صوت الحب والأنس والطرب(8) أميرة الأحزان أسمهان... تترك العزّ وتعود الى ليالي الأنس
بدأت شهرة فريد الأطرش تتسع يومًا تلو آخر، وإن كان ما زال في قلبه حزن دفين يمزّقه، حزنه على فقد الحبيبة، وعلى غياب شقيقته الأقرب إلى قلبه آمال، مع ذلك لم يكن يترك الأحزان لتعطّل مسيرته ومشواره، حيث لم يترك فرصة يمكن أن تضيف إليه ولم يتمسك بها.
في تلك الأثناء، كان الموسيقار مدحت عاصم ترك الإذاعة، وكان يطوق عنق فريد بالفضل، لذلك أقام سياجًا بينهما، إذ يريد فريد المطالبة بالمزيد من الأجر لأن الجنيهات الثمانية لم تعد تليق به ولا باسمه، وعاصم قد يقول إن تلك هي لوائح الإذاعة، فلما ترك الأخير الإذاعة أخذ معه سياج الحرج، فاقتحم فريد مكتب المدير الجديد ليقول له إن أجره في الإذاعة لم يعد يتناسب مع مكانته في عالم الطرب. رفض المدير الجديد أن يزيد الأجر، متذرعًا بعرف الإذاعة وتقاليدها، هنا قال له فريد: إذن سأغني للإذاعة مجانًا. غنى فريد مجانا، وكان يعرف أن الإذاعة أحسن الوسائل للقاء مع جمهوره، وكان يحس أنه مدين له بكل ما يرتع فيه من عز وبحبوحة، ثم أن الإذاعة لم تعد وسيلة رزقه الوحيدة، فلتقم بدورها إذاً كمكان على موجات الأثير يلتقي فيه بجمهوره. لم يكن الجمهور فحسب هو الذي ينتظر سماع أغنيات فريد، فقد لفت أنظار المهتمين من الملحنين والشعراء والموسيقيين، والصحافيين، ومن بينهم الصحافي اللامع محمد التابعي، صاحب ورئيس تحرير المجلة الأسبوعية «أخر ساعة»، غير أن التابعي لم يكن يعرف أن هذا المطرب الذي يملأ الحزن صوته ويلمع في عينيه بريق الدموع بشكل دائم، شقيق تلك الفتاة التي سمعها ولم يسمع بصوتها من قبل، وإن كان لمح في عينيها الحزن والألم نفسهما، والبريق أيضًا. لم يكن التابعي يهتم بأخبار زواج الفنانين والفنانات وطلاقهم في الصحف، على رغم معرفته الدقيقة بتفاصيل الحياة الشخصية لكثيرين منهم، غير أن ما لفت نظره ذلك اليوم، خبر طالعه في إحدى الصحف المصرية اليومية، وهو يتناول قهوته مع صديق له في مقهى في شارع عماد الدين، حيث كان الخبر يقول إن المطربة أسمهان تزوجت ابن عمها حسن الأطرش وهو أمير جبل الدروز، وأصبحت الآن أميرة في الجبل!توقف التابعي عند الخبر طويلا، وهو ما لفت نظر صديقه الذي بادره متسائلا: هل تعرفها؟هز رأسه، ما يُفهم منه أنه لا يعرفها، غير أنه رد عليه بأسى قائلا: لم تكن معرفة وطيدة، بل عابرة، غير أنني لم أكن أتصور أن هذه الفتاة التي كانت تعاني الفقر والجوع، من أسرة عريقة تضم أمراء، وتضطر الى أن تحترف الغناء في صالات شارع عماد الدين!• هل تريد أن تقنعني أنه لم يكن بينك وبينها علاقة من أي نوع... قل كلامك لآخر لا يعرفك! • صدقني لست مضطرا للكذب، فكل ما هنالك أن ماري منصور... أنت تعرفها، والتي كانت يوما واحدة من أعمدة مسرح رمسيس، عندما اعتزلت التمثيل والمسرح افتتحت صالة باسمها في شارع عماد الدين، وفي يوم الافتتاح أرسلت لي بطاقة دعوة، لكني لم أذهب، كذلك لم أعتذر لها لضيق الوقت، وبعد أيام قابلتني ماري وعاتبتني بشدة على عدم حضوري الافتتاح، فوعدتها بزيارة صالتها الجديدة في أقرب وقت.• يا سيدي... وهل مثل تلك الدعوات يُرفض؟• أنت تعرف أن مثل تلك الدعوات ليس لسواد عيوني أو عيون غيري من الصحافيين، وإنما دعوة المقصود بها ولو «خبر صغير» عن هذا المسرح أو ذاك، في «آخر ساعة»! المهم أنني بعد ذلك بفترة كنت أسير بصحبة بعض الأصدقاء في شارع عماد الدين، ومررنا صدفة بصالة «ماري منصور»، فتذكرت وعدي لها بأنني سأزورها في أقرب فرصة، ودخلت الصالة وكانت مزدحمة جدا، لدرجة أننا لم نجد مكانا للجلوس فيه، فوقفنا بضع دقائق للاستماع إلى فتاة كانت تغني على المسرح بصوت رقيق حزين، وكانت نحيلة رقيقة ترتدي ثوبا أسود اللون، وقد لفت رأسها بإزار أسود. كانت تغني وهي ساهمة تنظر أمامها فحسب، لا تلتفت لا يمينًا ولا يسارا، ولا تلقي بالا إلى صيحات المعجبين!!كانت المطربة الصاعدة «أسمهان».أشار صديقه إلى الخبر بالجريدة قائلا:• تقصد أسمهان صاحبة الخبر.. الأميرة؟!• نعم... هي أسمهان الأميرة، وتلك هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيتها فيها، ولم أسمع أية أخبار عنها منذ ذلك الحين حتى وقعت عيني على الخبر الذي يقول إنها تزوجت وأصبحت أميرة في جبل الدروز!! لعيون الأميرةكان الأمير حسن الأطرش وقع في غرام الأميرة آمال عندما رآها للوهلة الأولى، فهو لم يرها منذ تركت الجبل وهي ما زالت طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها بعد، والآن صارت أنثى طاغية الأنوثة. أحبها حبا كبيرا، وراح يعمل كل ما في وسعه، بل كل ما يمكن أن يفعله زوج محب عاشق لزوجته، لإسعادها فحسب، فبزواجها منه عاد لها لقب «أميرة» مجددا، ثم راح يطمئنها على حياتها ومستقبلها، فسجل لها دارا في دمشق لدى السجل العقاري ودفع لها مبلغا من المال قدِّر بخمسمائة جنيه من الذهب، وهو رقم يعدّ في حينه ثروة عظيمة، وعلى الرغم من ذلك كله لم تكن الأميرة سعيدة بحياتها لأنها لم تكن تحبه، وإن كانت تبدو لمن حولها أنها راضية بحياة الثراء والجاه التي تعيشها.عندما أحست بالجنين يتحرك في أحشائها، بدأت الخواطر المزعجة تطوف في ذهنها وفكرت في التخلص منه.طلبت من الأمير أن يسمح لها بزيارة القاهرة لترى أمها وشقيقيها:أريد مفاتحتك في أمر مهم يا أمير.ماذا، هل ينقصك شيء، أو أن هناك ما يضايقك.لا، لم ينقصني شيء، لكن أشعر بحنين وشوق لرؤية أمي وشقيقي فريد، فمنذ إن جئت ولم أسمع عنهما أية أخبار، فهلا سمحت لي بزيارتهما في القاهرة.تريدين السفر الى القاهرة؟!إذا لم يكن لديك مانع.وأنت في هذه الحالة، في ظروف الحمل، فقد يكون السفر خطراً. ردت وهي تتمنى في داخلها أن يحدث هذا الخطر ويخلّصها من حمل لم تكن ترغب فيه.لهذا السبب تحديدا أيضا أريد السفر، أريد أن تكون أمي بجواري عندما أضع مولودي، فقد يكون هذا اللقاء هو الأخير وأموت أثناء الوضع. لا تحرمني من رؤيتها. رد الأمير وهو مهموم وكأنها ألقت بحجر فوق صدره: لك ما تشائين، بشرط ألا يطول غيابك هناك.لن يطول. عودة إلى القاهرةعادت الأميرة إلى القاهرة في حنين جارف لكل شيء تركته هناك، وفي أول فرصة لها ذهبت في تكتم إلى طبيب تعرفه وتوسلت إليه أن يجهضها.أرجوك يا دكتور... هذا رجاء.ما تقولينه مستحيل، لولا أنني على معرفة بك وبأسرتك لكان لي معك كلام أخر، فما تطلبينه أمر يعاقب عليه القانون، ليس أنا كطبيب فحسب، لكن السيدة التي أُجهضت أيضا.ردت الأميرة في انكسار لم تصطنعه:لكني أشعر أنني سأموت، فمن يربي هذا الوليد؟استقبل الطبيب عبارتها بلا مبالاة، فقد تعوّد سماع ذلك من الحوامل اللاتي تخشين عملية الوضع ويتصورن أن فيها هلاكهن.لا تخافي... لا بد من أن يكون لديك إيمان بالله فاتركي الأمر له، وسأفعل ما في وسعي لإنقاذكما معا. فشلت كل محاولات أسمهان لإجهاض نفسها والتخلص من الطفل الذي يمكن أن يربطها بشكل أقوى بتلك الزيجة التي لم تحبها، وبهذا الجبل الذي صعدت إليه مضطرة.عرفت الأم عالية المنذر حكاية محاولات أسمهان إجهاض نفسها، فارتاعت وصرفت ابنتها عن تلك الخواطر المزعجة، ليس خوفا على الجنين، لكن رعبّا على حياة وحيدتها.مولد كاميليابقيت الأميرة أسمهان في القاهرة حتى وضعت ابنتها الأولى كاميليا، وهي الوحيدة التي أنجبتها هناك وبقيت على قيد الحياة، فقد أنجبت أيضا في ما بعد ولدين آخرين في جبل الدروز، غير أنهما توفيا بأمراض الأطفال الشائعة في ذلك الوقت. تركت أسمهان كاميليا لدى أمها عالية المنذر في القاهرة لتتولى رعايتها، وفي الوقت نفسه لتكون ذريعتها عندما تطلب العودة للاطمئنان عليها من حين الى آخر.عادت إلى السويداء مضطرة، في نيتها أمر تفكر فيه، وفي الوقت نفسه لم يشعر الأمير حسن الأطرش بالحب بقدر ما شعر به مع آمال، فقد أصبحت كل حياته، لدرجة أنه أصبح يحبها بجنون ولم يعد قادرا على الابتعاد عنها، بات يتمنى ألا تتفاقم المشاكل بينهما، لأنه يريد أن تبقى له زوجة مدى الحياة، لكن أكثر ما كان يثيره ويدفعه الى الغضب أنها كانت دائما تطلب السفر إلى مصر، وذلك ليس مشكلة في حد ذاته، لكن ما يمكن أن يجره السفر في ما بعد، فهو يعرف جيدا ما كانت عليه الأميرة قبل الزواج، من حبها وعشقها للغناء، ويخشى ما يخشاه أن يكون الحب ما زال متمكنا من قلبها. كانت هواجس الأمير ومخاوفه في محلها، فهي دائما تحن إلى مصر وتسعى بكل السبل الى العودة، باتت لا تطيق الحياة في السويداء، فكتبت إلى والدتها تطلب منها رأيها في أمر جلل.الأميرة تريد الطلاقولأن عالية المنذر تحب آمال أكثر من أي شيء في حياتها، ولولا تدخل فؤاد وإصراره على أن تتزوج من ابن عمها لما وافقت على فراقها. على عكس ما كانت تظن أسمهان، جاء رد الأم سريعا بموافقتها على تفكير آمال في الطلاق، بل وأغرتها به. لم يعد التفكير الذي يدور في عقل أسمهان يؤرقها وحدها، فقد أفصحت عنه لوالدتها، ثمة يشاركها الرأي الآن، وهو ما يعني أن الموضوع في انتظار التنفيذ، يبقى تحديد الموعد المناسب لتفجير «القنبلة» في وجه الأمير، لكن كيف ومتى يحدث ذلك، فهي تلمس جيدًا مدى حب الأمير لها ومدى تعلّقه بها، وتعرف جيدًا أن أمرًا مثل هذا قد يقيم الدنيا ولا يقعدها، وتثور العائلة، ويتدخل هذا وذاك، لذا لا بد من التأني والتفكير جيدا لإخراج الموضوع وتحقيق الأمنية، على الرغم من أن الطلب يعد أمنية غالية المنال بالنسبة إليها، إلا أنها كانت تعيد التفكير مرة ومرات. خشيت أسمهان أن تكون أخطأت في التفكير بطلب الطلاق، كذلك خشيت أن تعود إلى الغناء في الصالات وليس لها سوى والدتها وشقيقها فريد الذي لم يستطع أن يقف إلى جانبها دائما، فقررت كعاداتها أن تتولى الأمر بنفسها، لتتحول حياتها مع الأمير حسن إلى جحيم لا يطاق وخلاف في الرأي.ست سنوات مضت... عاشتها أسمهان في عصمة الأمير حسن، لكنها لم تكن تشعر بالسعادة.مصادفة في سوق الحميديّةظلت تواردها فكرة الانعتاق من حياة الملل والعودة إلى القاهرة... وإلى الغناء.في أحد الأيام، قررت أن تنزل إلى دمشق، حيث تستطيع التنفّس ولو قليلا من ملل الحياة التي تعيشها. لم يكن نزولها بقصد الشراء أو التسوق، فثمة عشرات يمكن أن يقوموا بذلك بدلا منها، تشير بإصبعها وكل شيء يُلقى تحت أقدامها، ومع ذلك باتت تمقت هذا الأمر أيضًا.نزلت إلى دمشق قاصدة «سوق الحميدية»، أكبر أسواق دمشق القديمة وأشهرها، لتشتري الأسطوانات الجديدة من أغاني شقيقها فريد وأم كلثوم وأشياء أخرى. كانت الصدفة التي كان لها الفضل في حسم الأمور سريعا والتعجيل بطلب الطلاق، حيث التقت مصادفة بالدكتور بيضا صاحب شركة «بيضافون»، تسمرت أمامه، فوقف يتساءل من تلك التي تقف أمامه... لا يصدق نفسه... هل هذه أسمهان؟ نعم هي أسمهان، وسألها الدكتور بيضا: أين أنت وأي ريح طيبة أتت بك إلى «سوق الحميدية»؟ردت قائلة: حقًا إنها مفاجأة، لو أنني حاولت واجتهدت لتدبير اللقاء لما استطعت.لم يضيع د. بيضا الوقت في كلام لا طائل منه، فقد دق على الوتر الحساس بشكل مباشر: استبد بنا الحنين لصوتك وأدركتنا الحسرة على أنك تركت الفن وأنت صاعدة إلى قمة المجد الفني.ردت الأميرة أسمهان وقد لمست الكلمات أوتارا حساسة حركت مشاعر وطموحات لا تزال تلح عليها، فسألته في استنكار وهناك إجابة تتمنى سماعها: وهل يمكن وصل ما انقطع؟قال الدكتور بيضا والفرحة تكسو وجهه: نعم، يمكن... بل وزيادة. هل تعودين معي إلى القاهرة غدا؟ردت ضاحكة بعد أن وصلتها الإجابة التي تمنّتها: ليس بهذا الشكل السريع، فالأمر يحتاج إلى تدبير.عادت أسمهان يومها إلى الجبل ورنين كلمات د. بيضا يكاد يصم أذنيها، فلم يعد هناك مفر. اتخذت قرارًا بالعودة إلى القاهرة، مهما كلفها ذلك من ثمن، لكن من غير الحكمة أن تطلب الطلاق هنا، فليس ثمة من يساندها ويقويها في طلبها، وقد تتطور الأمور ويعاند الأمير، فكان لا بد من بداية طبيعية. فاتحت الأمير برغبتها في السفر إلى القاهرة لترى طفلتها كاميليا.سألها: ومتى تعودين؟ردت: حالما تطلب مني العودة.قال الأمير والألم يعتصر قلبه من شدة الهواجس: لك ما تريدين، اذهبي إلى القاهرة، صاحبتك السلامة.الى الغناء مجددًاجاءت أسمهان الى القاهرة ووطدت العزم على أن تعود إلى الغناء، وكان أول المرحبين بذلك والدتها عالية المنذر، ثم شقيقها فريد، أما فؤاد فكان الحجر العثرة في طريقها، يا لها من كارثة.سألها فؤاد: ماذا يقول الناس وهم يرون الأميرة زوجة الأمير تغني؟ردت أسمهان في استخفاف وهي تضحك: سيقولون إن أسمهان المغنية تركت الإمارة للغناء؟عزمت أسمهان ونفذت ما أرادت، وبدأت اتصالاتها من جديد، ولم يستطع فؤاد أن يقف أمام حبها الجارف للغناء، غير أنه تفرغ لمراقبتها من دون أن تدري.سارت الأمور في مجرى آخر حين جاء الأمير حسن من الجبل، وقابله فؤاد، فهذا اللقاء يختلف عن كل مرة تقابلا فيها، الأمير في عينيه شر مستطير، فذهب فورا فؤاد إلى والدته عالية المنذر: ذلك ما كنت أخشاه.ماذا حدث؟ ولماذا أنت مضطرب هكذا؟حضر ابن عمي الأمير حسن.بدا الاضطراب على وجه عالية أيضا، لكنها تحاول ألا تظهره: وماذا في ذلك، أهلا وسهلا به.الأمير جاء وعينيه يطير منهما الشرر.ماذا تقصد؟ما أقصده تعرفينه... سبق وحذرت ابنتك منه أكثر من مرة.هل تقصد... ثم صمتت قليلا: لكنها تريد الطلاق.أرجوك يا أمي لا يفتح أحد هذا الموضوع الآن، رأيت الأمير حسن يحمل معه «مسدسه» لأول مرة، وأخشى ما أخشاه أن تتطور الأمور.جلس الأمير في مواجهة الأميرة وأخذ يسألها بغضب الزوج والعاشق: لماذا تأخرت؟ لماذا لم تردي على خطاباتي، هل نسيت أن لك زوجا ومن حقه عليك أن تذكريه؟ لماذا تختارين لي العذاب؟تطلعت الأميرة أسمهان طويلا إلى وجه الأمير حسن، وتلاقت عيونهما، وردت آمال بهدوء ردًّا لم يتوقعه الجميع:هيا بنا نعود إلى الجبل.