اختراع الآخر

نشر في 05-12-2008
آخر تحديث 05-12-2008 | 00:00
 محمد سليمان بحثاً عن مشترك ما يضيّق الهوة بين الذات والآخر يسعى البعض أحيانا للفرار من الوحشة والعزلة واللاوجود... فالوجود لا يتوهج ويتجسد إلا بوجود الآخر الشبيه أو النقيض الذي يوقظ روح التحدي والكد والتنافس. هذا المشترك قد يختزله البعض في المكان أو اللغة أو الدين أو التاريخ والتراث والثقافة وقد يوسعه البعض الآخر ليصبح حلما عاما بالرخاء أو التحديث والتقدم وتغيير ملامح الواقع.

وقد كان هذا المشترك ومازال محورا مهما من محاور الإبداع في كل المجالات يبحث عنه المبدعون ويخترعونه أحيانا والروائي الكولومبي الشهير جارثيا ماركيز وظف المشترك المكاني والثقافي والتاريخي في العديد من رواياته نذكر منها «مئة عام من العزلة» و«الحب في زمن االكوليرا» و«الجنرال في متاهاته» واخترع ذلك المشترك في بعض أعماله خاصة قصته الشهيرة «أجمل رجل غريق في العالم» التي يقدم لنا فيها بطله الغريق الجميل والمجهول الذي يُلقي به البحر على شاطئ إحدى قرى الصيادين، ليتحول رغم موته إلى كنز تزهو به القرية، ورمز يلتف حوله أهلها، ودافع لتغيير واقعها وانتشالها من هوة الجدب والقبح والنسيان. في بداية قصته يقدم لنا ماركيز بطله قائلا «كانت مجموعة من الأطفال هي أول من رأى ذلك النتوء الداكن اللون يتسلل خلسة عبر حياة البحر... في البداية ظنوه سفينة من سفن الأعداء ثم رأوا أنه لا يوجد به أعلام أو صوارٍ، فظنوه حوتاً وحين سحبوا ذلك الشيء إلى الشاطئ، ونزعوا ما علق به من أعشاب البحر وقناديله وبقايا السمك وحطام السفينة عندئذ فقط رأوا أنه رجل غريق». في فضاء السحر والغرابة يضعنا الكاتب منذ البداية، فحجم الغريق الهائل يجبر سكان القرية على مواجهة واقعهم بعد حمل الجثة إلى ساحة أقرب المنازل، واكتشافهم من ثم أن منازلهم متواضعة وضيقة للغاية، ولا تليق بهذا الغريق الكبير الذي لا يستطيع إذا عاد للحياة دخولها بسبب حجمه وطوله، كما أن أسرتهم الهشة ومقاعدهم الصغيرة لن تناسبه... يذهب بعض رجال القرية إلى القرى المجاورة للإبلاغ عن الغريق بينما تنشغل نساؤها بغسله وتنظيفه «نزعن عنه الطين والأحجار الصغيرة العالقة بشعره كما كشطن قشر السمك من على جسمه بأدوات تنظيف السمك، ولاحظن أن النباتات العالقة به جاءت من المحيطات البعيدة، وأنه أيضا يحمل موته بكبرياء... فلم تكن له تلك النظرة الموحشة كباقي الغرقى الذين يلفظهم البحر. في قرى الصيادين يعيش الناس على عطاء البحر ورحمته وتقلبه وغدره أحيانا لذلك كان غسل الغريق وتنظيفه غسلا في الوقت نفسه لروح سكان القرية من آثار الشظف والقسوة والمعاناة، وإبرازا للمشاعر الإنسانية المطمورة... حين انتهين من التنظيف وقفن مبهورات كان الغريق أطول من رأين من الرجال وأكثرهم رجولة ووسامة وأحسنهم بنيانا، وحين عاد الرجال قائلين إن البحر لم يبتلع أحدا من أبناء القرى المجاورة تفرح النساء، وتصيح إحدى الباكيات «إنه ملكنا» فيغضب الرجال ويرجعون البكاء والجلبة إلى نزق النساء وطيشهن، ولكن واحدة منهن تزيح المنديل عن وجه الرجل الميت بعد تنظيفه فينهض الرجال ويقفون مقطوعي الأنفاس. قرية تقع في غرام رجل غريق فتمنحه اسماً جميلاً وتحيطه بالزهور والتذكارات والهدايا، وتعد ملابس جديدة له من قماش الأشرعة كيلا يدفن في البحر عارياً كالآخرين العاديين، ويختارون له من بينهم أماً وأباً وعدداً من العمات والأعمام لكيلا يرحل كالمشردين يتيماً وبلا عائلة.

هكذا يصبح سكان القرية في النهاية أقارب يحبون أنفسهم وقريتهم ويكدون من أجل تغيير الواقع وتجميله لإسعاد شبح غريقهم الجميل عندما يقرر التجول في الليل وزيارة أهله وقريته.

بغياب الآخر الشبيه أو النقيض أو تغييبه تفقد الذات الكثير من مبررات وجودها وسموها وإبداعها، وتنشغل أحياناً بتدمير نفسها، لذلك سيظل البحث عن الآخر والانشغال به وتشكيل صوره أو اختراعه أحد أهم محاور الفكر والإبداع.

* كاتب وشاعر مصري

back to top