بعد 4 أعوام في غوانتانامو عبد الله صالح العجمي... من أسير إلى انتحاري!

نشر في 09-03-2009 | 00:00
آخر تحديث 09-03-2009 | 00:00
بعد إطلاق سراح عبد الله صالح العجمي من سجن خليج غوانتانامو العسكري قبل أكثر من سنتين، ركع أمام جدار أبيض ممسكاً بندقيته الرشاشة وفوهتها نحو الأعلى. ثم أدلى برسالة أمام عدسة الكاميرا.

كان العجمي حلق لحيته غير المشذبة، التي أحب طفله اللعب بها، تاركاً شارباً خفيفاً. وقص شعره المشعث قصيراً جداً بعد أن كان يتدلى حتى كتفيه. وتخلص أيضاً من العمامة البيضاء المتجعدة التي اعتاد اعتمارها.

راح العجمي يتكلّم بجدية لم تعهدها عائلته التي اشتهرت بحس الفكاهة. كان الغضب والغيظ يعتملان في داخله، فما زال يشعر بمرارة سجنه طوال أربع سنوات في مركز الاعتقال الأميركي الخاضع لحراسة مشددة على ساحل كوبا الجنوبي الشرقي. راح يقول: «الحمد لله الذي أخرجني من سجن غوانتانامو وجمعني بدولة العراق الإسلامية». وهزّ إصبعه أمام الكاميرا وأقسم قائلاً: «سننتقل، بإذن الله، إلى جنات الله سبحانه وتعالى. سندخل أوكار الكفر».

في الساعة السادسة والربع من 23 مارس (آذار) عام 2008، بعيد تصويره شريط الفيديو هذا، قاد العجمي شاحنة صغيرة محملة بـ2250 إلى 4500 كيلوغرام من المتفجرات المخبأة داخل ما بدا أكياس طحين بيضاء، واقتحم قاعدة عسكرية عراقية خارج الموصل (شمال العراق). فعبر نقطة التفتيش عند المدخل، مصطدماً بالبراميل الموضوعة أمامها، واجتاز وابل الرصاص الذي أطلقه عليه الجنود، محتمياً وراء زجاج مضاد للرصاص ودرع ملصقة إلى جانبي مقصورة السائق.

أودى تفجير أحد عيد الفصح هذا بحياة 13 جندياً عراقياً وجرح 42 آخرين. وخلّف حفرة كبيرة في الأرض عرضها 9 أمتار تقريباً، وهو لا يزال أكثر عملية إرهابية عنفاً ينفذها معتقل سابق في غوانتانامو.

بعد أن اتخذ الرئيس أوباما خطواته المترددة الأولى نحو الوفاء بوعده بإقفال غوانتانامو، تحوّلت قضية العجمي إلى رمز للتحدي الصعب الذي تواجهه هذه الإدارة. فعليها تحديد مصير الإرهابيين المشتبه بهم، عملية ستؤدي لا محالة إلى إطلاق سراح مزيد من المعتقلين من بين المئتين والخمسة والأربعين المحتجزين في هذا السجن.

قلق

يشعر كبار المسؤولين الحكوميين الأميركيين بالقلق من تحوّل العجمي من معتقل إلى انتحاري. فهو لم يُصنَّف من بين أسوأ المساجين، ولم ينتمِ يوماً إلى كبار عملاء القاعدة السابقين، الذين يُعتبرون معتقلين «قيّمين». ولم يكن مجرماً يشكل خطراً كبيراً وطويل الأمد على الولايات المتحدة، إذ بدت تهمته الرئيسة (المحاربة إلى جانب طالبان) تافهة مقارنة بجرائم ارتكبها معتقلو غوانتانامو آخرون، حسبما يُعتقد. وفي محاكمة مراجعة وضعه القتالي، لم يُتهم بتنفيذ أي عمل عنيف محدد غير «مشاركته في حادثتين أو ثلاث لتبادل إطلاق النار مع تحالف الشمال»، وفق ما ورد في خلاصة لأدلة قدّمها الجيش. وكما ذكر مسؤول حكومي سابق كان معنياً بشؤون المعتقلين، لم يرد اسم العجمي «على أي قائمة لأبرز 10 أشخاص من المتوقع أن يعودوا إلى القتال».

منذ موت العجمي، عملت أجهزة الاستخبارات الأميركية على تحديد متى انقلب إلى مجاهد ملتزم. هل حدث ذلك في أواخر التسعينات حين وقع تحت تأثير داعية متعصب خلال خدمته في الجيش الكويتي؟ أو في عام 2001 حين انضم، حسبما يُقال، إلى حركة طالبان؟ أو بعيد إطلاق سراحه عام 2005 عندما رحب به المتطرفون في وطنه بحفاوة، معتبرينه «أسد غوانتانامو»؟ وهل يُعقل أن تكون الإجابة أشد خطورة؟ أيمكن أن يكون انحداره نحو التعصب والأصولية نتيجة غير متوقعة لاعتقاله؟

ترتكز قصة العجمي الدينية والسياسية على مقابلات مع محاميه في واشنطن والكويت وعائلته ومسؤولين حكوميين أميركيين مطلعين على قضيته، فضلاً عن وثائق عسكرية أميركية وسجلات محاكم في الولايات المتحدة والكويت ومستندات أخرى قدمتها مصادر أخرى معنية بالقضية.

مثّل المحامي توماس ويلنر العجمي عندما كان في عهدة الولايات المتحدة، وزاره أكثر من ست مرات خلال فترة اعتقاله. يؤكد ويلنر أنه يعرف ما حلّ بموكله السابق ويجيب: «ماذا أصابه؟ هذا تأثير غوانتانامو». ويشير إلى أول رسالة تلقاها من العجمي:

إلى المحامي توم المحترم،

سيدي العزيز،

كيف حالك وحال فريقك اللطيف؟ آمل بأن تكونوا بأتم الصحة والعافية. أخبرني عن أحوالك يا سيد توم وعمّا يدور في العالم الخارجي.

أود أن أخبرك أنني وإخوتي كلهم بخير...

أشكرك يا سيد توم وأرسل لك أحر تحياتي.

المعتقل المسرور

جهيمان العجمي.

ثم يكشف ويلنر آخر رسالة تلقاها منه:

إلى توماس الشرير المنحط المتحدر من القردة والخنازير العفنة،

أحييك بركلة وبصقة وصفعة على وجهك الكاذب العفن البشع والكئيب. عندما تصلك هذه الرسالة، آمل أن تكون في جهنم تتعذب بنارها وتتعرض للضرب على يد رجال سيُحاسبون...

توماس، سألقاك غداً وسأضربك بسيف مهنّد ماضٍ ذي حدين سيقطعك إرباً إرباً. وسألقي بك إلى الضباع وإلى وحوش البرية لتقتات بك. فتمزقك وتنهش لحمك.

بعنفٍ وقسوة،

جهيمان العجمي.

علامات تنذر بسوء

أُوقف العجمي في باكستان في ديسمبر (كانون الأول) عام 2001. وكان بين الإرهابيين الأوائل المشتبه بهم الذين نُقلوا إلى غوانتانامو. بدأت محاكمته في 17 يناير (كانون الثاني) 2002. كان العجمي خلال المحاكمة يرتدي بزة برتقالية والأصفاد حول معصميه وكاحليه. احتُجز وهو مكبل بسلاسل في زنزانة في الهواء الطلق. كان آنذاك في الثالثة والعشرين.

لا تُستخدم الأسماء في غوانتانامو، إذ يحمل كثيرون اسم أحمد وعبد الله، فضلاً عن أن الاسم العربي يُنقل إلى الإنكليزية بأشكال مختلفة، ما يسبب لغطاً كبيراً. لذلك اعتاد الحراس، الذين يتجولون عادة خارج السياج الشائك، مناداة العجمي برقم اعتقاله المتسلسل، 220.

أمضى العجمي معظم أيامه جالساً داخل زنزانته. خلال سنواته القليلة الأولى هناك، ما كان يُسمح للمعتقلين بالحصول على أي كتب أو مطبوعات، باستثناء نسخة من القرآن. ولم يعكر صفو روتينه هذا إلا جلسات استجواب عشوائية كانت تدوم أياماً.

في مطلع عام 2002، سعت عائلة العجمي و11 عائلة أخرى الى استخدام مكتب محاماة أميركي بارز كي يساعدهم في معرفة مصير أقربائهم الذين فُقدوا في أفغانستان. آنذاك، كانت عائلاتهم تجهل أنهم محتجزون في غوانتانامو، لأن الجيش الأميركي اعتبر أسماء المعتقلين معلومات سرية. لكن مكاتب عدة رفضت في البداية طلب هذه العائلات الكويتية. فقد قيل لهم إن عواقب سياسية وخيمة قد تترتب على وقوفهم إلى جانب الإرهابيين المشتبه بهم في الأشهر التي تلت اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول). وبعد طول انتظار، اتصل مكتب خدمات خاص طلبت العائلات الكويتية مساعدته بويلنر، الذي كان يعمل آنذاك في مكتب شيرمان وستيرلنغ في واشنطن.

ويلنر متخصص في التجارة الدولية وليس خبيراً في قانون حقوق الإنسان. وقد اقتصر تعامله على الشركات، بخلاف كثيرين ممن رفضوا مساعدة العائلات الكويتية. مارس ويلنر مهنة المحاماة في واشنطن منذ أكثر من 30 سنة. ولم يكن واثقاً من أن أياً من المتهمين الكويتيين الإثني عشر بريء. لكنه لم يأبه لذلك، بل فكر في مبدأين قانونيين أساسيين: أولاً، يجب ألا تمنع الولايات المتحدة المحتجزين من الاتصال بعائلاتهم. وثانياً، يملك الإرهابيون المشتبه بهم أيضاً حق الدفاع عن أنفسهم. فأبلغ مكتب الخدمات بموافقته.

استاء بعض شركاء ويلنر في مكتب شيرمان من قراره تمثيل الكويتيين، حتى أن بعضهم أخبره برأيه صراحة. فردّ ويلنر على منتقديه بالقول إن مكتب شيرمان لن يستفيد من هذه القضايا، إذ سيتبرع بالأتعاب كافة، التي وصلت في النهاية إلى 1.5 مليون دولار، للأعمال الخيرية.

في غضون أسابيع قليلة، ركب ويلنر الطائرة متوجهاً إلى الكويت للتعرف إلى أقرباء المعتقلين. فقابل اثنين من إخوة العجمي ووالده، رجل مسن لحيته رمادية وأنفه مستدق وعيناه ثاقبتان. وما زال ويلنر يذكر كيف رجاه هذا الأب العمل على تحرير ابنه.

خلال رحلته، علم ويلنر بمكان وجود الرجال الإثني عشر. فقد أعلمت وزارة الخارجية الأميركية الحكومة الكويتية بأن ثمانية منهم محتجزون في غوانتانامو. وفي غضون أيام، أكدت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» أن الأربعة الآخرين محتجزون هناك أيضاً.

لكن عندما حاول ويلنر مقابلة موكّله، رفض الجيش. وتحججت إدارة بوش بأن المعتقلين في غوانتانامو لا يمكنهم توكيل محامٍ مدني. لذلك تقدم بدعوى، مشدداً على ضرورة أن يقوم قاض فدرالي بالنظر في اعتقال العجمي والكويتيين الأحد عشر الآخرين. عززت هذه الدعوى عريضةٌ عن شرعية اعتقال المتهم قُدمت في قضية الرسول ضد بوش. ووصلت دعوى ويلنر في النهاية إلى المحكمة العليا في يونيو (حزيران) عام 2003. فأعلنت هذه المحكمة أن لمعتقلي غوانتانامو الحق في الاعتراض على احتجازهم في المحاكم الفدرالية.

وعلى رغم أن جلسة النظر في شرعية اعتقال العجمي لم تبدأ إلا بعد أربع سنوات، بسبب تحديات قانونية أخرى قدمتها إدارة بوش ومحاولات الكونغرس تشريع تسوية معينة، كان للحكم في قضية الرسول تأثير كبير في قضيته. فقد سُمح للمحامين أمثال ويلنر بزيارة موكليهم.

في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 2004، بعد أشهر من التصارع مع وزارة الدفاع الأميركية بسبب القواعد والتدابير اللوجستية، وصل فريق شيرمان إلى غوانتانامو، علماً أن وزارة الدفاع أصرت في البداية على أن يُسمح لها بمراقبة أحاديث تدور بين المعتقلين ومحاميهم.

نُقل العجمي إلى كوخ صغير من المعدن أثناء الزيارة. وكُبلت رجلاه إلى حلقة مثبتة في الأرض. كذلك كُبلت إحدى يديه إلى حزام حول خصره. قابلته المحامية كريستين هاسكي. فأحضرت له علبة من البقلاوة من مخبز في ديترويت. أوضحت له أنها جزء من فريق محامين في واشنطن يتولى قضيته. كذلك أخبرته أن عائلته التقت بويلنر. حتى أنها عرضت له قرص DVD يحمل صوراً لأقاربه.

خشي ويلنر وهاسكي أن يعجزا عن كسب ثقة المعتقلين، فما من سبيل ليؤكدا لهم أنهما محامياهم وليسا فريقاً آخر من المحققين. تخبر هاسكي: «كان على فريقنا إقناعهم أننا هناك لنمثّلهم. لم نتح لهم فرصة التكلم كي لا نسمعهم يقولون: مَن أنتم؟ إرحلوا عنا».

لم تكن مخاوف ويلنر وهاسكي هذه من دون مبرر. يذكر ويلنر، وهو يهودي، أن أحد المعتقلين الكويتيين، فؤاد محمود الربيعة، أخبره في لقاءات لاحقة أن المحققين حذروه من محاميه بسبب إيمانه. فقد قال المحقق للربيعة: «كيف يمكنك الوثوق باليهود، لطالما خانوا المسلمين. ألا تظن أن محاميك اليهودي سيخونك؟».

تتذكر هاسكي أن العجمي كان خلال لقائهما الأول شاباً «مهذباً ومحافظاً». فقد شكرها على تمثيله وعلى الوقت الذي تمضيه بالعمل على قضيته. وقال لها: «على رغم سوء المعاملة الذي نتعرض له، نحن مسرورون لأننا هنا. فهذه مشيئة الله».

لكن بدت على العجمي علامات تنذر بسوء. فقد حذرها الرقيب الذي قادها إلى الكوخ من أن العجمي يعاني «مشاكل سلوكية». فبخلاف معظم المساجين، كان يرتدي سروالاً قصيراً برتقالياً. فلاحظت هاسكي وجود ندوب على ركبتيه. وظنت أن الحراس جروه على الأرض. لكن عندما سألته عنها، رفض مناقشة الموضوع قائلاً إن معتقليه «أساؤوا إلى الإسلام» وإنه واجه «مشكلة» مع الحراس. كذلك أخبرها أحد المعتقلين الكويتيين الآخرين أن الحراس أخذوا قرآن العجمي وغطاءه بسبب سوء سلوكه. إلا أنه لا يعرف ما الذنب الذي ارتكبه تحديداً.

لم تلحّ هاسكي على العجمي كي يخبرها بما كان يقوم به قبل اعتقاله، وهو لم يقدم لها إلا تصريحاً واحداً: «أنا هنا بصفتي مقاتلاً عدواً وسأغادر السجن كمقاتل عدو. أخبري عائلتي بذلك».

فتى أضلّ طريقه

بعد أسبوعين، التقى ويلنر العجمي. بدأت محادثتهما التي دامت ثلاث ساعات بوصف مطوّل لطريقة تعامل الحراس مع العجمي ورفاقه المعتقلين. ادعى العجمي أنهم يتعرضون للتعذيب، لكن خلال الحديث، أخبر محاميه أنه يواجه مشكلة.

وبحسب ما جاء في ملاحظات ويلنر، قال العجمي: «قصتي مختلقة برمتها. لم أحمل السلاح. لم أقاتل. لم أكن عضواً في حركة طالبان أو تنظيم القاعدة». وتابع موضحاً أنه أخبر المحققين الأميركيين في مركز الاعتقال في قندهار بأفغانستان، حيث كان مسجوناً قبل نقله إلى غوانتانامو، بأنه قاتل إلى جانب طالبان لأن الحراس «أبرحوه ضرباً». فطلب العجمي نصيحة ويلنر وسأله: «ماذا أفعل؟ هل أبدّل قصتي؟».

شجعه ويلنر على قول الحقيقة حتى لو عنى ذلك مناقضته اعترافاته السابقة. ظن ويلنر أن العجمي «أقل المعتقلين خطراً في غوانتانامو. فقد بدا فتى أضلّ طريقه».

على رغم أن ويلنر ظن أن قصة العجمي قد تكون صحيحة، عجز عن التأكد منها. فكل ما كان يعرفه عن هذا الشاب أنه ترك في مطلع عام 2001 حياة رخاء في الكويت واعتقل في ديسمبر من السنة عينها في منطقة بانو في إقليم الحدود الشمالية الغربية بباكستان على مقربة من الحدود الأفغانية.

ماذا حدث خلال هذه السنة؟ هل قدِم إلى باكستان، حسبما يدعي، لمتابعة دروسه والتطوّع للقيام بأعمال خيرية؟ أم أنه قصد أفغانستان، حسبما يقول الجيش الأميركي، للمحاربة إلى جانب طالبان؟ قد لا نتوصل مطلقاً إلى جواب حاسم، لكن حتى بعض أقرباء العجمي مقتنعون بأن رحيله من الكويت لم يكن لأهداف سلميّة فحسب.

للعجمي 11 أخاً وثماني أخوات. تعيش هذه العائلة في مبنى مؤلف من طبقتين في شارع فرعي هادئ في بلدة تابعة لشركة جنوب مدينة الكويت صُممت خصيصاً للمهندسين البريطانيين وعائلاتهم. ولولا المسجد والعبارات العربية على لافتات الشوارع لخلتها حياً من أحياء الطبقة الوسطى في غرب تكساس. فالشوارع عريضة تحدّها الأشجار، وأقيمت في إحدى نواحي البلدة حديقة حيوانات صغيرة ودار سينما ومركز اجتماعي. وتعلق في هوائها الرطب رائحة النفط الحادة.

عندما اجتاح العراق الكويت عام 1990، هربت عائلة العجمي، على غرار عائلات كويتية كثيرة، إلى المملكة العربية السعودية المجاورة. وعندما عادوا إلى الوطن بعد سنتين، ترك العجمي المدرسة. كان آنذاك في الرابعة عشرة، وبالكاد وصل إلى الصف الثامن.

عثر العجمي على عمل كحارس في مدرسة مهنية، لكنه لم يعمّر فيه طويلاً، مفضّلاً حياة الكسل والاستجمام. يتذكر أخوه الكبير أحمد: «كان فتى هادئاً، مسالماً، ومحباً للحياة».

لكن عندما بلغ العجمي التاسعة عشرة، قرر العثور على عمل. ولأنه يفتقر إلى التعليم الضروري للحصول على عمل محترف، التحق بالجيش الكويتي. فتعلّم استخدام بندقية M-16. وعُيّن في وحدة تُدعى حرس الأمير، كانت متمركزة في منطقة صبحان بالقرب من مطار الكويت الدولي.

صار العجمي يتردد على المسجد الرئيس في صبحان، بناء مهيب من طبقتين تحيط به باحة كبيرة وسلسلة من الأبنية الخارجية. وعلى رغم أن المسجد يتلقى المال من الحكومة وتشير لافتة إلى أن وزارة الشؤون والأوقاف الإسلامية موّلت إضافة قسم جديد إليه، يُدرك الكويتيون أنه مرتع للأصوليات الدينية. إذ تتمحور الخطب فيه حول ظلم المسلمين وتدعو إلى المشاركة في الجهاد.

جاء في خلاصة تحقيق من صفحتين أعدته الحكومة الأميركية أن العجمي طلب إذناً بالتغيُّب عن الجيش كي يسافر إلى باكستان في يناير (كانون الثاني) عام 2001. وكان دافعه إلى ذلك فتوى نُشرت على الإنترنت أصدرها شيخ سعودي وعُلّقت في مسجد صبحان ودعت إلى الجهاد ضد الروس في الشيشان. عندما وصل إلى باكستان، استحال عليه الانتقال من هناك إلى الشيشان. وبعد أسبوعين عاد إلى الكويت. بعد شهرين، وزّع أحد أصدقاء العجمي في الجيش الكويتي فتوى أخرى في مسجد صبحان دعت المسلمين إلى القتال ضد أحمد شاه مسعود، زعيم تحالف الشمال، الذي كان يحارب آنذاك حركة طالبان في أفغانستان.

في 26 مارس (آذار)، غادر العجمي الكويت متوجهاً إلى باكستان، لكن قُبيل مغادرته، اتصل بوالدته وقال لها، حسبما أوضح أخوه أحمد: «سأذهب للجهاد. اعتبريني شهيداً في سبيل الله». وعندما بدأت أمه تصرخ مؤنّبة، أقفل الخط.

بعد رحيله، يروي أحمد أنه قصد مسجد صبحان ليستعلم عن مكان أخيه. فقيل له: «علّمنا أخاك الصواب وأهديناه السراط المستقيم». وتتابع خلاصة التحقيق موضحة أن رجلاً يُدعى الملا رفعت اقترب من العجمي حين وصل إلى مطار إسلام أباد وسأله إن كان قدِم إلى باكستان للصلاة أو الجهاد فأكد له أن هدفه الجهاد. ثم ركبا كلاهما حافلة متوجهة إلى بيشاور. خلال الرحلة، أخبر رفعت العجمي أنه قاتل إلى جانب المجاهدين الأفغان ضد السوفيات في ثمانينات القرن العشرين.

من بيشاور استقل الرجلان سيارة إلى شمال وزيرستان، حيث سلّم رفعت العجمي إلى أربعة رجال من أفغانستان كانوا يرافقون مجموعة من باكستانيين يرغبون في الانضمام إلى طالبان. فسافروا بالسيارة إلى خوست ومنها إلى كابول حيث بدّلوا سياراتهم وتابعوا طريقهم شمالاً إلى باغرام، خطوط التماس بين طالبان وتحالف الشمال. فأُعطي العجمي بندقية رشاشة وذخيرة وقنابل يدوية وأُوكلت إليه مهمة حماية أحد المواقع في وجه تحالف الشمال. أحرق أعضاء طالبان جواز سفره، وقالوا له إن سيُقتل إذا حاول الهروب، بحسب خلاصة التحقيق. وفي الأشهر التي أمضاها هناك، لم يُطلق العجمي سلاحه «سوى مرة عندما سمع ضجة في إحدى الليالي بالقرب من موقعه. لا يعرف ما إذا كان قتل أحداً. دار معظم القتال على الأطراف».

عندما تقدم تحالف الشمال باتجاه كابول في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2001، أُرسل العجمي شرقاً إلى جلال أباد، حيث صادر الأفغان سلاحه، بحسب الخلاصة. فسار باتجاه جبال تورا بورا مع مجموعة من رفاقه العرب، ثم إلى قرية شمال منطقة كانت تتعرض لنيران الجيش الأميركي. وبعد أسبوعين، عبر إلى باكستان حيث اعتقلته قوى الأمن. سارع الباكستانيون إلى تسليمه إلى الأميركيين. ولم يتضح ما إذا كانت الولايات المتحدة دفعت جائزة مقابل تسليمه، على رغم أن تصرفات مماثلة كانت شائعة آنذاك. ويذكر السطر ما قبل الأخير من خلاصة التحقيق أن العجمي «لم يلتقِ مطلقاً بأحد أعضاء تنظيم القاعدة».

بعد اطلاع ويلنر على قصة العجمي، ازداد اقتناعه بأنه ما كان يجب إرساله إلى غوانتانامو. يوضح المحامي: «كان مجرد فتى لم تتعدَّ رتبه جندي مشاة متواضعاً. بدا جلياً أنه ليس زعيماً أو مخططاً أو ما شابه. حتى أنني اعتبرته الأقل خطورة بين معتقلي غوانتانامو».

عدائي صلب

في زيارة ويلنر الثانية إلى غوانتانامو، لاحظ جبيرة على يد العجمي. فقبل أيام، عصا أوامر الحراس. أخبره العجمي أنه كان يصلي ولم يشأ أن يقاطعوه. لذلك عامله الجنود بقساوة في محاولة لقمع تمرّده. فاجتاحت زنزانته فوراً قوى التدخل السريع، فريق من جنود مزودين بأدوات مكافحة الشغب وفي أيديهم عصي، وثبتته أرضاً، حسبما أخبر ويلنر. فكُسرت يده خلال التشابك وأُرسل إلى الحبس الانفرادي.

حاول ويلنر إخبار العجمي عن جلسة استماع مجلس المراجعة الإدارية المقبلة، نظير لجنة إطلاق السراح المشروط في غوانتانامو. وأوضح له أن الجلسة ستتيح له فرصة قول الحقيقة عما كان يفعله قبل أسره. لكن المسألة لم تثر اهتمامه. أراد التحدث عن طريقة معاملته في غوانتانامو وعن قوى التدخل السريع وعن تفتيش الحراس لأوراقه الشخصية. حثّه ويلنر على التركيز على المسائل القانونية. وإذا أراد أن يواصل مكتب شيرمان تمثيله، فعليه أن يوقّع على نموذج يؤكد ذلك. أما إذا رفض التوقيع، فلن يتمكن من مقابلته ثانية.

حاول العجمي تغيير الموضوع مجدداً، فقاطعه مترجم ويلنر، شاب أميركي من أصول مصرية، قائلاً: «يحاول الرجل مساعدتك. لمَ لا تجيبه؟». فقطّب العجمي حاجبيه وكشّر عن أسنانه. ثم رمى كوباً من الشاي الساخن في وجه المترجم.

أنهى ويلنر المقابلة فوراً، لكنه سرعان ما سامح العجمي. فقد اعتقد أن عدائية هذا المعتقل ناجمة عن تدهور حالته النفسية بسبب احتجازه في غوانتانامو.

لا يعتقد ويلنر أن العجمي تعرّض لأقسى أساليب التحقيق، لكنه يظن أن حالته تفاقمت بسبب تراكم تأثير اعتقاله في مكان لم يعرف فيه السجناء موعد إطلاق سراحهم. كذلك لم يُسمح لعائلته بزيارته، وغالباً ما كانت الرسائل من الوطن تُنقّح بدقة. فضلاً عن ذلك، اعتُبرت البطانيات والكتب في السجن من الكماليات واعتاد الحراس مصادرتها عند الوقوع في أدنى خطأ.

يظن ويلنر أن سوء سلوك العجمي في البداية سرّع على الأرجح تدهور حالته بسبب العقاب الذي أُنزل به. فوُضع في سجن انفرادي بعد أن سلبوه ممتلكاته الشخصية المتواضعة، ما أشعل غضبه وزاد عناده وسوء سلوكه. لذلك، أبقاه الحراس فترات أطول في السجن الانفرادي. يذكر ويلنر: «استقبل سجن غوانتانامو فتى لم يكن سيئاً إلى هذا الحد وحوّله إلى رجل عدائي صلب».

على رغم تأكيد العجمي أنه بريء وإشارة خلاصة التحقيق إلى أنه لم يلتقِ أي مقاتل ينتمي إلى القاعدة، بدا الجيش مقتنعاً بأنه إرهابي.

بعد مرور شهر على حادثة الشاي، مثل العجمي أمام مجلس المراجعة الإدارية. تمتع المسؤولون العسكريون الثلاثة في المجلس (حذفت أسماؤهم من النسخ التي نُشرت للعموم) بصلاحية تحديد ما إذا كان يجب إطلاق سراح العجمي أو إبقاؤه محتجزاً في غوانتانامو. وأدى دور المدعي العام مسؤول آخر، لم يُذكر اسمه أيضاً وحمل لقب «مسؤول عسكري مساعد».

المسؤول العسكري المساعد: في أغسطس ( آب) عام 2004، حرص العجمي على أن تعرف هيئة المحكمة، عندما تُعرض قضيته أمامها، أنه بات اليوم مجاهداً، مقاتلاً عدواً، وأنه سيقتل قدر ما يستطيع من الأميركيين.

المعتقل: من المستحيل أن أقول كلاماً كهذا. كيف أقاتل الأميركيين؟ عملت إلى جانبهم في الجيش في الكويت. كان بإمكاني محاربتهم هناك، لا هنا...

المسؤول العسكري المساعد: عند وصوله إلى سجن غوانتانامو، تسبب العجمي بمشاكل كثيرة. فكان سلوكه عدائياً ومتمرداً عموماً وأمضى فترات طويلة في سجن انفرادي خلال فترة اعتقاله.

المعتقل: نعم، إلا أنني لم أؤذِ أحداً. نعم، وضعت في جناح آخر لأنني أردت إيصال صوتي إلى الناس. لم أكن أملك محامياً يدافع عني. لم يدافع عني أحد...

المسؤول العسكري المساعد: استناداً إلى مراجعة توصيات الوكالات الأميركية ومستندات سرية وغير سرية، ما زال العجمي يُعتبر خطراً يهدد الولايات المتحدة وحلفاءها.

المعتقل: أنتم الحاكم والحكم. تملكون السلطة المطلقة. تستطيعون فعل ما يحلو لكم. لم أقصد يوماً أذية أحد. لم أهاجم أحداً. ولا أشعر بأي ضغينة تجاه الأميركيين...

رفض المجلس إطلاق سراحه.

سقوط في الهاوية

عندما اجتمع ويلنر بالعجمي بعد الجلسة، نحو منتصف فبراير (شباط) 2005، لم يكن لقاؤهما ودياً. أحضر ويلنر معه شريط فيديو عن عائلة العجمي. وراح الأخير يعبّر عن مشاكله بلطف بالغ: سلبه الحراس غطاءه لأنه تحدث إلى معتقلين آخرين، يراقبونه عندما يدخل إلى الحمام، أخذوا ممتلكاته كافة من زنزانته وأرغموه على خلع ملابسه باستثناء الداخلية منها. قال لويلنر: «يقع اللوم على المعتقل دوماً». فأجابه أنه سيقدم شكوى في محكمة فدرالية في واشنطن. وطلب من العجمي كتابة بيان بالمشاكل.

جاء في البيان: يرفع الحراس أحياناً الحرارة، فنعجز عن ارتداء قميص حتى. ويخفضونها أحياناً أخرى فنشعر أننا في القطب الجنوبي ويسلبوننا بطانياتنا. تعرضت في البداية لضرب مبرح على يد جنود وحراس أميركيين... لكن التعذيب الأشد إيلاماً في نظري هو سخرية الحراس من ديني وتدنيسهم القرآن.

في المرة التالية التي التقى فيها ويلنر العجمي، أسدى إليه نصيحة أبوية: «عبد الله، لا تدعهم يتحكمون فيك ويثيرون سخطك. سيطر على أعصابك. وفكّر في أن أزمتك هذه هي على الأرجح درس في الحياة، درس تختبر من خلاله قدرتك على التفاعل مع القسوة والظلم». فشكر العجمي ويلنر قائلاً: «هذا كلام حكيم جداً. سأحاول اتباع نصيحتك».

بحلول موعد لقائهما التالي، في مايو (أيار) عام 2005، وقع العجمي في مشاكل مجدداً. فقبل أسابيع قليلة، أمسك بمذياع أحد الحراس. كان المذياع متصلاً بنظام الصوت في مختلف أرجاء السجن. وأعلن العجمي: «أنا الجنرال العجمي وأسيطر على السجن الآن. سيُطلق سراح الجميع». آنذاك وُضع العجمي في سجن انفرادي وفَقَدَ كتبه وقلمه وأوراقه وغطاءه. كذلك أخبر محاميه أنهم يرغمونه على تناول دواء مهدئ. وإذا رفض ابتلاعه، يُعاقب. وقال لأحد أعضاء فريق شيرمان: «أشعر بأنني أسقط في الهاوية». بعد شهر، عاد العجمي إلى تمرده وعدائيته واستمر على هذه الحالة طوال عدد من لقاءات متتالية. وبدل أن يُسمح له بالجلوس إلى الطاولة قبالة ويلنر، وُضع وراء حاجز من زجاج البلاكسي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2005، قدِم ويلنر حاملاً أخباراً سارة. قال للعجمي: «سيُطلقون سراحك». فرد عليه بالشتائم واللعنات.

تفاجأ ويلنر بقرار إطلاق سراح العجمي، الذي يتناقض مع قضايا كويتيين آخرين واجهوا مشاكل في غوانتانامو. علِمَ ويلنر أن حكومتي الولايات المتحدة والكويت اتفقتا على شروط تسليم المساجين، بعد أن قبل الكويتيون بمعاملة المعتقلين بطريقة إنسانية، ومراقبتهم إذا أطلق سراحهم، ومشاركة الولايات المتحدة في أي معلومات عنهم. لكن الجيش الأميركي لم يوضح مطلقاً سبب إطلاقه سراح العجمي وأربعة كويتيين آخرين وإبقاء ستة آخرين محتجزين. (أُطلق سراح أحدهم في يناير عام 2005). فاعتقد ويلنر أن هذه العملية عشوائية.

قبيل أسبوع من نقل العجمي إلى موطنه، جلس ويلنر أمام شاشة الكمبيوتر وكتب رسالة إلكترونية إلى رجل كويتي خدم وسيطاً بين الحكومة هناك وعائلات المعتقلين. وأرفقها بنسخة من رسالتين تلقاهما من العجمي، رسالة «إلى المحامي توم المحترم» ورسالة «إلى توماس الشرير المنحط». وكتب ويلنر: «تظهر هاتان الرسالتان أنه بحاحة ماسة إلى مساعدة».

في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2005 سُلّم العجمي إلى وكلاء الأمن الكويتيين لينطلق في رحلة من كوبا إلى الوطن تدوم 14 ساعة.

back to top