المثقفون العرب والمسألة الإسلامية 1 من 2

نشر في 26-06-2008
آخر تحديث 26-06-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح قد يكون انشغال النخب المثقفة العربية بالشأن الإسلامي على أعتاب طور جديد، يعنى أكثر بقضايا الفكر والاعتقاد الديني الإسلامي بعد طور أقدم انصب اهتمامه على «الحركات الإسلامية». توافق الطور الأول مع عقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين حين برز «الإسلام» في شكل حركات إسلامية، بدت صاعدة سياسياً وجاذبة لجمهور واسع، وعلى خصومة حادة أو في حرب مفتوحة مع الدول القائمة. والشاغل الذي فرض ذاته على المثقفين هو تفسير هذا الصعود الذي بدا إشكاليا إلى أقصى حد، ومتعارضا مع مبادئ «التقدم» المادي والفكري التي تشرط وجود ودور المثقف ذاته. ويُنظر إلى الدين والتنظيمات الدينية من وجهة نظر التقدم كبقايا لماض راكد، لا يعدها المستقبل بغير المزيد من الضعف والتآكل. المستقبل ذاته هو جهة التقدم وصعود وانتصار ثقافة متحررة وفكر نقدي، والمثقف بطل رئيس في مسيرة التقدم ومقر وعيها بذاتها وتجاوزها للماضي المفوت. وهو تكوينياً ناقد للدين، إن كسلطة أو كنظام للمعنى. لذلك فقد هدد صعود الإسلامية المخالف لـ«سنن التقدم» المفترضة بتقويض معنى المثقف وهويته وعالمه، أكثر حتى مما هدده سياسياً، وكان مفهوما تالياً أن يحاول المثقف مساءلة هذا الصعود وكشف خفاياه، كي ينقذ هويته.

توزعت التفسيرات إلى تيارين عريضين؛ يركز أحدهما على عوامل اجتماعية وسياسية وديموغرافية واقتصادية، فيتكلم عن إخفاق الحركة القومية العربية وعن انغلاق نظم الحكم وقمعيتها وفقدانها لأي مشروع يتخطى البقاء الأبدي في السلطة، وعن التزايد السكاني غير المقيد وتدني مستوى التعليم والخدمات الاجتماعية، وعن أزمة التنمية المحلية إن على مستوى إنتاج الثورة أو على مستوى توزيع الدخل، وما إلى ذلك. وما يوحد هذا التوجه التفسيري العام هو بحثه عن سر صعود الإسلامية السياسية في بنى وديناميات مجتمعاتنا المحلية. وهو في ذلك يتعارض مع تفسير آخر يميل بالأحرى إلى اعتبار صعود الإسلاميين نتيجة جهد مشترك من أنظمة عربية محافظة ومن الغرب والولايات المتحدة بصورة خاصة في عقود مواجهة الحركة القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ثم مواجهة الشيوعية والاتحاد السوفييتي في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. ويطلق عزيز العظمة، الذي يقدم صيغة عالمة عن هذا التوجه التفسيري، على تحالف المال السعودي والدعوة الإخوانية والوهابية والرعاية الأميركية السياسية والأمنية، اسم «حلف بغداد الثقافي» الذي يرى أنه شكل بنية تحتية واسعة، لها مراكز نشر ثقافتها ومؤسسات تنسيق أنشطتها وشبكات تمويلها في البلاد العربية والغرب، وتعمل على نشر الإسلامية على نحو ما شهدنا في النصف الثاني من السبعينيات وما بعدها.

ويرتبط العلاج الناجع بالتشخيص المقترح في الحالين. فإذا كانت الإسلامية محلية الدوافع، وكان ينبغي البحث عن «أسرارها» في بنانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسكانية، في نموذج «الحداثة الرثة» عندنا حسب برهان غليون الذي يمثل هذه المقاربة التفسيرية؛ وجب إصلاح البنى المحلية من أجل أن تتراجع الإسلامية هذه أو تتشكل في صورة حميدة أكثر. ومن الطبيعي أن يرفض ممثلو هذه المقاربة «الحل الأمني» أو العنفي، وأن يدافعوا عن حل سياسي للصراع مع الإسلاميين، وأن يدعوا إلى إدماج هؤلاء في الحياة العامة في بلداننا، وأن يصبوا ألذع نقدهم على نظم الحكم القائمة في بلداننا. أما إذا كان صعود الإسلامية نتاج حلف سياسي ثقافي ناشط من وراء الستار، أو «مؤامرة إمبريالية» حسب اللغة البعثية السورية، فسيكون الحل المقترح هو «دحر المؤامرة» هذه و«سحق عملائها»، وسيكون الحل الأمني هو الحل، وسيعترض على إدماج الإسلاميين في الحياة العامة وتزكى ضدهم سياسة استئصالية. وإن لم يصطف أصحاب هذه المقاربة صراحة إلى جانب السلطات، فإنهم لن يجدوا شيئاً يقال بحقها.

على أن النزاع التفسيري بين الطرفين لا ينفي ما أسلفناه من أنهما شريكان في «فكرة التقدم» التي تجعل من صعود الإسلامية مشكلة تحتاج إلى تفسير، وليست «عودة وعي» أو «صحوة» تلت غفلة الأمة عن هويتها وأصالتها على نحو ما قد يشرح الإسلاميون أنفسهم أمر صعودهم العاصف. يريد طرف تغيير الشرط الاجتماعي الذي تولد عنه الإسلاميون أو شكلهم العنيف كي يزول هذا الشكل وتتراجع قضية أهله. وبحكم توجهه التفسيري يغفل هذا الاتجاه التكوين الفكري للإسلامية المعاصرة ولا يشعر بالحاجة إلى النظر في أدبيات الإسلاميين المعاصرين، ولا من باب أولى في المتون الاعتقادية الإسلامية. بل إن استعداده الفكري ذاته يدفعه إلى إبراز ما قد يكون في الحركة الإسلامية أو حولها من اتجاهات فكرية منفتحة بعض الشيء ومن مفكرين إسلاميين أقبل بالتعدد والديمقراطية (التي يتأولها الإسلاميون عموماً كحكم «الأمة»، المعرفة حصراً أو أساساً بالإسلام). والسمة الأخيرة للمقاربة التفسيرية الداخلية، إن جاز القول، هي السكوت على مثالب الإسلاميين، والامتناع عن نقد مذاهبهم، والتقليل من شأن قضايا النهضة الثقافية والدفاع عن التحرر العقلي والحرية الفكرية والدينية.

بالمقابل يريد دعاة المقاربة التفسيرية الخارجية أن يحطموا الفيروس الغريب ذاته ويحموا الجسم الاجتماعي منه. لكنهم لا يقدمون إجابة متسقة عن سر فاعلية «المؤامرة» الخارجية وتأثيرها في جمهور واسع. وما قد يستخلصه المرء من قراءة أدبيات من هذا الصنف هو أن الناس في مجتمعاتنا بلا عقل، وأنه يسهل التلاعب بهم واستمالتهم إلى قضايا تتعارض مع مصالحهم. ويكمل هذا الاستخلاص نزوع مطرد عند أصحاب هذا التوجه إلى اتخاذ موقف عدائي من التفكير الإسلامي ومن العقائد الإسلامية ذاتها، وإلى التهوين من شأن أي فوارق محتملة بين الإسلاميين. ويتوافق رفع الغطاء القيمي والرمزي عن المعتقد الديني وعن إدراك عموم الناس مع سمة إضافية لهذه المقاربة: عدم الاهتمام بما قد يسحق من الجسم الاجتماعي ذاته أثناء عملية قتل الفيروس الديني، أو حتى الترحيب بذلك. ومن المتوقع تالياً ألا تستثير بنى السلطة في بلداننا اهتماما يذكر، أو أن تقع خارج الساحة البصرية لهذه المقاربة التفسيرية. وهنا أيضا يُستغنى عن المعركة الثقافية برفض سلبي للانخراط النقدي في مواجهة التفكير والبنى المعتقدية الدينية. أو قد يعتبر الرفض هذا بحد ذاته تنويرياً وتقدمياً.

ويقود تركيز المقاربة التفسيرية الداخلية لنقدها على نظم الحكم إلى الديمقراطية عنواناً لسياسته ونهجه العام، في حين تستصلح المقاربة الخارجية التي ينصب جام نقدها على الدين والجماعات الدينية عنواناً مقابلاً هو العلمانية. ويشترك الديمقراطيون والعلمانيون على نحو ما رأينا في فكرة التقدم.

ويشتركان أيضا في ضآلة انشغالهما بالفكر الديني ومضامينه.

*كاتب سوري

back to top