إطلالة جديدة على مدارس العلاقات الدولية (2-2)
تختلف مناطق العالم المختلفة فيما بينها على خلفية العناصر المادية مثل الاعتبارات الجغرافية والتاريخ المشترك واللغات المتقاربة وليس آخراً القيم المشتركة، ولكن المشترك بين هذه المناطق جميعاً هو أن القوة الإقليمية لن تصبح كذلك دون اعتراف اللاعبين الآخرين بأنها أصبحت بالفعل كذلك. وفي دراسة لعالم السياسة الألماني ديرك نابرز عن علاقات القوة في آسيا مثلاً توصل إلى نتيجة مفادها أن الصين، صاحبة القدرات الصلبة الأقوى، لم ينظر إليها من الدول الآسيوية على اعتبارها «الممثل الإقليمي» إنما اليابان. وعند الانتقال إلى تطبيق النظريات المختلفة للعلاقات الدولية على منطقة الشرق الأوسط ومحاولة تعيين محددات صعود وهبوط القوى الإقليمية، نصطدم أولاً بصعوبة إيجاد تعريف مقبول للشرق الأوسط من المدارس الفكرية المختلفة. ولأن مصطلح الشرق الأوسط هو مصطلح فضفاض (ابتكرته الخارجية البريطانية في القرن التاسع عشر!) فإنه يغطي على مشتركات كثيرة وتناقضات أقل، وبالتالي تظهر مشاكل واضحة عند تطبيق مدارس العلاقات الدولية على المنطقة. يمكن ملاحظة أن علاقات دول المنطقة ببعض كانت دائماً محدودة مقارنة بعلاقات هذه الدول مع الدول الصناعية المتقدمة، وهي مزية لا تتوافر في باقي المناطق الجغرافية في العالم مقارنة بالشرق الأوسط. وحتى نستطيع الوصول إلى فهم أفضل لواقع الشرق الأوسط الحالي يجب استعمال المداخل النظرية للمدارس الثلاث، وبناء عليه فطبقا للمدرسة الواقعية الهيكلية، التي تهتم بتوزيع القوى، يتميز الشرق الأوسط باختلال مزمن ودائم للقوى بين الدول المختلفة. وتتداخل في الشرق الأوسط عدة نظم إقليمية فرعية، ففي المغرب العربي القوتان الإقليميتان المحتملتان هما المغرب والجزائر اللتان تتنافسان تاريخياً على النفوذ في منطقتهما، أما في منطقة الخليج العربي فقد قام النظام الأمني وتوازنه الإقليمي على ثلاثية مكونة من إيران والعراق والسعودية، وكل من هذه القوى تنافس تاريخياً مع الآخر. وبالمقابل يعاني المشرق العربي تاريخياً وجود «إسرائيل» وآلتها العسكرية الضخمة والحروب التي ميزت القرن العشرين من جراء وجود هذه الآلة. وتلاحظ المدرسة الهيكلية الواقعية أن هناك حتمية لحدوث تغييرات في القوى الإقليمية، وبتطبيق ذلك على المنطقة يمكن ملاحظة المثال المصري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وحالها بعد هذه الحقبة. تتميز البنى الإقليمية في الشرق الأوسط- من منظور المدرسة المؤسسية- بالتخلف الواضح، وبالتالي يتميز الشرق الأوسط بأن التعاون الإقليمي بين دوله هو الأدنى مقارنة بأي منطقة جغرافية في العالم. وبآلتها العسكرية الضخمة تؤثر «إسرائيل» على أجندة الأمن الإقليمي كما لا تفعل غيرها. وبالرغم من ذلك فإن «إسرائيل» لا تريد أن تدرك أنها ليست قوة إقليمية ولن تكون كذلك مهما ازداد ضعف النظام العربي الرسمي، وذلك لأن عدد سكانها قليل ولأنها لا تملك مشروعية القيادة في المنطقة بالرغم من أن قدراتها العسكرية وعلاقاتها الدولية.لا ينطبق تعريف القوة الإقليمية على أي دولة في الشرق الأوسط الحالي، حيث تحتفظ كل دولة ببعض المقومات وليس كلها، ويزيد على ذلك أن القوى الإقليمية ليس لها أثر كبير في حل الصراعات الإقليمية، ومرد ذلك أن القوى الدولية وليس الإقليمية هي التي تملك أكبر الأثر في تشكيل التصورات الخاصة بالمنطقة. واللافت في التحليل وتطبيق نظريات العلاقات الدولية على المنطقة ملاحظة أن الولايات المتحدة أصبحت لاعباً إقليمياً في شؤون المنطقة، وأن «إسرائيل» أفلحت في دفع الولايات المتحدة الأميركية للقيام بذلك، حتى تساعدها على انتزاع قبول إقليمي في المنطقة، وهو ما لم يحدث بالرغم من الوجود الأميركي الكثيف في طول وعرض المنطقة! إذا امتلكت إيران القدرات النووية، فإنها ستنهي بذلك احتكار «إسرائيل» للسلاح النووي وتحول المنطقة من أحادية القطب الإقليمية إلى ثنائية القطب الإقليمية. وبالمقابل فإن أقصى ما تستطيع «إسرائيل» أن تفعله بعلاقاتها الدولية المتشابكة وواسعة التأثير هو عرقلة صعود أي قوة إلى مصاف القوة الإقليمية في المنطقة، وهو ما ينطبق بوضوح على «إسرائيل» التي تستميت في منع إيران من البروز قوة إقليمية عظمى في المنطقة. الخلاصة هي أن مدارس العلاقات الدولية- وليس الانحيازات الأيديولوجية- هي التي تفسر نظم وأسس التحالفات والعداوات في الشرق الأوسط، كما أنها الأقدر على تفسير آليات صعود وهبوط القوى الإقليمية العظمى! * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.