صور المعرفة لباتريك هيلي... العودة الى فلسفة العلم
صدر أخيراً عن «المنظمة العربية للترجمة» كتاب «صور المعرفة: مقدمة لفلسفة العلم المعاصرة» للفيلسوف الأميركي باتريك هيلي، (ترجمة نور الدين شيخ عبيد).
يطرح الكتاب مسألة نظرية العلوم ويرسم أبعادها، منذ أصولها الإغريقية الى بداية تحوّلاتها المعاصرة، ويركّز على مصطلح «فلسفة العلم» نفسه، مع توضيح كيفية ارتباطه بنظرية المعرفة التي ولّدتها الديكارتية وبنتائجها المباشرة العقلانية والتجريبية.يعود الكتاب إلى كبار الفلاسفة: كانط وهيغل وبوبر وكون، وإلى مساهمات منسيّة لباشلار وكانغيلام وفوكو. ويشير هيلي إلى أن مصطلحات فلسفة العلم، أو الإبستيمولوجيا، التي نُظر إليها على أنها خطاب في العلم أو نظرية المعرفة، أصبحت متداولة في القرن التاسع عشر وأثّرت على كيفية قراءتنا لنصوص فلسفية من فترات سابقة. يلفت هيلي إلى أن العلاقة بين الفلسفة والعلم مسألة تاريخية معقدة، والتاريخ موضع تساؤل أيضاً باعتباره علماً، فاختصاصات كثيرة كانت تعتبر علماً، لكن لم ينظر أحد إليها على أنها فلسفة، ومنذ أيام أفلاطون فُرزت مجالات متعددة من المعرفة على نحو متباين، ونُظر إلى كل مجال على أساس أنه علم له موضوعه الخاص في البحث، مثل الحساب باعتباره علم الأعداد، والهندسة علم الأشكال الفراغية، والفلك دراسة حركة الكواكب والنجوم، والضوء باستخدام العدسات علم انكسار الضوء.يرى هيلي أن علماء سبعينات القرن التاسع عشـــــر (هيـــــــلمهولتـــــــز وجنسون وماخ وبيرسون وهيرتز وبولتزمان وبوانكاريه ودوهم وأوستولد) والفلاسفة (كوهين وكاسيرير وكورنو وميرسون) كتبوا نصوصاً نسميها «فلسفة العلم» تطرح أسئلة عن طبيعة القوانين العلمية وتشكّل النظريات وصحّة الفرضيات، وعن حدود العلم ومناهجه وشروطه وحتى إمكاناته، وتؤكد هذه النصوص التنوّع الكبير في أشكال العلم. يستنتج هيلي أن غرض المعرفة العلمية الطبيعية يتمثّل في بنية من العلاقات الرياضية المثالية التي لا تتحقق أبداً بصورة كاملة. ويتابع بأن كاسيرر أراد أن تكون المعرفة العلمية نظرية في المعرفة شاملة ولا تتبدل، مؤلفة من نظريات علمية طبيعية رياضية، ما يعني أن الهوية التي يتقدم نحوها التفكير عبارة عن أنساق من الترابط. وما يتطلبه الفكر ليس انحلال التعددية وقابلية التغيير، بل سيادتهما عبر استمرارية القوانين والأشكال الرياضية.النظامبحسب هيلي يطالب ديكارت بوجوب الاهتمام منهجياً بالأشياء الأسهل، فنحن نكتسب مهارة الولوج إلى صلب حقيقة الأشياء «كما لو أننا نلعب ألعاباً». ويضيف هيلي أن هذا ما يفهمه ديكارت من استخدام العقل الصافي. كذلك يحذف ديكارت قواعد الجدليين الذين يظنون بأنهم يحكمون العقل البشري بوصف أشكال للخطاب الكلامي. ويبعد الجدل والقياس المنطقي عند البحث عن حقيقة الأشياء، ويعتقد بأنه يجب نقلها من الفلسفة إلى الخطابة. يتناول هيلي المعرفة على أنها واقع لدى هيغل، فيجد أن الأخير يصف ولادة الفلسفة التجريبية الحسيّة بأنها تلك التي تتخلى عن البحث عن الحقيقة في الفكر نفسه، وتسعى الى التفتيش عنها في التجربة من خارج الحاضر وداخله. ويعزو هيغل صعود التجريبية إلى الحاجة لمضمون واقعي وموطئ قدم صلب، وهي حاجات فشلت ميتافيزيقيا الفهم المجردة في تحقيقها. يقول هيلي عن هيغل إنه حدد مبدأ المذهب التجريبي الحسي الرئيس كما يلي: «كل شيء صادق يجب أن يكون في العالم الواقعي ومعطى للحس، وثمة نتيجة يتضمنها وضع المذهب كما يصفه هيغل، تتمثل في الحرية، أي في التأكيد على الجانب الذاتي، أي على المرء أن يرى بنفسه ويشعر بأنه موجود في كل واقعة من وقائع المعرفة التي عليه قبولها».التمييزأما عن بوبر والتمييز فيعتبر هيلي أن لفهم بوبر يحتاج المرء إدراك كيف يتباين هذا الفيلسوف في رؤاه عن المسار التقليدي في العلم، فقد نظر عموماً إلى خاصية العلم منذ القرن السابع عشر بأنها تكمن في إجراء التجارب، التي تضبط مشاهداتها وتقاس بحرص، وتجري على الحدود الفاصلة بين معرفتنا وجهلنا. ونتائج هذه التجارب والمشاهدات تُنشر على نحو مستمر، ويراكم العاملون الميدانيون مع مرور الوقت بيانات موثوقة كثيرة. وهكذا تنبثق ملامح عامة، تقود إلى قوانين، تناسب الحقائق كلها وتفسر علاقاتها السببية. الموضوعيّةيفسر بوبر «الموضوعي» بأن المعرفة العلميّة يجب أن تكون قابلة للتبرير، ومستقلة عن مزاج أي كان، وأن «تبرير» ما هو موضوعي يكمن في اختباره وفهمه من الجميع. واستناداً إلى نقد العقل المحض يعدل بوبر هذه النظرة إلى مقولة أكثر دقة:» إذا كان شيء ما مقبولاً بالنسبة إلى كل ذي عقل، فهو إذاً يستند إلى أرضية موضوعية وكافية». كذلك يعترف بوبر بأن كانط قد يكون أول من أدرك أن موضوعية العلم ترتبط بشدة مع بناء النظريات، مع استخدام الفرضيات والمقولات الكلية. وعندما يتكرر بعض الأحداث فحسب يتطابق العلم مع القواعد أو القوانين، كما في حال التجارب القابلة للإعادة. ولا يمكننا أخذ مشاهداتنا على محمل الجد ما لم نكررها ونختبرها. وهذا وحده يضمن لنا أننا لا نتعامل مع مجرد صدفة معزولة، بل مع أحداث لها انتظامها وقابليتها للتكرار، وهي قابلة للاختبار من أشخاص كثيرين.يضيف هيلي أن بوبر يرى في كتابه «فقر التاريخية» أن «الداروينية» هي تطبيق لمنطق الحالات، ثم مخطط المسألة، ومحاولة الحل، واستبعاد الخطأ والمسألة الجديدة. ولا يفترض أن استبعاد الخطأ سيقود إلى حل نهائي متجانس، بل سيثير مسألة أخرى. يقول بوبر عن المعرفة الموضوعية: «من وحيد الخلية إلى أينشتاين، نمو المعرفة هو نفسه، فنحن نحاول حلّ مسائلنا، والوصول إلى شيء ما يقارب التطابق في محاولاتنا في الحلول وذلك عن طريق الاستبعاد».السلوكيدرس هيلي علاقة باشلار وكانغيلام ودولوز وفوكو في ما يسميه بـ«الصلة الفرنسية». ويفيد بأن فوكو حدد تقسيماً في الفلسفة الفرنسية المعاصرة بين فلسفة تجربة الذات والحساسية، وتلك الخاصة بالمعرفة العقلانية والتصوّر. في أول قسم وضع سارتر ومرلو- بونتي، وفي ثاني قسم وضع كافاييس وباشلار وكويريه وكانغيلام. ودرس فوكو هذا التقسيم حتى القرن التاسع عشر، آنذاك وضع هذا الفيلسوف مان دو بيران في جهة، وكونت في الجهة الأخرى. وقد نُظر إلى رأي فوكو على أنه انطباعي، وإلى أن وضع أسماء باشلار وكويريه وكانغيلام في صف واحد لا يساعد على توضيح من يتابع عملهم الفكري. علاوة على ذلك يتجاهل فوكو تماماً تقاطع البحث الفلسفي الذي قام به كل من كانغيلام ومرلوبونتي، خصوصاً في دراسة السلوكية والنظرية الارتكاسية في عمل مرلوبونتي في بنية السلوك. ويتابع هيلي أنه ربما من الأصح الظن بأن قراءة فوكو لنيتشه ذات مغزى أكبر منها لباشلار: «ما ورثه هؤلاء المفكرين كلهم عن كونت هو موقفهم المناهض لديكارت». ومن جهة ثانية، لا نستطيع فهم نظرية المعرفة إلا عبر فلسفة العلم.