أميركا والقوى الدولية الصاعدة
يبدو أن نصائح الاستراتيجيين الأميركيين لصناع القرار في بلادهم بتكوين منتدى دولي جديد، يلحظ التغيرات في بنية النظام الدولي الراهن، ويضم أميركا ومنافسيها المحتملين، ستخلق نوعاً جديداً من العلاقات الدولية، وستنهض الأخيرة على أساس اعتراف أميركا بأنها لم تعد قطباً وحيداً.خرج الرئيس السابق جورج دبليو بوش من البيت الأبيض، وبفضل سياساته وإخفاقاته فقد خرجت مفردات من قاموس الاستعمال في السياسة الدولية لتدخل متاحف التاريخ مثل مصطلح «القوة الجامحة» Hyperpower، أو صارت مصطلحات أخرى ذات مدلول نسبي مثل «الإمبراطورية الأميركية» American Empire، كل ذلك بالتوازي مع الصعود المضطرد لقوى إقليمية-دولية إلى بؤرة المشهد الدولي مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل في وقت تعزز فيه الكتلة الأوروبية من مواقعها السياسية والاقتصادية في العالم.في هذا السياق، وفي إطار جولتي البحثية الأميركية، كان الاضطلاع على نمط تفكير مراكز الأبحاث الأميركية لهذا الخصوص تجربة ذهنية ممتعة وراقية، وتركز اهتمامي على كيفية تقييم هذه المراكز لعملية الانتقال الجارية في مراكز الثقل في النظام الدولي، بغرض الوصول إلى نتائج قريبة من السياسة التي ستتبعها واشنطن في الفترة القادمة لمواجهة هذا التحدي، ولأن مراكز الأبحاث الأميركية لا تتبنى كلها رأياً واحداً، كان طبيعياً أن تختلف نظرتها وتقييمها لطبيعة النظام الدولي الراهن، وسأحاول هنا تصنيفها إلى أربع مجموعات متباينة. يذهب البروفيسور روبرت ليبر من جامعة جورج تاون كممثل للمجموعة الأولى إلى أن التكهنات الخاصة بقرب تنحي أميركا عن زعامة النظام الدولي لا تستند سوى إلى الورطة الأميركية في العراق، وليس إلى معايير أخرى، ويعتقد ليبر أن الاتحاد الأوروبي، ككتلة سياسية وبشرية موحدة، مازال بعيداً كثيراً عن منافسة أميركا، ناهيك عن امتلاك القدرة والرغبة في منافستها. أما روسيا فستبقى بسبب مشاكلها الداخلية الضخمة في أحسن الأحوال قوة إقليمية كبرى.وبسبب الارتباط المتنامي للهند واليابان مع الولايات المتحدة الأميركية، فلا يتوقع أن يشكل أيهما تهديداً جدياً لمكانة الولايات المتحدة، ويعتقد ليبر أن الصين هي البلد الوحيد الذي يشكل تهديداً محتملاً لمكانة واشنطن العالمية، إلا أنه لا يعتقد بإمكانية ذلك دون تغيير الإطار الجيوبوليتيكي المحيط بالصين، إذ إن الدول المجاورة للصين تحتفظ جلها بعلاقات ممتازة مع أميركا. يمثل البروفيسور الأميركي، من أصل هندي، فريد زكريا المجموعة الثانية من المفكرين الأميركيين، فهو يشارك ليبر أطروحاته الخاصة بأن أميركا ليست في وارد التنحي عن مكانتها الدولية لمصلحة قوى أخرى، إلا أنه يرى أن واشنطن تراجعت سياسياً كثيراً في عصر بوش، وبحيث لم تلحظ الصعود المضطرد لقوى دولية أخرى ولم تحسن حتى الآن طريقة تعاملها مع هذه الدول، ويعتقد زكريا أن الصعود الكبير لقوى آسيوية متعددة بمعدلات نمو مرتفعة ومثيرة للإعجاب لا يهدد مكانة الولايات المتحدة حالياً، ولكنه يمهد الأرضية لظهور عالم ما بعد أميركا أو ما يسميه post American world والذي ستتوزع فيه التأثيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية على عدة قوى ومراكز وليس على مركز واحد كما هي الحال الآن، ويعتقد زكريا أن تراجع الأداء السياسي الأميركي يعود إلى التأثير المتزايد لمجموعات الضغط ومراكز التأثير على عملية صنع القرار الأميركي. يعتقد باراج خانا من مركز New America foundation وممثل المجموعة الثالثة أن العالم سيشهد في القرن الحادي والعشرين ولادة نظام متعدد الأقطاب، وبغض النظر عن الطريقة التي ستتصرف بها واشنطن، وهذا العالم سيعرف ثلاثة أقطاب دولية هي أميركا، والصين والاتحاد الأوروبي. ويعلل خانا فرضيته بأن الكفاءة الاقتصادية والسياسية لمنافسي أميركا جعلتهم يشكلون عامل جذب كبيرا لجوارهم الجغرافي، وهو ما ينطبق على الصين أيضاً في شرق آسيا التي نجحت في ربط جوارها الجغرافي بها على شكل متزايد. تأسيساً على ذلك يجب على الولايات المتحدة أن تتعاون بشكل أعمق مع الصين والاتحاد الأوروبي وتشكل G-3 أو منظومة ثلاثية لمواجهة الأخطار العالمية، وهو ما سيمنع أيهما من أن يصبح القوة العظمى بمفرده، أما تمسك أميركا بوضعيتها الحالية فمرده إلى الفشل لأن الصراع بين هذه الأقطاب الثلاثة يقوم الآن على الصراع بين النماذج التي تقدمها الكتل الثلاث، أي منها الأكثر جاذبية ووهجاً في العالم، وهو ما يعني أن توازنات النظام الدولي تتزحزح باتجاه عالم متعدد الأقطاب. تنطلق المجموعة الرابعة وتمثلها الباحثة نينا هاتشيجيان، التابعة لمركز أبحاث Center for American Progress القريب من الحزب الديمقراطي، من أرضية مفادها أن القوى الدولية الصاعدة مثل البرازيل وروسيا والهند والصين ستتنافس مع اليابان والاتحاد الأوروبي في وقت قريب على موقع «المتحدي». والمثير هنا أن هاتشيجيان لا تنظر إلى اليابان والاتحاد الأوروبي باعتبارهما جزءاً من العالم الغربي، بل كمنافسين لأميركا، أي أن نمط التفكير الأميركي المنطلق من قيادة أميركا لتحالف دولي واسع، لم يعد سائداً الآن وهي نتيجة لها أهميتها الفائقة في تحليل أنماط التفكير الأميركي الاستراتيجي.وتنصح الباحثة الأميركية بلادها بألا تنزلق في صراع وتنافس جديد محكوم عليه بالفشل، لأن قدرات واشنطن لم تعد تساوي قدرات كل منافسيها مجتمعين مثلما كانت الحال غداة انتصارها النهائي على الشيوعية. ربما لا تستطيع واشنطن أن تساوي قدرات كل منافسيها إلا على الصعيد العسكري، حيث تنفق أميركا نفس المقدار الذي تنفقه دول العالم مجتمعة، ولكن على الصعيد الاقتصادي لم يعد الأمر كذلك، حيث تملك أميركا أكبر اقتصاد في العالم محسوباً بالناتج المحلي الإجمالي (3.14 تريليون دولار)، ولكنه يمثل نحو ربع الاقتصاد العالمي. تمتاز الولايات المتحدة الأميركية عن كل منافسيها بأنها البلد المتعدد الثقافات الذي يعيش بين ظهرانيه مواطنون ينتمون عرقياً إلى كل أعراق العالم، وهو أمر مستحيل الحدوث في اليابان أو الصين أو حتى في أوروبا، ويعتبر انتخاب أوباما ذو الأصول الإفريقية علامة قوة لأميركا ورمزاً لقوتها الناعمة التي تشتهر بها في العالم، كما تمتاز أميركا بتفوقها البحثي وبتفوق جامعاتها، ولكن كل ذلك لا يجعلها تستطيع مواجهة القوى الدولية الصاعدة مجتمعة، كما كانت الحال سابقاً.يبدو أن نصائح الاستراتيجيين الأميركيين لصناع القرار في بلادهم بتكوين منتدى دولي جديد، يلحظ التغيرات في بنية النظام الدولي الراهن، ويضم أميركا ومنافسيها المحتملين، ستخلق نوعاً جديداً من العلاقات الدولية، وستنهض الأخيرة على أساس اعتراف أميركا بأنها لم تعد قطباً وحيداً مفسحة المجال لقوى دولية صاعدة في صنع القرار الدولي، ولكن دون أن تستطيع هذه القوى أن تتحد في مواجهة أميركا أو تستطيع إحداها تحديها في الفترة الانتقالية القادمة. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية- القاهرة.