أثينا 1896: الألعاب التي ولدت من المأزق الاقتصادي ... وعناد دو كوبرتان

نشر في 16-07-2008 | 00:00
آخر تحديث 16-07-2008 | 00:00

تجمع الألعاب الأولمبية، بشقيها الشتوي والصيفي، العالم مرة كل أربعة أعوام تحت راية السلام، واحترام الروح الأولمبية، تحت إشراف اللجنة الاولمبية الدولية بالتعاون مع اللجان الاولمبية المحلية للدول المنظمة للحدث، التي دائماً ما تنشئ لجنة منظمة خصوصا كي تبقى على اتصال دائم مع اللجنة الأولمبية الدولية، وتحكم العلاقة بين الطرفين الشريعة الأولمبية، التي هي الدستور والمرجع الأولمبي الأعلى، وفيها تتحدد كل السياسات التي على الدولة المستضيفة أن تنتهجها.

تملك الألعاب الأولمبية كما نعرف اسمها اليوم تاريخاً عميقاً جداً، سبر أغواره يأخذنا إلى ألف وخمسمئة عام قبل الميلاد في التاريخ الإغريقي مع حكايات متعددة حول الآلهة والأبطال، كل منها يرجع الأصل التكويني للألعاب لإله معين أو مقاطعة معينة، لذا لا تاريخ محددا يمكننا الاستناد إليه حتى الآن، بل مجموعة من الأقاصيص يرجح بعضها على الآخر، إلا أن المعترف والمقر به حول البداية المكتوبة الأولى للألعاب تعود الى عام 776 قبل الميلاد، حين اجتمع ملوك اليونان واستشاروا كهنة المعابد، فكان أن أطلقوا الألعاب التي كانت تتخذ قبل ذلك التاريخ أبعاداً دينية وروحية.

اجتمعت أهداف شتى حول نشأة تلك الألعاب من أبرزها، إضافة لتمجيد الآلهة، أن حكام بلاد الإغريق، التي كانت مقسمة إلى ولايات متحاربة ذات استقلال سياسي واقتصادي، وجدوا في فكرة الألعاب ضالتهم المنشودة من أجل لم شمل المقاطعات الإغريقية، وإعلان الهدنة ووقف الاقتتال، فكان ذلك المهرجان الرياضي الذي دأب اليونانيون على إقامته كل أربعة أعوام، وهذه الأعوام أطلق عليها اسم أولمبياد، وهي كانت بمنزلة مقياس زمني لدى قدماء اليونان، فكان الزمن يقاس بالأولمبياد وليس بالسنين، ويرمز الأولمبياد إلى الفترة التي انقضت بين دورتين متتاليتين.

ما يستوقف في هذا الجزء من حضارة اليونان الغنية والدسمة، أفق الرؤية النير والواضح والعميق لدى هذا الشعب، فعلى الرغم من الحروب الدائمة والكبيرة وجدت اسبرطا وأثينا وطيبة وغيرها من الولايات ما يسمون به عن القتال، وإن كان بإطار وثني آنذاك، لكن خلاصات تجارب اليونان، هي قيم حية لكل زمن، مثل الشرف والنزاهة واحترام القوانين والنبل والولاء والتربية الجسدية الرياضية وغيرها، كلها أمور ننادي بها دوماً، وقد نادوا بها منذ مئات الأعوام، وخير دليل على هذا الكلام أن تلك الألعاب شكلت الأرضية لأفكار كوبرتان بعد أكثر من ألف وخمسمئة عام على توقفها.

لعب ازدهار الحالة الاقتصادية في العالم بشكل عام في نهاية القرن التاسع عشر وانتشار الثقافة وتوسع العلاقات الدولية بين المجتمعات دورا كبيرا في تطور الحركة الرياضية العالمية من خلال إقامة المباريات.

وكان لا بد إزاء هذا الواقع من وضع الأنظمة التي تدير الألعاب والمسابقات وترعى شؤونها، وإنشاء الملاعب الضخمة وما يلزمها.

وفي منتصف هذا القرن، كانت اليونان محط إعجاب عدد من علماء الآثار الذين زاروا اولمبيا، وكشفوا عن بقايا الملاعب الرياضية القديمة، فقام رجل الأعمال اليوناني ايفانجيليوس زاباس بفكرة إحياء الألعاب الاولمبية.

وبدعم من حكومة بلاده، تمكن زاباس من إقامة المباريات الاولمبية في 15 نوفمبر 1859، وباءت بالفشل كما في الأعوام 1870 و1875 و1889، وذلك بسبب سوء التخطيط وعدم توافر التجهيزات المناسبة، فلم يتمكن المشاهدون من رؤية المتبارين بوضوح، والبعض منهم كان يثير الخلافات التي كانت تصل إلى حلقة المباريات (الجري والوثب والرمي والجمباز...) أحيانا فتعم الفوضى والمشكلات.

ثم أتى البارون بيار دو كوبرتان وغيّر هذا المفهوم، وهو استقراطي عمل سنوات عدة على تحسين المستوى الرياضي في فرنسا، إضافة إلى اهتمامه الشديد بالرياضيين. وكان يشجع على التعاون بين الدول عبر إقامة أصوات رياضية أو غير رياضية، لأنها وسيلة يعمم من خلالها السلام.

بعد دراسة عميقة لأثار مدينة اولمبيا وكونه محبا للرياضة، اقترح كوبرتان إحياء المباريات من جديد.

استضاف البارون عام 1892 الاتحاد الفرنسي للنوادي الرياضية الذي أسسه قبل خمسة أعوام، وفي خطابه اقترح مشروع الألعاب الاولمبية فلقيت بادرته مزيجا من التردد والاستخفاف.

فهل كان قصد كوبرتان ان يتنافس الفرنسيون مع الآسيويين والافارقة؟ هل كان يقترح إعادة المباريات بين الإغريق كما كانوا يفعلون في الماضي وهم عراة ؟

كوبرتان لم يستسلم

ورغم عدم تجاوب الأعضاء رفض كوبرتان ان يستسلم، ونظم مؤتمرا عالميا في 23 يونيو 1894 تحدث فيه عن الرياضة، وكان المحور الأساسي كيفية إحياء الألعاب الاولمبية من جديد، واختتمه بتشكيل لجنة اولمبية دولية حددت المكان المناسب لإقامة الألعاب الاولمبية الحديثة أي في مدينة أثينا عام 1896، وجاء اختيارها تكريما لليونان مهد الألعاب.

وشكلت اللجنة التنفيذية من 14 عضوا يمثلون 12 بلدا هي: فرنسا، إنكلترا، الأرجنتين، بلجيكا، هنغاريا، اليونان، ايطاليا، نيوزيلندا، روسيا، الولايات المتحدة الاميركية، تشيكيا، السويد، وترأسها اليوناني ديمتريوس فيكيلاس، وكان كوبرتان نائبا له، وخط الميثاق الاولمبي من المثل الداعية إلى إزكاء روح الحرية عند الفرد وبالذات عند المشتركين في الألعاب، وإجراء مباريات تتسم بالروح السمحة والصدر الرحب، ومحاولة تطوير الإنسان وتحسينه وارتقائه عقليا وأخلاقيا وبدنيا.

وانطلقت الألعاب الأولى بمثابة تجسيد لحلم كوبرتان الذي كان يتطلع إلى عودة الإنسان «لجميل الصالح»، لكن هذا الحدث غير لاحقا تفكير الإنسان الغربي بنفسه... وإذا كانت الألعاب انطلقت في العصر القديم كحدث ديني، فقد تحولت في العصر الحديث إلى تعبير علماني لجمال الجسد وصحة الإنسان... وتطورت لتختصر لاحقا أسس العصرنة التجارية والإعلامية والعلمية بعيدا من الأفكار الرومانسية للمبادئ القديمة للهواة، والتي شغلت «الباحث والمؤسس» البارون دو كوبرتان ومجايليه طويلا.

وفي المراحل الممهدة للألعاب الحديثة الأولى، كان فيكيلاس يشعر ان حقبة تاريخية جديدة يعاد بناؤها، وستعود بالفائدة على بناء اليونان الحديث قد تمحي ما تناقلته وسائل الاعلام عن بلوغ البلاد حافة الإفلاس، لكن المشكلة المالية كانت بالمرصاد والألعاب غاية أساسية لاستعادة أمجاد التاريخ الغابر والحضارة العظيمة.

ورأى فيكيلاس المقيم في فرنسا أن الألعاب «ستبني شبكة علاقات جديدة بين باقي أوروبا وبيننا، وتصبح اثينا مكانا للصداقة وبرهانا، إننا لا نزال حضاريين...».

عودة التقليد التاريخي

صرّح فيكيلاس بما يدور في خاطره بعد لقائه الملك جورج وولي العهد لطلب الدعم والتشجيع، فعلقت الصحف بأن «الفرصة أصبحت مواتية للتعبير الميداني»، وتناولت أهمية الدور «في إعادة التقليد التاريخي...»، ثم انهمرت الدراسات والمواضيع والتحقيقات «عن الأمجاد الاولمبية في العصور الغابرة» و«إمكان التصدي للازمة الاقتصادية وتجاوزها... وها هو السباق اليوناني الأصيل ينطلق«.

وأدت هذه الحملة المركزة إلى اتساع الصدى في الدول الأوروبية الأخرى، وتعدى الحديث الفائدة الرياضية إلى فرصة الاستفادة من الألعاب لتأهيل الاماكن القديمة وتسليط الأضواء على النشاطات الفنية والثقافية الموازية، التي يجب ان ترافق المسابقات وإعادة تنظيم التصميم العمراني لأثينا، والفوائد الاضافية من النواحي السياحية والإنمائية والبيئية والاقتصادية كافة.

حدد الموعد من 6 إلى 15 ابريل 1896 لاقامة الألعاب الاولمبية الحديثة الأولى، وشارك فيها 285 رياضيا من 13 دولة هي: النمسا، استراليا، بلغاريا، بريطانيا، هنغاريا، ألمانيا، اليونان، الدنمارك، الولايات المتحدة، فرنسا، تشيلي، السويد، سويسرا.

وتضمنت المنافسات مسابقات المصارعة، الدراجات، الجمباز، ألعاب القوى، السباحة، الرماية، التنس، رفع الأثقال، السلاح.

افتتحت الألعاب الأربعاء 5 ابريل، وأعلن الملك جورج، مرتديا زي أميرال الأسطول الحربي الافتتاح في ملعب باناثينايكون الذي بناه ليكورغو عام 350 ق.م. ورمم بفضل مليون درخما قدمها الثري اليوناني وتاجر القطن جورجيوس افيروف، المقيم في مصر. وكان كوبرتان يفكر في ان يرافق النزالات إلقاء مقاطع شعرية «في رؤية توحيدية لطاقات الإنسان...».

وحضر الافتتاح أكثر من 80 ألف متفرج، وهو رقم قياسي بقي صامدا حتى عقد الأربعينيات من القرن العشرين... وكان أول الفائزين المتوجين الاميركي جيمس كونيلي في الوثبة الثلاثية (13.17م).

سبيريدون يحرز لقب اليونان الوحيد

انقضت معظم أيام الدورة من دون حصول أي لاعب يوناني على ميدالية ذهبية في ألعاب القوى، فأعلن بعض اليونانيين المتحمسين جوائز غريبة لأي مواطن يفوز بالسباق الوحيد الباقي، وهو الماراثون أطول سباقات الجري (42.195كلم)، وكان أثمنها زواجه من ابنة التاجر افيروف مع «دوطة (مهر) حرزانة» مقدارها مليون دراخما، لكن الفائز سبيريدون لويس لم يستطع ذلك لأنه متزوج وأب لولدين... وقد أغدقت عليه العطايا من كل حدب وصوب، بعضها على مدى الحياة ومنها: برميل نبيذ كل أسبوع وكسوة كاملة من خياط يوناني وحلاقة ذقن وقص شعر من حلاق، ورغيف خبز كبير كل يوم، وقرية في الريف وقطعان من الماشية ومنازل وحلى وجواهر... غير أن أكثر اللمسات الإنسانية كانت هدية الصبي الصغير ماسح الأحذية الذي تبرّع بتلميع حذاء البطل يومياً.

سبيريدون لويس دخل الماراثون مصادفة وحقق الفوز

مهما حصل في تاريخ الرياضة الأولمبية لن يمحى من سجلاتها اسم سبيريدون لويس الفائز الأول بالماراثون في الدورة الأولى من الدورات الأولمبية الحديثة، وذلك بعدما اجتاز ظافرا المسار نفسه الذي اجتازه البطل الاغريقي فيليبيدس بعد معركة ماراثون عام 490 قبل الميلاد.

ويعود الفضل في اختيار البطل اليوناني لهذا السباق عام 1896 حين كان يبلغ من العمر 23 عاما الى الكولونيل الذي كان ينفذ خدمته العسكرية تحت امرته، فقد نسي الأخير في منزله نظارتيه في ما كان عليه أن يلقي خطابا مهما، فانطلق لويس الى منزل الضابط راكضاً بسرعة دفعت الكولونيل الى اقتراح اسمه للمشاركة في الماراثون.

كان على خط الانطلاق أقل من 25 متسابقا راحوا ينسحبون الواحد تلو الآخر، أما الراعي الآتي من ماروسي فتوقف قليلا بعد الكيلومتر الثلاثين ليشرب قليلا من النبيذ الأحمر، ويعود الى السباق متفوقا على الجميع وعابرا خط الوصول في المرتبة الأولى. ومع دخوله الملعب احتفل الجمهور اليوناني بنصر اليونان الأول في ألعاب القوى.

ونال لويس مكافأة راتبا شهريا مقداره 100 دراخما شهريا مدى الحياة، بالاضافة الى عدد كبير من الهدايا التي رفضها باستثناء عربة وحصان.

وقد راج الكثير من القصص عن هذا العداء الكتوم، منها ان النصير المحلي للألعاب الاولمبية جورج افيروف عرض عليه الزواج من ابنته لكنه رفض، وادعى البعض ان ثرية اميركية وعدت بالزواج من الفائز في الماراثون لكنها غيرت رأيها بعد السباق، ويقول مؤرخون ان البطل الاولمبي استحصل على حرية شقيقه الذي كان مسجونا اثر مشاجرة.

على أي حال، حصل سبيريدون لويس بعد 40 عاما من انتصاره على شرف حمل العلم في مقدّم الوفد اليوناني في حفل افتتاح أولمبياد برلين عام 1936.

ولادة الماراثون

جري المسافات الطويلة كان عند الإغريق وسيلة للمراسلة وليس للتنافس، لذا كانوا يكلفون ساعيا يمشي أو يركض من مدينة إلى أخرى لنقل الرسائل والأخبار... وانطلاقا من هذا التقليد الذي مضى عليه نحو 2500 سنة، تكونت الأسطورة وتطورّت... ولا تزال تبهر العقول وتثير الحماسة حتى الآن، وخلاصتها ان جيش الفرس توجه عام 490 قبل الميلاد لاحتلال مدينة ماراثون التي تبعد 25 ميلا عن أثينا، فأوفد الساعي فيليبيدس الذي أصبح يعرف باسم فيديبيدس إلى إسبارطة لطلب النجدة، واجتاز مسافة 150 ميلا في اقل من يومين، ما اعتبر إنجازا باهرا حتى في الوقت الحاضر... وإثناء غيابه قرر أهالي ماراثون وأثينا التصدي للغزاة فأخذوهم على حين غرّه ونالوا منهم.

وفي التاريخ القديم، ذكر مؤرخون بعد نحو 600 عام من الحادثة وجود عداء أوفد إلى أثينا ليبشر أبناءها بالنصر، وحسب الأسطورة فإنه اجتاز سهل ماراثون وان بلغ أبواب المدينة صاح «هيهات، لقد حققنا النصر» ثم خرّ ميتا.

واللافت التناقض الواضح بين الروايتين وان يكون فيديبدس نفسه الذي توجه إلى اسبارطة وصل إلى أثينا لكن المهم إن بطل الأسطورة الذي مات في سبيل بلاده، أصبحت واقعة تطرق إليها عدد من المؤرخين والكتاب أمثال روبرت براوننغ «رحلة فيديبيدس إلى أثينا»، وفق الأجواء انطلق سباق الماراثون الذي نعرفه اليوم.

وحين بذل البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان مساعيه الى إحياء الألعاب الاولمبية، وخلال المؤتمر الدولي الذي عقده لهذه الغاية عام 1894، كان اللغوي والمؤرخ ميشال بريل من بين الحضور، وأعجب بأسطورة فيديبيدس واقترح إقامة سباق لجري المسافات الطويلة ضمن برنامج الدورة الاولمبية، وقدم كأسا فضية للرابح.

back to top