الشاعر شوقي بزيع: استعضت عن كتابة قصيدة النثر بالنثر
يستعين الشاعر اللبناني شوقي بزيع بعالم أفلام الكرتون للمقارنة بين الشعر والنثر، ويقول: «في المطاردة الأولية بين توم وجيري ما يعطي للأول خاصيّة القوة وللثاني خاصيّة الرشاقة. وحيث ينتصر القط في المنازلة المباشرة بين الطرفين ويستخدم الفأر دائماً طريقته في حسن التخلّص ويعثر في النهاية على الجحر الصغير الذي يقف القطّ عاجزاً عن ولوجه. القط بالمعنى الرمزي هو الشعر والفأر هو النثر».
كتب دواوين كثيرة، من بينها: «عناوين سريعة لوطن مقتول، الرحيل إلى شمس يثرب، أغنيات حب على نهر الليطاني، وردة ندم، شهوات مبكّرة، فراديس الوحشة، سراب المثنى، لا شيء من كل هذا، صراخ الأشجار»... بالإضافة إلى كتابين نثريين، «أبواب خلفية» (2004) و{هجرة الكلمات» إصداره الأخير عن «دار الآداب» في بيروت... حول كتاباته، شعراً ونثراً، وأدب المناسبات وشعر البلاط و{القصيدة – الأغنية» كان الحوار التالي. «هجرة الكلمات» كتابك النثري الثاني، ويتضمن عناوين كثيرة، من بينها: «زمن بلا جدران، حوار الألوان والكلمات، الجسد الديني والجسد الإبداعي، العرب وفتنة الشعر، مقهى تصريف الأعمار، يا أبي لقد قتلتك! وأنا أيضاً»... ما الذي يجمع بين هذه النصوص كي تذهب كلها إلى كتاب واحد؟من حق القارئ البحث عن جدوى الكتاب ومبرر إصداره. والشاعر حين يصدر كتاباً نثرياً ينبغي أن تكون لديه مبررات قوية كي يترك الشعر طمعاً في فتنةٍ أكثر إغواءً.لست ناقداً أكاديمياً ولا باحثاً مشتغلاً في اللغة والألسنيات ولا روائياً، وإن كنت أطمح دائماً إلى كتابة الرواية، لكن في داخلي مقدار من هذه النزعات كافة وكل منها يستفزني إليه. وما يمنعني من أن أكون أياً منها هو الشعر، عمود مشروعي الكتابي الفقري. كان يمكن لكل واحد من هذه المواضيع أن يكون كتاباً مستقلاً، كان باستطاعتي أن أصدر كتاباً كاملاً في السياق، وآخر في أدب الرحلات، أو في نقد الشعر، لكن لأنني غير قادر على ذلك بحكم تفرّغي لكتابة الشعر الذي أنا مشدود إليه دائماً وأعطيه معظم وقتي، وجدتني أمام خيارين: الانصراف عن كتابة الشعر إلى حين لمعالجة أحد هذه المواضيع في كتاب كامل، أو إهمال هذه الكتابات. وكلا الخيارين سيكون جائراً بالنسبة إلي.هذه الكتابات في الواقع هي جزء يسير من كتاباتي النثرية، التي أخطها بدوافع مهنية، فأنا أكتب مقالات في بعض الصحف إلى جانب عملي في التدريس، أو كتأملات تفرض حضورها. وقد عدّلت في هذه الكتابات ولم أتركها في صيغتها الصحافية. تكتب قصيدة التفعيلة، والبعض اعتبر أنك بـ {هجرة الكلمات} تمهّد الطريق أمامك لكتابة قصيدة النثر، خصوصاً أن على الغلاف شهادة من شاعر يكتب قصيدة النثر وهو أنسي الحاج.أنسي الحاج شاعر كبير وأنا أعتز بصداقته، وهي ليست المرّة الأولى التي يبادر فيها إلى شهادة من هذا النوع، فقد كتب عن شعري شيئاً مماثلاً ومفعماً بالمودة والحب. والواقع أن ما يجمعنا هو إيمان عميق بالكتابة، وأيمان أعمق بالكتابة التي تصدر عن القلب وتحمل قدراً عالياً من الصدق الإنساني بعيداً عن الحذلقة اللغوية أو عن الشكلانية في الأسلوب. ونلتقي في عمق الأشياء وقرارتها، وليس على سطوحها، وهنا أهمية أن يتحاور شاعران من أسلوبين مختلفين.أما من اعتبر أن الكتاب هو نوع من التمهيد لكتابة قصيدة النثر فهو الشاعر الصديق اسكندر حبش، وأنا لا أوافقه على استنتاجه، ففي مقدمة الكتاب أشير إلى أنني لم أكتب قصيدة النثر، ليس بسبب رفضي لها كخيار أسلوبي، وهي قصيدة متحققة وقائمة ولها حضورها في خارطة الشعر العربي الحديث، لكن لأنني لا أحسن كتابتها فأنا مجبول منذ الولادة على الإيقاع وبمجرّد أن أكون أمام الورقة البيضاء أجد نفسي أمام نوع من النغم أو النسق الموسيقي الذي يشكّل تمهيداً أولياً لانبثاق الكلمات، أي أن الكلمات تحضر إليّ على شكل إيقاعات مدوزنة. أحياناً يأتي بحر القصيدة بشكل ضاغط فأختاره لكتابة القصيدة التي تعتمر في داخلي، وأحياناً أجده غير مناسب فأختار إيقاعاً آخر. أنا دائماً في حالة تلبّس في الأوزان وهذا الأمر لا يجب الاعتذار عنه لأنه جزء من موهبتي.هل استعضت عن كتابة قصيدة النثر بكتابة النثر نفسه؟نعم، لأن الشعر لا يطاول المسائل كلها التي أريد التصدي لها والتعبير عنها، وثمة تفاصيل وجزئيات لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال النثر. في الشعر قيود كثيرة ترهق النص أحياناً عن طريق اختيار الأوزان والقوافي، حتى ضمن قصيدة التفعيلة. وطبعاً بالإضافة إلى الأوزان والقوافي يحتاج الشعر إلى عملية اختزال للغة وإلى إعدام مفردات كثيرة لا تتناغم مع النسق الإيقاعي.وكيف تتمثّل حرية اللغة في النثر؟عندما أكتب نثراً أجد نفسي أكثر حرية، أمام احتفال لغوي هائل، أمام بحر كامل من المفردات أغرف منه ما أشاء من دون قيد أو شرط سوى قيد الجمال وانبثاق العبارة الداخلي. من هنا لا أعتقد أن ما أنا فيه الآن هو مرحلة وسيطة بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر، بل هو النثر الأدبي الذي ربما يكون مرحلة وسيطة باتجاه كتابة رواية أو سيرة شخصية كاملة.لماذا السيرة الشخصية؟ثمة من يعتقد أن كل من يجيد الكتابة والقراءة يمكن له أن يكون روائياً، على الأقل يستطيع كتابة سيرته الشخصية, لأن كل حياة هي مشروع رواية. كل منّا يملك ثروة من التجارب والخبرات والمشاعر والمفارقات وحالات الكراهية والحب الخوف والحنين، بما يكفي لأن يحوّلها إلى رواية أو سيرة شخصية. فكيف بالنسبة إلى شاعر يتعاطى مع اللغة وهو ضعيف تجاه الرواية؟.أشعر بأن ما يغذي حياتنا ويمنعها من التأسن والتخثّر ومن الموت هو أن نعيش في حيواتٍ أخرى موازية لحياتنا، أن نعيش خبرات الآخرين من دون تحمُّل أوزارها. لماذا أنت مفتون بالرواية؟أجمل ما في الرواية أنها تقدّم لنا وبالمجان خبرات البشرية الأخرى السابقة علينا, والتي تحمل قدراً كبيراً من المتعة والإثارة، والطريف أننا نتماهى مع الشخصيات في حالة استرخائها ونشوتها وانتصارها، لكن ما أن تواجه الشخصيات مصائر مأساوية كالموت والهزيمة، ننسحب إلى حياتنا مجدداً. لذلك أرى أن الرواية هي هبة هذا العصر. كلامك هذا قد لا يعجب بعض الشعراء.متأكد أنه لن يعجب كثراً منهم، لكنني لا أنعي الشعر أو أرثيه بكلامي هذا، فالشعر حاضر في كل شيء: الرواية، الموسيقى، المسرح، الجمال الإنساني والكوني. الشعر كفن أدبي مستقل يتعرّض لمنافسة كبرى، خصوصاً من الرواية والسينما.قرأت الشاعرة الأميركية الأفريقية الجذوز إليزابيث ألكسندر في احتفال تنصيب باراك أوباما قصيدة بعنوان «ليتمجّد هذا اليوم». خلت القصيدة من المديح والإطراء، حتى أنها لم تصف الرئيس نفسه، بل صوّرت التاريخ وصنّاعه من فلاحين ومزارعين وبنائين... كيف نكتب قصيدة «مناسباتية» بعيداً من شعر البلاط الذي يسيطر على عالمنا العربي؟ اعتدنا في العالم العربي على نوع من الشعراء الذين يتزلفون لأصحاب السلطة للوصول إلى منصب أو للحصول على الأموال ويجيرون قصائدهم في خدمة هذا الحاكم أو ذاك، وفي ذلك احتقار لدور الشعر. وسبق لي في التسعينات أن تطرقت إلى هذه المسألة عبر مقالة في إحدى الصحف اللبنانية بعنوان «مثقفو البلاط»، والتي أثارت آنذاك زوبعة من الردود المؤيدة أو المنددة من البعض الذي رأى أنني أقصده من دون قصد مني طبعاً.لدي حساسية سلبية عالية تجاه هذا الشعر، خصوصاً تجاه شعراء عرب انحرفوا في مواهبهم، على رغم أن بعضهم مميّز جداً. في هذا الإطار استوقفني قبل الشاعرة الأميركية الشاعر البريطاني تود هيوز أحد أكبر الشعراء الإنكليز والذي سمّته الملكة إليزابيث شاعراً للبلاط. وعندما كنت أقرأ قصائده كنت أدهش أمام ثراء هذه الشعرية وعمقها، وكيف أن تنصيبه كشاعر للبلاط جاء مكافأة لموهبته وليس تجييراً لشعره في خدمة الملكة أو غيرها. ففي البلدان الغربية يأتي هذا اللقب كنوع من امتياز يمنح لشاعر ما بوصفه شاعراً للأمة. كتبت أشعاراً كثيرة عن الأحداث المأساوية في الجنوب اللبناني، لكنك لم تكتب عن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.الشاعر ليس مراسلاً أدبياً، وليست وظيفته متابعة الأحداث بالتفصيل ونقلها إلى القارئ. لا أبرر بكلامي هذا عدم كتاباتي عن أحداث غزة شعرياً، بل أوضح أن الحروب كلها تتشابه، وجيلي نشأ في كنف الحروب المتواصلة، فكتبت عن الشهداء والناس الذين خسرتهم والبيوت التي تهدمت والمجازر، من مجزرة العزية في الجنوب اللبناني عام 1977 إلى مجزرة قانا عام 1996، وغيرها من الأحداث في لبنان وفلسطين، وبذلك أكون «برأت ذمتي» من المعاناة كلها التي عاشتها الأمة ولبنان وفلسطين.هل تتجنّب بذلك كتابة شعر المناسبات؟منذ فترة بعيدة أحاول تجنّب هذا النوع من الشعر، الذي يندرج تحت معادلة أهمية المناسبات وضغط الابتزار القومي أو الوطني. سقط هذا الشعر من حساب الإبداع ومعظم ما كتب عن الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية وعن الحروب العربية منذ حرب السويس وإلى حرب 1967 وحرب 1973، سقط من المعيار الإبداعي ولم يبقَ منه إلا قليل. إذا كان علينا الكتابة عن أي حدث ينبغي أن نأخذ مسافة منه كي نتخلّص من رد الفعل الأول ومن الانفعال الزائد ومن الإنشاء، ونتلقّف الحدث على المستوى الباطني والإنساني.ماذا عن أدب المقاومة؟في مكان ما نُظر إليّ كأحد شعراء المقاومة، ونُظر إلى تجربتنا بوصفها رديفاً للتجربة الفلسطينية، لكن أعتقد أن الشعر ينمو بعيداً عن التسميات والتصنيفات واللافتات. كل دخيل على الشعر لن يتاح له البقاء، فالموضوع لا يصنع الشاعر الكبير، والشعر العظيم أكبر من موضوعه، إنه كيفية مقاربتنا للموضوع. ولست أضيف جديداً بكلامي، فالجاحظ تحدّث عن هذه المسألة وقال إن المعاني مطروحة في الطريق وإن ما يحدّد الشعرية هو الشكل أو الأسلوب. أرى إلى موضوع أدب المقاومة من زاويتين: أولاً، انتماؤه إلى قضية الإنسان والحرية التي ما زلت مؤمناً بها وبأن الشعر ينبغي أن يكون إلى جانب الإنسان وقضاياه العادلة، لكن ينبغي أن يكون إلى جانب نفسه قبل كل شيء. وبذلك يحقق الشعر شعريته من داخله ومن داخل اللغة نفسها، وإلا يصبح شعارات فارغة لن تصمد في وجه الزمن. ثانياً، ثمة من يهتم بالمقاومة وحدها في شعر المقاومة، أي يهتم بالمضاف إليه وينسى المضاف الذي هو الشعر، وهذا أمر غير عادل، إذ كما أن المقاومة تقوم بواجبها اتجاه جمهورها أو قضيتها، على الشعر أن يقوم بواجبه اتجاه جمهوره وقضيته، أي أن يكون شعراً متميزاً كما هي المقاومة متميّزة في مجالها، وإلا تصبح المقاومة رافعة للشعر الرديء وتصبح عبارة عن مساحة لتعليق القصائد السيئة والهزيلة. وأدب المقاومة عليه أن يقاوم موته قبل أي شيء آخر، أي أن يقاوم الزمن، فكيف تكون القصيدة مقاومة إذا كانت لم تستطع أن تحيا أكثر من شهر، ورميت كما ترمى الصحون البلاستيكية التي تصلح لوجبة واحدة فقط.متى تكتب قصيدة وتقول إنه لا بد من أن تغنّى؟لم يحدث أن كتبت قصيدة بهدف أن تُغنى، لا بل أضحي بعناصر غنائية كثيرة في شعري على رغم إتقاني العروض لخدمة جوانب أخرى في القصيدة تتعلّق بالمعنى والفكرة والغوص الداخلي والتأمل. لو أردت التركيز على الجانب التطريبي في قصائدي، أعتقد أن كثيراً منها قد يُغنّى على رغم أن تجربتي الشعريّة تطوّرت، والتطوّر يحدّ من نبرة القصيدة الغنائية. وإذا كان الفنان مارسيل خليفة غنّى بعض نصوصي «أيمن» و{يا حادي العيس» و{جبل الباروك» و{شهوات مبكرة»، فهو فعل ذلك بدافع شخصي منه ومن دون التشاور معي. ثمة نصوص أخرى قابلة لأن تغنى، لكني لم أطلب من أحد ذلك لأن من يتصدى لهذه الأشعار لا بد من أن يكون قارئاً متميزاً للشعر كما هي الحال مع خليفة.طلبت مني ماجدة الرومي أن أكتب لها قصيدة كي تغنيها، لكني لم أحاول لأن الشعر ينبع عندي من مناطق اللاوعي ولا يمكنني افتعال التجربة، ولا يمكن أن ألجأ إلى النظم العادي. طبعاً أستطيع أن أنظم الشعر في أي وقت، لكني لا أقوم بذلك لأني أرى في ذلك مساومة حقيقية على تجربتي وتعريفي للشعر.سيُفتتح مسرح البيكادلي مجدداً في شارع الحمرا في بيروت، أخبرنا عن ذكرياتك معه؟عندما أفكر في مسرح البيكادلي أستعيد صورة الرحابنة وفيروز مباشرة. جزء من الحلم الكبير الذي عاشه جيلي وأجيال أخرى قبلي وبعدي، مثّله هذا المكان من خلال المسرحيات واستضافته فنانين عالميين. أذكر أني استمعت إلى ميكيس ثيودوراكيس مؤلف موسيقى زوربا العالمية في مسرح البيكادلي. إنه جزء من روح بيروت وروح لبنان بأسره. أعتقد أن معنى لبنان سيبقى ويجب أن يبقى مستعصياً على الزوال ربما بحكم الموقع والجغرافيا وربما بحكم التاريخ وربما بحكم الدور والتنوّع الإنساني.