دبي: الكاتب والكتاب

نشر في 10-03-2009
آخر تحديث 10-03-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله بعد أن صدر له كتاب بعنوان «الإمارات العربية المتحدة: دراسة في البقاء والاستمرار» عام 2005، وكتاب آخر بعنوان «دبي: تحديات النجاح» خلال صيف 2008، أصبح الدكتور كريستوفر ديفيدسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة دورهام البريطانية، المعلق الأكثر شهرة والذي يعتمد ويعتد بأقواله في كل ما يكتب في الصحف العالمية حول تأثيرات الأزمة المالية الراهنة على دولة الإمارات، خصوصاً عاصمتها التجارية دبي.

المقالات والتحقيقات والموضوعات جميعها التي تناولت دبي في ظل الأزمة المالية الراهنة تستشهد بآراء ديفيدسون، وجميعها تقدم صورة سيئة ومسيئة. فكل ما يقوله ديفيدسون يصبح القول الفصل ويتحول إلى عناوين تتصدر الصفحات الأولى في الصحف البريطانية والأميركية الكبرى المنشغلة بدبي بشكل مدهش، والتي أخذت تروِّج على نطاق واسع وبنفس انتقامي واضح لعناوين صفراء من قبيل نهاية معجزة دبي، وسقوط حلم دبي، وانهيار أبراج دبي، وانفجار فقاعة دبي، ونهاية المطاف لاستقلالية دبي، ودبي مدينة الأشباح، ودبي المدينة المريضة، وما إلى ذلك من عناوين مغرضة لا تمت للواقع بصلة.

المصدر الأول لهذه العناوين الصحافية القاسية هو الدكتور كريستوفر ديفيدسون الذي قدم نفسه في كتابه الأخير، وفي فترة ما قبل الأزمة المالية «كمحب لدبي ومن أشد المعجبين بنجاحاتها وإنجازاتها. لكن فجأة ومنذ بداية الأزمة المالية العالمية انقلب ديفيدسون وتحول إلى أكبر ناقد ومتشائم ومشكك في نموذج دبي. وأخذ يروِّج لبيانات غير دقيقة، وأرقام غير صحيحة، وتصورات واهمة، وصراعات غير قائمة ومنافسات غير موجودة وحقائق ليست بحقائق.

فدبي وعلى عكس ما تروِّجه الصحافة الأجنبية ليست بفقاعة، وأبراجها مازالت قائمة وهي الأعلى في العالم، ومرافقها هي الأكثر نشاطا في المنطقة، والمدينة تعج بالحياة ومليئة بالحيوية ومازالت تجذب العقول المبدعة وتسعى للحد من آثار الأزمة العالمية وعلاقتها قوية كل القوة مع بقية الإمارات، وهي اليوم كما كانت دائما واثقة من نفسها وتبني مستقبلها الذي سيكون بنفس ازدهار ماضيها وحاضرها.

لكن الصحف الغربية التي اعتمدت ديفيدسون وكأنه العالم العليم، انقلبت أيضا من صحافة معجبة كل الإعجاب بنجاحات هذه المدينة العربية إلى صحافة قاسية كل القسوة في كل ما تكتبه عن تداعيات الأزمة المالية العالمية العاصفة على دبي التي هي في وضع أفضل نسبياً من المراكز المالية العالمية كمدينة لندن وطوكيو ونيويورك المسؤولة عن تصدير هذه الأزمة على النطاق العالمي.

التركيز الإعلامي العالمي السلبي المكثف على دبي مثير للانتباه ويطرح السؤال لماذا دبي؟ لقد حاول كريستوفر ديفيدسون الإجابة عن هذا السؤال في كتابه «دبي وتحديات النجاح»، التي جاءت أطروحاته وفصوله أكثر توازنا وتعاطفا وعقلانية من إطلالاته وآرائه الصحافية الانفعالية والمتشنجة.

لقد عاش ديفيدسون في دبي وتابع بروزها عن قرب، وكتابه الأخير ليس بكتاب عابر سبيل أو عابر سرير، بل هو كتاب أكاديمي موثق ومرجعي وينم عن اطلاع الكاتب ومعرفته الدقيقة بالتاريخ وما يجري في هذه المدينة المدهشة التي تحتاج ليس إلى كتاب بل ألف كتاب وكتاب.

لكن على أهمية كتاب ديفيدسون إلا أنه يحتوي أيضا على تعميمات وشطحات وتناقضات وأخطاء شنيعة حول الماضي والحاضر، فالفصل الأول من الكتاب ممل جدا ويكرر حقائق تاريخية معروفة ومتداولة ويبالغ في إبراز الدور البريطاني في ما تحقق من نجاح في دبي.

ولا يضيف الفصل الثاني الذي يعالج فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أي جديد. بل يميل ديفيدسون كغيره من المؤرخين إلى تضخيم دور ونشاط ما يعرف في الوثائق البريطانية بـ«الجبهة الوطنية» التي استخدمها الاحتلال البريطاني كفزاعة لتخويف شعوب وحكام المنطقة من المد القومي الذي برز خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

ويشير الكتاب في أكثر من فصل إلى بروز دبي كميناء تجاري في بداية القرن الماضي، حيث سبقت المدن الأخرى في اعتماد فلسفة التجارة الحرة، والانفتاح الاقتصادي، والإعفاء الجمركي، واستقبال العائلات التجارية القادمة من بر فارس. لكن على أهمية هذه الملامسة التاريخية إلا أنها جاءت مطولة وتفصيلية بحيث لا يمكن أن يتحملها أي قارئ بما في ذلك القارئ المتخصص الذي لا يعنيه تفاصيل التفاصيل.

يقول ديفيدسون في الفصل الخامس من كتابه إن الاستقرار السياسي العميق المرتبط بأسس شرعية الحكم هو المدخل لفهم نجاحات دبي. لكن ديفيدسون يعتقد أن المرحلة الراهنة، هي الأصعب بالنسبة للاستقرار بسبب المؤثرات الداخلية والخارجية على العقد الاجتماعي التقليدي. ويناقش الكتاب في فصله السادس بشفافية عالية قضايا وطنية ومجتمعية شائكة مثل الخلل السكاني، وتفكك النسيج الاجتماعي، والخوف على هوية المدينة واعتمادها الشديد على السياحة الذي ربما كان بنفس خطورة الاعتماد المفرط على النفط كمصدر واحد ووحيد للدخل.

وبقدر ما تشكل مناقشة هذه القضايا الشائكة نقطة قوة تحتسب لهذا الكتاب، فإن أكبر نقاط ضعفه هو نظرة ديفيدسون الدونية والنمطية تجاه المواطنين واعتقاده بهشاشة نموذج دبي. مثل هذه الأقوال لا تصدر عن باحث جاد، وتعكس جهل الكاتب بقوة اقتصاد دبي والإمارات الذي هو الاقتصاد الأكثر تنوعا في المنطقة العربية. يقول ديفيدسون إنه لا يسعى إلى التقليل من نجاحات العاصمة الاقتصادية لدولة الإمارات، إنما يرغب في لفت النظر إلى تحديات الداخل ومخاطر الخارج.

لكن إذا كانت النية طيبة فإن المعالجة خاطئة، خصوصا عندما يضخم الكتاب التنافس التاريخي بين دبي وأبوظبي في الوقت الذي يتجاهل فيه تماما التكامل الحميد والتناغم الجميل القائم بين إمارات الدولة الاتحادية كافة على مدى الـ37 سنة الأخيرة.

تناقضات ومغالطات الكاتب والكتاب كثيرة، لكن أسوأ ما في هذا الكتاب هو الأخطاء الشنيعة حول الأسماء والأحداث والوقائع والحقائق. وجود المغالطات يضعف الثقة في الكتاب، ووجود الأخطاء الكثيرة يخدش الثقة في الكاتب الذي قرر أخيرا الانضمام إلى قائمة المتشككين وقافلة الشامتين. عندما كانت المدينة متألقة كان ديفيدسون وغيره من أكبر المعجبين والمتفائلين، أما الآن وفي ظل الأزمة الراهنة تحول فجأة إلى أشد المنتقدين والمتشائمين.

مهما كانت قسوة الانتقادات، ستظل دبي واثقة من نفسها ومتفائلة بمستقبلها ومستمرة في رحلة التأكيد على التميز، لكن قدرها أن تكون أيضا مدينة غير عادية وظاهرة مثيرة للجدل في زمن اليسر كما العسر. لو كانت دبي مدينة عادية لما كان هناك كاتب وكتاب ولما كان كل هذا التركيز الإعلامي بحقه وبباطله.

*باحث وأكاديمي إماراتي

back to top