تركيا: أوان الدبكة

نشر في 30-04-2009
آخر تحديث 30-04-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد عاد موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ليتصدر من جديد جدول أعمال الرئاسة الدورية للاتحاد، حيث عقد الجانبان محادثات في براغ عاصمة تشيخيا التي تتولى رئاسة الاتحاد للتباحث في شأن الانضمام التركي، وبالرغم من اللقطات التذكارية التي أظهرت وزير الخارجية التركي علي باباجان مبتسماً مع نظيره التشيكي كاريل شارزنبرغ، وبالرغم من التصريحات التي تتسم بالكثير من اللباقة، يبدو أن الهوة التي تفصل مواقف الطرفين مازالت عصية على التجسير بعد مرور ما يقارب من اثنين وعشرين عاماً على طلب الانضمام التركي الأول.

ستستمر تركيا مع ذلك في تقديم طلبات الانضمام، وهي على الأرجح ليست في وارد التفكير بردات فعل عاطفية على التعنت الأوروبي حيالها، إلا أن أنقرة سترسي– على الأرجح- أكثر فأكثر مراسيها على الشرق الأوسط والقوقاز، وليس بالضرورة على أوروبا والبلقان، إذ تسمح الجغرافيا التركية نظرياً لأنقره بلعب دور فاعل ومؤثر في الجهات الأربع. ويستند ذلك التقدير إلى حقيقة أن الدول العظمى فقط هي التي تستطيع أن تلعب أدواراً إقليمية في كل جوارها الجغرافي، وهو أمر من بديهيات العلاقات الدولية.

ولأن تركيا ليست دولة عظمى، فإن صناع القرار فيها سيرسون خياراتهم على المناطق التي يمكن لبلادهم أن تراكم فوائدها وتعزز حضورها فيها وتتحقق فيها سياسياً واستراتيجياً. وهكذا ومن حيث لا تحتسب الدول الأوروبية سيؤدي تعنتها التفاوضي مع تركيا، إلى استدارة أنقره نحو جوارها الشرق أوسطي كي يحتل موقعاً مركزياً في سلم أولوياتها، تحت المظلة الأميركية التي فردها باراك أوباما إلى أقصاها إبان زيارته الأخيرة إلى تركيا.

كانت تركيا قد تقدمت بطلب انضمام رسمي إلى الاتحاد عام 1987 وقت كان الاتحاد يعرف يومها باسم «السوق الأوروبية المشتركة»، ساعتها رفض طلب تركيا بسبب تردي حالة اقتصادها، كما بسبب الفيتو اليوناني والنزاع على قبرص. لم تتعب تركيا من وقتها حتى الآن، فتقدمت دوماً بطلبات انضمام جديدة وخاضت مفاوضات مستمرة وشاقة على صُعد متنوعة دون أن تكل، ولكن يبدو أن الدول المعارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد لم تدرك بعد التحول الكبير في قدرات تركيا السياسية والاستراتيجية ومازالت تتعامل معها بوصفها مرشحا مزمنا يطرق أبوابها للدخول، وهو ما يبدو خطأ فادحاً.

ربما تعتقد بعض دول الاتحاد الأوروبي أن تحالف أنقره الدولي مع واشنطن يسبق ما عداه من تحالفات، وبالتالي فلا فائدة كبيرة أوروبية- من منظور المعارضين للانضمام- في وجود تركيا المتحالفة استراتيجيا مع أميركا ضمن حظيرة الاتحاد. ولكن هذا السلوك الأوروبي سيعزز- للمفارقة- أكثر فأكثر التحالف الأميركي-التركي، بسبب عدم قدرة الدول الأوروبية في هذه الحالة على التأثير في خيارات أنقرة السياسية. والواقع أن أعضاء الاتحاد الأوروبي ليسوا موحدين حيال الطلب التركي، إذ تعتقد الدول الأوروبية المؤيدة لانضمام تركيا أن الأخيرة دولة إقليمية وازنة تملك اقتصادا قويا وجيشا كبيرا، وهو ما يعزز وضع الاتحاد الأوروبي كلاعب على الساحة الدولية. وتتضافر مع هذه العوامل إطلال تركيا الجغرافي على مناطق ذات أهمية استثنائية لأوروبا بسبب مواردها من النفط والغاز اللذين تحتاجهما أوروبا بشدة، ولا تقتصر الفوائد عند هذا الحد فقط، بل تتعداه لجهة التأمين الاستراتيجي لمنطقة شرق البحر المتوسط الذي تعتبره أوروبا حدودها الجنوبية، وليس انتهاء تأمين البحر الأسود ومحاصرة روسيا خلفه، وتتصدر إنكلترا والسويد قائمة الدول الأوروبية المؤيدة لانضمام تركيا على خلفية الفوائد التي سيجنيها الاتحاد من موقع تركيا الجيوبوليتيكي.

لا يدخل في حسابات معارضي الانضمام التركي عامل اختلاف الدين كعامل أساسي كما يعتقد الكثيرون في منطقتنا، ولكن السبب الأساس في الرفض يعود إلى أن تركيا ستحظى بكتلة تصويتية كبيرة وبعدد كبير من مقاعد الاتحاد الأوروبي في حال انضمامها. ومن شأن ذلك الأمر أن تحل تركيا ثانياً بعد ألمانيا وقبل فرنسا، بسبب أن توزيع المقاعد في برلمان الاتحاد الأوروبي يتم وفقاً لعدد السكان. ويتفاقم العامل السكاني أكثر فأكثر بمرور الوقت لأن تركيا ستصبح بفعل التزايد السكاني عام 2020 هي الدولة الأكثر سكاناً في أوروبا، وبالتالي ستملك تركيا العدد الأكبر من الأعضاء في البرلمان الأوروبي وتؤثر بالتالي على سياساته حسب حصتها الكبيرة تلك. وهناك حجج إضافية مثل تلك التي يتبناها الرئيس الفرنسي السابق ديستان ومفادها أن الاتحاد الأوروبي لو وافق على انضمام تركيا مع أن فقط 2.5% من أراضيها يقع في أوروبا، سيضطر للموافقة على طلب المغرب للانضمام أيضاً.

يبدو بديهياً الآن أن الدول الإقليمية الكبيرة مثل تركيا لن تنتظر كثيراً من دون رسم سياسات بديلة لتعليق الآمال على الاتحاد الأوروبي حصرياً، وبالتالي فإنها سترسي ثقلها أكثر فأكثر على الشرق الأوسط حيث ينتظرها دور استثنائي لتعديل توازناته وتلطيف تناقضاته، خصوصاً أن من يرسم سياسة تركيا الخارجية– أحمد داود أوغلو- يفسح للشرق الأوسط حيزاً مهماً في قلب هذه السياسة.

ربما يظهر المؤشر على السياسة التركية الجديدة قريباً، بل أقرب مما تتوقع بروكسل وغيرها. يقول مثل تركي آخر يتميز بكثير من الحصافة: «لا يستطيع المرء أن يرقص في عرسين بالوقت ذاته»، واتساقاً مع ذلك يبدو أن أوان «الدبكة» التركية قد حان في الشرق الأوسط.

 * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top