيمة التي يمثلها... ولذلك فهي لا تدرك معنى التغيير والنهوض لأنها لا تدرك أهمية التاريخ وعصاراته في صنع الحاضر والمستقبل... وها هي الأمة العربية بعد رحيل عبدالناصر عادت مستسلمة لضعفها ولتبعية أنظمتها منتظرة المدد والغذاء من أرباب مشاريع الهيمنة والتقسيم، معتبرة أن فترة المد القومي في الخمسينيات والستينيات كانت مرحلة شعارات وشكلت عبئا على الدولة القُطرية وعلى تنميتها... ولكن الإجابة الآن جاءت عملية ومن غير تنظير، فأين التنمية؟ وأين الازدهار؟ وأين فرص العمل؟ وأين مسؤولو الدولة تجاه الشعب؟ والتي أصبحت محصلة ضرائب فقط، وأين الخطط والعوائد رغم تقلص النفقات العسكرية بعد معاهدات السلام التي كانت تستهلك الخير الأكبر من الدخل القومي... فهل حلت مشكلة الرغيف ومشكلة البطالة حتى نتكلم عن الناتج العام وارتدادات الديون المتراكمة على مستقبل الأجيال التي فتحت الباب للتدخل ولانتهاك السيادة، والتي حذر منها عبدالناصر عندما اعتبر البنك الدولي استعمارا جديدا؟ وأين الحجم والدور ومركز التوازن العربي الذي كانت تمثله مصر بامتداداتها الإفريقية والدولية والتي تقلص دورها إلى الحد الذي لم تستطع تقديم حتى شمعة لحليفها الراحل ياسر عرفات وهو في محبسه المظلم؟ ويكفينا مثالا للتدليل على مكانة مرحلة الشعارات الدولية الممثلة بالقائد ناصر ما قاله الرئيس الأميركي نيكسون عند رحيل عبدالناصر حينما أمر الأسطول السادس الأميركي بالتوقف عن المناورات التي كان يجريها في عرض البحر المتوسط، وعندما سئل عن سبب هذا الإجراء أجاب «لقد مات الرجل الذي كنا نريد أن نخيفه».

الإفلاس يحتم البحث عن الديون القديمة، ويجعلنا نتأمل الماضي بحسرة ونحزن على الحاضر، ولكننا لن نقلق على المستقبل لأن الأمة التي أنجبت عبدالناصر قادرة على إنجاب آخر وآخر، ولكن من خلال دولة المؤسسات حتى نضمن الرفعة والاستمرار ونمو الوعي لتحصين الذات... فرحم الله جمال عبدالناصر في ذكرى رحيله... وسيبقى حاضراً طالما لم ننجز بعد استقلالنا الوطني ولم نحصن أمننا القومي... ولم نصنع بعد مشروعنا النهضوي.

back to top