الحذاء في الفن... أقنعة التأويل الفلسفي

نشر في 30-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 30-09-2008 | 00:00

اختارت الفنانة اليابانية شيهارو شيوتا مجسمًا يتألف من مئات الأحذية التي ثبِّتت على واجهة أحد المباني وسط برلين، ضمن مشروع فنّي بعنوان «منزل المخيّلة»، تشارك فيه مجموعة من التشكيليين تُعرض أعمالهم داخل المبنى حتى 12 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

أحذية على جدران المباني في العاصمة الألمانية برلين، هكذا يجد الفنانون الغربيون في كل شيء وسيلة للتعبير عن تفكراتهم، لم لا؟ خصوصًا في خضم موجة ما يسمى «ما بعد الحداثة» التي أفحست في المجال أمام الكثير من المواهب بتنفيذ مشاريعها حتى وإن كانت تافهة، بل جعلت من النفايات وسيلة لصناعة معاصرة تواكب التحوّلات في المجتمعات. المهم في تلك الموجة، التجريب وتقديم العروض العابرة ضد ما يسمى الفن المتحفي والكلاسيكي، ولا تبتعد عروض «ما بعد الحداثة»، التجهيز تحديداً، عن ثقافة الاستهلاك وما حملته الى المجتمعات.

مئات الأحذية على واجهة مبنى في برلين، متعة للنظر او هلوسة تعجيزية أم إفلاس فني! لو شاهدت المغنية سيلين ديون العرض، ماذا ستقول؟! وهي التي اشتهرت بأنها تملك 500 زوج أحذية!! هل تسخر الفنانة اليابانية من زوجة الرئيس الفلبيني السابق اميلدا ماركوس التي كانت تملك 3000 زوج حذاء، هل تريد الفنانة اليابانية الحديث عن موضة الأحذية أم عن ثقافتها؟

في العالم العربي يشكّل الحذاء، العسكري تحديدا، رمزا للقمع الدموي الذي تمارسه السلطات، وذلك ما نراه في لوحات الرسام التشكيلي السوري يوسف عبدلكي الذي اشتغل في السنوات العشر الماضية على مواضيع هامشية وعناصر توحي بما هو أبـعـد مـن دلالاتـها المادية المبـاشـرة، كالعـظـام ورؤوس الأسماك المقـطوعة والعلب الفارغة. كان جـاذبه في بداية العمل على الأحذية، القوة الغرافيكية التي وجدها في أشكالها، لكنه مع استمرار العمل عليها راحت الأحذية تنطق بشيء يشي بأصحابها مثل أناقتهم، جمالهم، أو تعبهم...

فان غوغ

في المقابل رسم الفنان الألماني فان غوغ لوحة «حذاء فلاح»، فأصبحت حجّة للتأمّل الفلسفي بالنسبة الى هايدغر، خصوصًا في كتابه «أصل العمل الفني». يكتب هايدغر عن الحذاء كمن يكتب الشعر، نقرأه بشغف لكن لا نستطيع أن نحفظ منه أي جملة في ذاكرتنا، إنه متعة للحظة وليس مشروعا أو حكما. يقول هايدغر إننا إذا تأمّلنا اللوحة التي رسم فيها الرسام الهولندي فان غوغ «خفّي حذاء فلاح»، لا يسعنا بالطبع انتعالهما. إلاّ أن اللوحة تبيّن لنا خفّي حذاء عائدين لأحد الفلاحين أو لإحدى الفلاحات، كذلك تبيّن علاقة هذين الخفّين بشغل الأرض، وهو الشغل الذي استنفدهما واستهلكهما بالقدر الذي شوّههما».

يضيف هايدغر: «في قرارة تجويف الحذاء المعتّمة، رُسم عناء خطوات الكد. في وطأة الخفّ الصلبة القاسية، ترسّخت الدعسة المتثاقلة العنيدة عبر الحقول، وعلى امتداد أثلام دائمة التشابه انبسطت بعيداً عن مهبّ ريح الشمال. تركت الأرض المكسوّة عشباً والمشبعة رطوبة آثارها على جلد الخفّين، ومن تحت النعال، تمتدّ عزلة درب الريف التي تتوارى في عتمة العشيّة. من خلال تلك الأحذية، يعبر نداء الأرض الصامت وعطاؤها الدفين للحبّة اليانعة ورفضها الخبيء لذاتها في البوار المجدّب العائد للحقل الشتوي. من خلال تلك الأداة، تعاود الفلاحة خشية صامتة، خشية أن تخفق في تأمين الرغيف، ويعبرالفرح المكتوم بالتمكّن مجدداً من البقاء والاستمرار في سدّ الحاجة. كذلك يعاود الفلاحة، من خلال تلك الأداة، قلق من ولادة تداهم وارتعاش من موت يتوعّد. تنتمي تلك الأداة الى «الأرض» وتقوم في حمى «عالم» الفلاحة، وداخل ذلك الانتماء المحمي ترقد الأداة في ذاتها».

الفنانة اليابانية في عروضها هي من دون شك ضد أعمال فان غوغ ويوسف عبدلكي، فهي تعرض ليوم أو أسبوع وينتهي المشهد وتبحث عن فكرة جديدة، أما لوحات فان غوغ فتباع بملايين الدولارت، وربما بعد سنوات تصبح لوحات عبدلكي ذات شأن عالمي. إنه الحذاء في الفن والتجهيز، الحذاء الذي يحملنا يوميًّا في مشاويرنا الطويلة، الحذاء الذي ننعته بأقسى الشتائم!!

back to top