جمهور للبيع...!

نشر في 06-06-2008
آخر تحديث 06-06-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي

مقاولو الجمهور الذين يلعبون «على التقيل» هم الذين يبيعون جمهوراً وهمياً بالجملة، مثل بعض الصحف التي تدعي أنها تبيع مئات الآلاف من النسخ في مصر. أي أن صاحبها «واضع يده» على شريحة كبيرة من الثمانين مليون مصري، ويمكن أن يحرك هذه الشريحة العريضة لمصلحة أي دولة عربية تريد أن يكون لها تأثير على صانع القرار المصري.

كان خلفنا جمهور لا بأس بعدده، عندما شاركت في ندوة بمدينة الإنتاج الإعلامي في مصر. وكنت مندهشاً لحماس الشباب في المشاركة، خصوصا أن معظمهم قد قيل إنه قادم من جامعات في القاهرة، والمسافة بين وسط القاهرة ومدينة الإنتاج الإعلامي، لمن لا يعلم، تصل إلى ساعة ونصف الساعة في السيارة المحترمة. فلماذا يتحمل هؤلاء الشباب هذه المشقة؟ وكيف نفهم هذا الحماس للمشاركة التلفزيونية، مقارنة بتدني المشاركة في الانتخابات العامة، والذي وصل في الانتخابات الرئاسية إلى 23% فقط من نسبة المقيدين بالجداول. لذا قررت أن أسال بعضهم بعد نهاية الحلقة لفهم هذا التناقض: الحماس في المشاركة التلفزيونية، والعزوف عن المشاركة السياسية في آن معاً.

ولما اقتربت منهم بعد الحلقة، وجدتهم يتقاسمون ما عرفت فيما بعد ثمن حضورهم، إذ كان النفر منهم يتقاضى خمسين جنيهاً عن الحضور يوزعها عليهم مقاول الأنفار أو مقاول الجمهور. قال لي أحدهم ولم أتبين إن كان جاداً أم مازحاً، «النفر من غير سؤال بخمسين جنيه، والنفر بسؤال بمية»!

هذه هي القصة إذن... إعلانات المقاول لمن يريد جمهوراً، سواء أكانت قناة تلفزيونية أم مؤتمراً جماهيرياً أم حزباً سياسياً أم حفل استقبال لأحد الوزراء. يصنف المقاول الجمهور حسب نسبة الذكاء، فمن يلم بالموضوع أو بعضه ولديه الجرأة والفصاحة ليسأل سؤالاً يتقاضى مائة جنية عن الحلقة (ما يساوي حوالي ثمانية عشر دولاراً)، أما مَن يأتي لأكل السندوتشات وتناول المشروبات التي توزع مجاناً قبل الحدث، ثم يجلس صامتاً متابعاً الكاميرا إذا ما اقتربت منه متصنعاً الإصغاء في حالة تشبه الكرسي الجالس عليها، فهذا يتقاضى خمسين جنيها فقط (حوالي تسعة دولارات).

تتهافت الفضائيات العربية على هذا الجمهور الجاهز دائماً، وهناك مقاولون ممَن لا يستطيعون الالتزام بالطلبات كلها لزيادة الضغط عليهم، فالمعروض أقل بكثير من المطلوب في البرامج المختلفة. ويعتبر هذا «البيزنس» من أنجح أنواع «البيزنس» في مصر. وأضاءت لي تلك المشاهدات الأولية جانباً مظلماً لم أكن أعرفه في قضية مذيعة «التوك شو» المصرية هالة سرحان، وما أذاعته قناة «المحور» الفضائية المصرية والخاصة من اعترافات لثلاث فتيات باستئجارهن أثناء البرنامج كي يقمن بدور «فتيات ليل» في برنامج «هالة شو» على فضائية «روتانا»، فربما تكون الإعلامية سرحان ضحية لمقاول جمهور في ظل انتشار ظاهرة «جمهور للبيع».

مقاولو الجمهور ظاهرة لافتة للنظر في العالم العربي، ولعل أبسطهم هم موردو الجمهور الحقيقي الذين ذكرتهم سابقاً، والذين يأتون إليك فعلاً بالجثة حية وطرية إلى الاستوديو. أما مقاولو الجمهور الذين يلعبون «على التقيل» هم الذين يبيعون جمهوراً وهمياً بالجملة، مثل بعض الصحف التي تدعي أنها تبيع مئات الآلاف من النسخ في مصر. أي أن صاحبها «واضع يده» على شريحة كبيرة من الثمانين مليون مصري، ويمكن أن يحرك هذه الشريحة العريضة لمصلحة أي دولة عربية تريد أن يكون لها تأثير على صانع القرار المصري. هناك مقاولون متخصصون في بيع الجمهور لليبيا أو لإيران و«حزب الله» أو للدول العربية الغنية التي تدفع بالدولار لرئيس التحرير أو مالك الصحيفة، وكذلك لأي منتج تلفزيوني أو مدير مكتب قناة بالقاهرة لديه الجمهور الجاهز الذي يستطيع إظهاره في تقارير فضائيته لإحراج المصريين حكومة وشعباً... وما فتيات الليل سوى مثال واضح.

المهم أن «بيزنس» الجمهور بدأ يتزايد في ظل موجة الغلاء المسيطرة على الشعوب الفقيرة في العالم العربي، ولكن أصحاب الفضائيات والصحف يفضلون الجمهور المصري لأن لهجته واضحة ويمكن فهمها على طول العالم العربي وعرضه.

«بيزنس» الجمهور مربح جداً في الإعلام. وعلى سبيل المثال، فعالم الصحافة يعرف جيداً مَن أصبحوا أثرياء لأنهم أوهموا صدام حسين بأن لديهم جمهوراً جاهزاً من المصريين يمكن تليينه حسب الطلب. ولم أتطرق إلى مقاولي جمهور الفنانين، فهناك مقاولو أنفار لحفلات الفنانين الحية التي تجلب فتيات ممن يدعين الإصابة بالإغماء عند ظهور النجم الشاب الجذاب على المسرح. وبالطبع فإن تسعيرة البنات «اللي بيغمى عليها» غير البنات «اللي بتهز وبس»، وغير الست المحجبة «اللي بتسقف»، هكذا قال لي خبير الجمهور. وأما جمهور الدعاة الجدد من أهل الاحتيال باسم الدين، فهذا عالم آخر، وقصة أخرى، بضم الألف.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top