الفلسفة وحياتنا المعاصرة

نشر في 16-06-2008
آخر تحديث 16-06-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

الفلسفة ضرورية في حياتنا المعاصرة لمزيد من الوعي بالواقع والموقف الحضاري، علاقتنا بالموروث القديم الذي مازال حيا في الشعور الجماهيري دون القطيعة معه، وعلاقتنا بالوافد الحديث الذي أصبح في عقل النخبة، زرعا في غير أرضه، ولم ترتبط الجماهير به، وعلاقتنا بالواقع المعاش الذي يحتاج إلى تأمل وتدبر وإدراك.

هناك بعض التعبيرات السلبية في لغتنا اليومية خاصة بالفلسفة مثل «بلاش فلسفة»، «إنت بتتفلسف علينا» وتعني الكلام الزائد غير المفهوم وغير المفيد، اللغو الذي لا يحل ولا يربط في حين أن الفلسفة ليست كذلك، فهي إعمال العقل والنظر الحر دون أحكام مسبقة دينية أو سياسية أو اجتماعية في واقع سياسي واجتماعي وثقافي معين لشعب ما، في مرحلة تاريخية محددة عن طريق العقل النقدي من أجل التغير الاجتماعي، وليس عن طريق العقل التبريري للإبقاء على الوضع القائم. فهي ضرورية من أجل البحث عن اليقين النظري أو العملي.

ليست الفلسفة المنقولة عن القدماء نظرا لتغير المرحلة التاريخية كلها من الانتصار إلى الانكسار، وتغير الظروف الحضارية من اليونان القديم إلى الغرب الحديث. كما أن الفلسفة القديمة استقرت على جانب واحد، الأشعرية في الكلام، والإشراقية في الفلسفة، والطرقية في التصوف، والمذاهب الأربعة في الفقه، واتحدت مع السلطتين الدينية والسياسية. وتحولت إلى ثقافة شعبية في الأمثال العامية. الفلسفة هي الإبداع وتجاوز المنقول من القدماء إلى المحدثين إلى المبدع الجديد. فالعالم ليس هو «الحافظ» بل «المبدع»، ليس العالم بالرواية بل بالدراية، فالعلم ليس المعلومات بل قراءة ما بين السطور، استنباط المعلوم من المجهول.

وليست الفلسفة هي تلك الوافدة من الغرب التي تبنتها النخبة ترجمة وعرضا، فقد نبتت في بيئة مخالفة، ويعاد زرعها في بيئة مخالفة أخرى. إشكالاتها أحيانا مزيفة، وحلولها أحادية أو عدمية. تعبر عن العصور الحديثة الأوروبية في حين أننا في نهاية عصرنا الوسيط. والفلسفة المعاصرة الغربية تعبر عن نهاية العصور الحديثة في الغرب ونحن في بداية عصورنا الحديثة منذ الإصلاح الديني وفجر النهضة العربية. كل فلسفة تعبر عن اللحظة التاريخية التى تمر به حضارتها، ولا تنقل من حضارة إلى أخرى وإلا خرجت الحضارة عن مسارها التاريخي، وتحولت المسارات كلها إلى مسار واحد كما هي الحال في تحول حضارات العالم كله في الشرق إلى مسار الحضارة الغربية وقسمته إلى قديم ووسيط وحديث مع أن الحضارة الإسلامية ليست في الوسيط بل لها تحقيبها الخاص. ما يسمى بالوسيط الأوروبي هو عصر الازدهار الإسلامي، وما يسمى بالحديث الأوروبي هو عصر الأفول الإسلامي، عصر الشروح والملخصات.

حياتنا المعاصرة هو موضوع الفلسفة، والتأمل النظري هو واقعنا المعاصر الذي يفرض موضوعاته، ويتطلب تنظيرا لها من أجل ممارستها الفعلية. أولاها فلسفات التحرير لاستكمال حركات التحرر الوطني بعد أن عاد الغزو الاستعماري العسكري المباشر مثل فلسفة المقاومة عند فشته، وفقه الأرض المغصوبة في الفقه القديم. وثانيتها فلسفات الحرية تدعيما لحرية الإنسان ضد كل مظاهر القهر الديني والسياسي والاجتماعي والتاريخي. ويتم ذلك عن الحوار مع فلسفات الحرية العقلية عند ديكارت وكانط، والنفسية عند برجسون، والشخصانية عند مونييه، والوجودية عند سارتر. وثالثتها فلسفات العدالة الاجتماعية لحل قضية الفقر والغنى وسوء توزيع الدخل القومي والتعامل مع فلسفات العدل الاجتماعي بكل أنواعه من اشتراكية طوباوية وخيالية ودينية ومثالية وعلمية، وما يقابلها في الموروث القديم من نظريات الاستخلاف والإقطاع والمشاع والمساواة. ورابعتها فلسفات الوحدة القادرة على حماية الأمة من كل أشكال التجزئة الطائفية والعرقية مثل فلسفات الوحدة في الغرب عند هيغل والرومانسية الألمانية ونظريات وحدة الشهود عند ابن الفارض، ووحدة الوجود عند ابن عربي، والوحدة المطلقة عند ابن سبعين في التصوف الإسلامي. وخامستها التنمية الشاملة من أجل الاعتماد على الذات وتأصيلا لها في الموروث القديم في نظريات التسخير وإعمار الأرض واستثمار الثروات الطبيعية والحيوانية، وفي نظريات التنمية المستدامة والمستقلة في أميركا اللاتينية وآسيا. وسادستها فلسفات الهوية التي تحمي الأمة واستمرارها في التاريخ بدلا من الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية واعتمادا على فلسفات الأنا والذاتية في الغرب أو لدنيا خاصة عند محمد إقبال، وسابعتها وآخرها فلسفات تجنيد الجماهير وحشد الناس من أجل تحويلهم من كم إلى كيف اعتمادا على ثورة الجماهير عند أورتيغا أو تربية المضطهدين عند فريري أو مفاهيم العامة والخاصة والجمهور في الموروث القديم وما استحدث من فعاليات اجتماعية جديدة مثل العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين الوطنيين.

الفلسفة إذن ضرورية في حياتنا المعاصرة لمزيد من الوعي بالواقع والموقف الحضاري، علاقتنا بالموروث القديم الذي مازال حيا في الشعور الجماهيري دون القطيعة معه، وعلاقتنا بالوافد الحديث الذي أصبح في عقل النخبة، زرعا في غير أرضه، ولم ترتبط الجماهير به، وعلاقتنا بالواقع المعاش الذي يحتاج إلى تأمل وتدبر وإدراك وتعامل مباشر مع الواقع بالمخزون النفسي القديم أو بما ورد من ثقافة حديثة من خلال الإعلام أو بالبداهة والفطرة والحكمة الشعبية.

الفلسفة إذن ليست الكلام المعقد غير المفهوم بل هي القدرة على الدخول في أعماق الواقع لفهمه وتغييره. حينئذ تصبح الفلسفة جزءا من حياة الناس ومطلبا لهم.

* كاتب وباحث مصري

back to top