المطران اللبناني جورج خضر: لا خصومة أو تناقض بين الدّين والعولمة

نشر في 22-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 22-09-2008 | 00:00
No Image Caption
رجل دين، كاتب أديب، أستاذ جامعي، واعظ مفوّه، صاحب ثقافة متعددة مستنيرة. ناهل من عبق المشرق صفاء روح وانفتاح أفق. ملمٌّ بهتافات الشرق وجراحه التاريخية، من سمرقند حتى الأهرام، مروراً بمراقد الأولياء ومناسك البخور ومدينة الله.

واعٍ لطروحات فلسفة الغرب، في هموم الفرد والجماعة والما بعد. يؤمن بعمق بضرورة حوار الأديان وحضارات الشعوب وحتميته. مشرقيّ حتى الغور!

صاحب مؤلفات غزيرة في مسائل الحياة والإنسان والسماء والرجاء، راهنٌ زمانه لبهاء «الكلمة».

يؤمن بأن العولمة لا تصطدم بالإسلام ولا تُناقضه، وأن الصراع سياسي ـ اقتصادي وأن الولايات المتحدة اخترعت عدواً هو «الاسلام» لتبرير حروبها الاستعمارية أمام شعبها، وأن لا حضارة وُلدت من خارج الدِّين، والصحوة الدينية عرفتها كل الأديان بما فيها القوميات الأوروبية القديمة. حول العولمة والإسلام، كان الحوار التالي مع المطران جورج خضر.

تسيِّر ظاهرة العولمة إيقاع عالم اليوم في مناحي الحياة كافة، كيف تفهم هذه الظاهرة المعولمة وتقرأها؟

في التاريخ القديم، قامت أمبراطوريات كبرى وأهمها امبراطورية الاسكندر المقدوني، وبعدها أمبراطورية الرومان. سعت تلك الأمبراطوريات وسواها إلى أن يكون العالم واحداً، بحيث تسوسه إرادة واحدة ويتكلم لغةً واحدة. أذاع اليونانيون مثلاً، اللغة اليونانية في العالم المتمدن آنذاك حتى حدود الهند. كان لروما استعمار عسكري. تركت كل تلك الشعوب القديمة حريةً ما أو حكماً ذاتياً للشعوب المقهورة ضمن حدود. في الاستعمار الغربي، ظهر شعار «أنت متمدن إذا تكلمت اللغة الفرنسية» وهكذا. تعود تلك الظاهرة بقوة أعظم بسبب أحادية القطب (الولايات المتحدة) لأن ذلك يقوّي أميركا، وكان رؤساؤها دائماً يجاهرون في العقود التي عشناها، أنهم في الخليج أو في غيره يعملون لمصالحهم. في الأزمات التي نعيش، العولمة هي بالدرجة الأولى ظاهرة أميركية، قامت على أساس الفلسفة البروتستانتية القائلة إن الله يبارك الشعوب بالرزق وبالمال. يقول ماكس فيبر: «كانت الأمم البروتستانتية منذ قرون أكثر نمواً، اقتصادياً وحضارياً من الشعوب الكاثوليكية. لست أناقش الأطروحة ولكن آخذ منها أن العولمة ترتكز بالدرجة الأولى على الاقتصاد، وتوحيده وهيمنة الشعوب الصناعية على شعوب العالم الثالث وإخضاعها، بحيث لا يكون لها حيوية من ذاتها في أي نطاق، ولكي تبقى تابعة. ينتج من ذلك هيمنة اللغة الإنكليزية والتفكير الحضاري الغربي الأميركي خصوصاً، ربما على حساب اللغات القومية واللهجات.

يقول د. طارق متري في كتاب «الدين والعولمة التعددية: «إنه لجليّ أن ظاهرتي عودة الدين والعولمة قد تزامنتا»، ويطرح سؤالاً: هل هناك تأثير متبادل بين العولمة والصحوة الدينية؟ هل توافق؟

الصحوة الدينية في تصوُّري مرتبطة بصحوة الشعوب الضعيفة. أقصد الشعوب الأوروبية لا الأميركية، لأن أميركا دائماً في حال صحوة دينية، ولا يزال الشعب متديّنًا هناك.

لماذا أميركا في حال صحوة دينية دائمة؟

لأن الصحوة الدينية مرادفة للقوميات الأوروبية القديمة التي جاء منها الأميركان. مثلاً إذا كنتَ ألماني الأصل تتميز بانتمائك الى البروتستانتية، لتحافظ على ذاتيةً ما ضمن البوتقة الأميركية. الصحوة الدينية مرتبطة بردة فعلٍ على الحروب الرهيبة، التي جرت في القرن العشرين. الصحوة الدينية مثلاً عند المسيحيين ترافقها صحوة دينية عند المسلمين وعند الهندوس ومفكريهم، إضافة الى البوذيين الذين يمتنعون عن أكل لحم البقرة! هذا يزدوج عندهم بمعرفة رهيبة مثلاً بالرياضيات. في الصحوة الدينية هذا الأمر العجيب، أن الانسان مثل كل أبناء دينه يبقى على إيمانه وممارساته، وتأتي العلوم لتكمّل.

من الطبيعي مثلاً أنني كمسيحي أرثوذكسي أفرح بنهضة روسيا دينياً، بعد سبعة عقود من الإلحاد المفروض في المدرسة والجامعة. تتلاقى تلك الصحوات الإقليمية من هنا وهناك من دينٍ واحد لأنها ظاهرة عولمة أيضاً.

يعتبر بعض المفكرين الإسلاميين أن العولمة شكّلت في بعض مناحيها اعتداءً على الإسلام، خصوصًا ما أصاب المسلمين في أميركا بعد 11 (سبتمبر) أيلول وما تلاه من عدوان أميركي على دول إسلامية كالعراق وأفغانستان، باسم محاربة الإرهاب؟

لا تستطيع أن تعيش بلا خصم، فردياً أم جماعياً. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وضعف العقيدة الماركسية نفسها، مع أنها ستستيقظ، في اعتقادي، على مستوى الفكر، كان لا بد من أن يختلق الأميركيون خصماً شديداً! من غير خصومة لا يستطيعون التوسع والتجييش الإعلامي، فاخترعوا «الاسلام» عدواً لهم. هل أنهم على خصومة عقائدية بين الكتاب المقدس والقرآن الكريم؟ إنهم لا يفتشون عن ذلك. عندما يتكلمون عن الإسلام، يتحدثون عن الشعوب الإسلامية. إنهم في حاجةٍ إلى السيطرة في الخارج، ما يدعم مثلاً المرشحين لرئاسة الجمهورية. إن لم يكن عندك حلٌّ للقضايا الاقتصادية والتربوية في داخل البلد تُنمّي شهوة المواطنين ضد الخارج! إذًا، يجب أن تُقتحم البلدان الإسلامية بطريقةٍ ما عسكرياً أو غير عسكرية، لا سيما أن نمو تلك الشعوب المستضعفة أمر ممنوع! مسموح أن تستهلك ما تصدّره لك الشعوب القادرة القوية اقتصادياً أو فكرياً فحسب.

ألا تعتقد أن المسلمين على حقّ في ما يقولون؟

على حق طبعاً بأن أميركا تريد الهيمنة عليهم، وليس السيطرة العسكرية. انتشار أميركا عسكرياً موجود هنا وهناك. لكن إذا احتاجت الى عملية عسكرية تبادر الى التنفيذ! هذا لونٌ جديدٌ من الاستعمار له وسائل جديدة للبقاء في مناطق الشعوب المستضعفة.

يقول د. محمد الجوهري في كتابه «العولمة والثقافة الإسلامية»، صادر عن دار الأمين في القاهرة، «بضرورة تنقية الثقافة العربية الإسلامية من الشوائب التي أصابتها نتيجة الغزو الفكري كي لا تموت ثقافتنا العربية الإسلامية». هل توافقه الرأي؟

المسلم الذي يعاني داخلياً من تخلّف الشعوب العربية والإسلامية هو ملتزم دينياً، وبالتالي يرى بوناً بين الإسلام المحقَّق المعيش بما فيه من تقاليد والضغوطات الفكرية الموروثة أو المستوردة، يرى بوناً بين هذا الإسلام والإسلام العظيم الإلهي. عندما ذهب الإمام محمد عبده الى باريس، لاحظ أن الأوروبيين مسلمون بلا إسلام وأن المسلمين الأوروبيين عندهم فحوى الإسلام ومضمونه بلا اعتناق الإسلام وبأن العرب والمسلمين ليس عندهم هذا الإسلام الفاعل البهيّ الجميل الذي يحرك النفوس.

يعني أنه في باريس اكتشف أن إسلام أوروبا يختلف عن إسلام المشرق؟

إسلام أوروبا تعتنقه قلوب مطهَّرة كما يريدها الوحي، لكن المسلمين يعتنقونه فعلياً، يمارسونه ويصلّون ويتبعون الطقوس، لكن الإسلام الحقيقي لا يحييهم حضارياً!

هل يفضِّل الإسلام كما هو في أوروبا؟

غير المعبّر عنه بلفظة الإسلام. هو مسيحي لكنه أسماه إسلاماً! هل ثمة شوائب في التاريخ الإسلامي؟؟ على المسلمين أن يجيبوا عن هذا السؤال. هناك سؤال مطروح: لماذا انتهت الحضارة العربية الإسلامية باحتلال المغول لبلادنا؟ منذ منتصف القرن الثالث عشر سبعمئة سنة ليست كافية لنهوض الشعوب الإسلامية والتحاقهم بالحضارة الأوروبية. لا أحد يطلب منهم أن يصبحوا مسيحيين، لكن ما من شك في أن هناك تعابير حضارية ألهمها الإنجيل. لماذا فكروا بعد محمد عبده بأخذ التكنولوجيا والعلوم فحسب؟ إنهم في حاجة الى التعمّق في الحضارة الأوروبية ورؤية كيف ينهضون، وقد يتطلب ذلك منهم أن يشذبوا بعض المقولات المعروفة.

في توصيفه لنتائج العولمة يقول محمد الجوهري: «إنها سيطرة وسيادة نمط ثقافة وحضارة غربية مادية علمانية تنشر الإنحلال والفسق وتحاول أن تفرض نظاماً اجتماعياً معيناً».

يظن العرب أنهم دعاة الأخلاق الرفيعة وأن الفسق محصور بالغرب. هذا وهم للدفاع عن النفس فحسب. لا ينقصنا فسق في هذه البلاد بدءاً من السياسة ومن أبي النواس!

ذكرتُ أخطار العولمة وأنها تميل عن قصد، أو غير قصد، الى محو الثقافات المحلية والخصوصيات. لكن ذلك لا يعني أنك إذا سمعت أخبارا باللغة الإنكليزية، ستنسى اللغة العربية. ماذا يمنع أن نتكلم لغةً أو اثنتين أو أكثر، إضافة الى لغتنا العربية الأم!

يقول الدكتور الشيخ محمد مجتهد شبستري في كتاب «الدين والعولمة والتعددية» الصادر عن جامعة البلمند: «الثقافة الدينية هي غير الدين وهي تعبير إنساني عن الله وصفاته وهي تتوزع على اللاهوت والعقائد والأخلاق وأنماط السلوك وهي بالمحصلة أمورٌ متغيرة عبر العصور». ما هي حدود الفصل بين الدين والثقافة الدينية؟

أعرف الإمام الشبستري وبيني وبينه مودة وهو منفتح كثيراً لأنه تتلمذ على الألمان. هو إيراني مقيم في إيران ويسافر. من أصعب الأمور تحليل الدين. ندلّ على العقيدة بكلمة إيمان وليس بكلمة دين. يعني الدِّين في العربية غالباً الدَّين. أنت مدين لله بما أعطاك. أفهم أن البسطاء في كل قوم يمكن أن يكونوا أتقياء جداً ومحبين لله وطاهرين، من دون أن تكون لديهم ثقافة دينية واسعة. لو سألت عمتي (رحمها الله) عن مضمون الإيمان المسيحي عن المذهب الأورثوذكسي لما قالت شيئاً إطلاقا! يبقى أن أقول إن الدين مرتبط بالثقافة الدينية.

يعني أنك لا تفصل بين الدين والثقافة الدينية.

لا أفصل وإن كانت الثقافة الدينية متنوعة أكثر وهي أكثر تعبيراً وتفصيلاً. جوهرياً، أنت تحتاج أن تتكلم. لنأخذ المسيحية مثلاً، فقد سارت عشرات السنين على التواتر الشفهي من دون إنجيل!!!

بين من ومن؟

كان الرسل الإثنا عشر ينقلون ما يعلمون عن المسيح، وكانوا يسجلون بعض الأمور. نتصور، المفسرون يتصورون أنّ إنجيل متىّ كُتب في السنة الثمانين من القرن الأول، يعني بعد موت السيد المسيح بخمسين سنة، وأن إنجيل يوحنا دوّن بعد السنة الخمس وتسعين. عاش هؤلاء القوم دينياً بالمحبة وبالصلاة، لكن لا يمكن أن نقطع بشكل حاسم كما فعل صديقي الإمام الشبستري بين الدين والثقافة الدينية.

في معرض توصيفه للعولمة وآثارها في الدين، يقول الشبستري في المرجع ذاته: « العولمة بمعنى عالمية المفاهيم ومناهج البحث وعالمية السياسة والإقتصاد، لا بمعنى الأمركة طبعاً، لا تشكل في نظري أي تهديد للدين بل تعطيه حيوية للاستمرار، وبالتالي لا يمكن اعتبار العولمة خصماً للدين! اشكالية العولمة بالنسبة الى المؤمنين هي إشكالية ثقافية وليست دينية». هل في ذلك طرح مصالحة إسلامية (من وجهة نظر مفكر إسلامي)، مع ظاهرة العولمة بإعطائها صك براءة؟

طبعاً. هو يفكر هكذا وأنا معه في إنه ليس من خصومة أو تناقص في المبدأ بين الإيمان والعولمة. إلا أنها إذا كانت نقدية تواجه المسائل، أو تنمي العقل، فلا بد من أن تصطدم بالثقافة الدينية هنا وهناك في الأديان كافة، لأن الثقافة الدينية تعني طريقة تعبيرك عن الإيمان. ذلك مرتبط بالفلسفة القائمة في عصرك، لكن العولمة على الأقل تطرح تساؤلاً عن الدين المُعاش الذي يتّبعه الناس.

لا شك في أن العولمة عممت نمطاً أحادياً في السلوك الحياتي لدى المجتمعات كافةً، غربية كانت أم مشرقية. هل تلك العولمة تؤثر في جوهر إيمان الإنسان المسلم لكي يخشى منها بعض المفكرين الإسلاميين؟

لا أظن أن العولمة تواجه جوهرياً الإسلام أو تصطدم به. المسألة هي في أسلوب التفكير. لم نألف في الحقيقة نمط التفكير الأوروبي إلا في الجامعات. بقي إنساننا إلى حد كبير قبلياً! أي تابعاً للزعيم والإحساس الجماهيري! ما خلا ذلك لا بد من أن تحصل مساءلة أمام العولمة، وفي الأوساط الدينية. هذا ما يقودني إلى ترداد ما كنت أقوله دائماً، إنني أفهم فلسفياً أن الإنسان يؤمن بالله وبنهائية الكون والمسيرة البيولوجية. لا أفهم الإلحاد فلسفياً. كيف يستطيع الملحد أن يجزم بعدمية الإله؟ أنت تستطيع أن تبرهن أن الإله موجود. لا أحترم الملحدين من الناحية الفلسفية. أحترم اللاعذريين الذين يقولون نحن لا نعرف أو لا يهمنا الموضوع! لكن أن يقول إنني أقرر أن كل ورقة في غابة الأمازون بين ملايين الأشجار تختلف عن أي ورقة أخرى. لا تستطيع أن تجد ورقة مثل الثانية! هناك أمور عجيبة مذهلة في هذا الكون. كنت أتأمل منذ سنتين مثلاً كيف إذا أكلت اللحمة أو الخيار أو الطماطم بعد ساعة ونصف تتحول الى دمٍ في جسدي، أي أن الذي هندس جسمي هو الذي هندس المواد الطبيعية النباتية، التي هي مثل جسمي تماماً، وإذا أكلتها تنصهر فيَّ وتتحول إلى جزء من عينيّ ودماغي!

بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وما تلاها، قال كثيرون إن نظرية صمويل هنتنغتون حول صراع الحضارات، أخذت طريقها الى التطبيق في جانب من الصراعات وفي كثير من بؤر التوتر في العالم (فلسطين، العراق، أفغانستان)، هل تعتقد أن ثمة صراعات حضارية تسيّر الحروب؟

لا. قرأت هنتنغتون في اللغة الأصلية ولم يقنعني. لست أعلم لماذا لا يتعايش المسلمون والمسيحيون واليهود على اختلاف عقائدهم، في ما هو مشترك بينهم كناس يريدون هذه الحياة الدنيا، وأن يعيشوا بسلام في عائلاتهم، ويشتركوا في كل ما يمكن الاشتراك به من أعمال وصناعات وما الى ذلك!

الصدام بين الشعوب هو صدام سياسي، بمعنى أرادة التوسع والنفوذ والهيمنة والاستيلاء على الاقتصاد.

هل تُمايز بين الحضارات والأديان؟ هل الدين يفرز حضارةً أم أن الحضارة هي أحد مكونات الدين؟ أم أنهما وعاء إنساني واحد في مسار تطوّر وارتقاء البشرية؟

لا حضارة إطلاقاً في أي منطقة من العالم لم تنبثق من دين هذه المنطقة بطريقة أو بأخرى. يعني إذا اتخذنا من الإنكليزية، أو الفرنسية ما يترجم الدين بمعنى Culte، أي العبادات نلاحظ أن الثقافة عملوا منها Culture أي أنهم اشتقوها من الدين. انتربولوجياً أو وفق ما نسميه اليوم علم الإناسة، بعد جلسة نصف ساعة في لبنان، إذا كنت فاهماً العقائد تقول هذا سني وهذا شيعي وهذا أرثوذوكسي وهذا كاثوليكي. هناك مباينات فكرية طوائعية سلوكية بين الناس. ليس من حضارة من دون دين. الحضارة وحدها توصلنا الى الدمار والاقتتال! نحتاج الى قناعات روحية لنحافظ على الإنسان الآخر. يقول دوستويفسكي في إحدى قصصه: «إن لم يكن الله موجوداً هل أبقى أنا قبطاناً لهذه السفينة؟ لماذا لا يأتي البحارةُ الآخرون ويرمونني في البحر؟».

إذا أخذنا مثلاً الرومان. روما قبل المسيحية بَنَت حضارة عظيمة ولم يكن لها دين؟

روما القديمة عرفت أدياناً مختلفة، عبدوا الامبراطور مثلاً!

برأيك، هل يفزر الدين الحضارة؟

نعم، لأنه سلوك ويحفّز على الإنتاج والعطاء. الدِّين يعطيك انفتاحاً، وسبلاً للتعاطي مع الآخرين.

بعد انتصار الثورة الإيرانية طُرحت شعاراتٌ منها «الموت لأميركا» و{أميركا الشيطان الأكبر»، في مواجهة شرسة مع الغرب الأميركي ظاهرها سياسي وخلفياتها دينية. ما زال الصراع مفتوحاً، ويتمحور بالشكل حول حق إيران بالطاقة النووية. الى أي شرق نحن ذاهبون في حمأة هذا الصراع؟

أعتقد أن أهل الشرق مسلمين كانوا أم غير مسلمين سيجدون صيغة للتفاهم مع الأميركيين، بكل كرامة وبحفظ الهوية والثقافة القومية. تحتاج الى أسلحة ضخمة جداً وهائلة لتضرب أميركا، فيما تشتري السلاح من المعامل الأميركية! هذا وهم! لكنْ هناك فرق في أن تنصاع عبداً أو أن تتعامل بالندية مع أميركا وسواها. لكل الشعوب حق بالكرامة...

في هذا الجو المحتدم شرقاً وغرباً، كمقاومة أوروبا لدخول تركيا الى الاتحاد الأوروبي مثلاً. ألا ترون ضرورة لقيام حوار مسيحي - إسلامي - مشرقي يشكّل رداً عملياً على كل ما يحصل، وتحويل ما سمِّي بالصراع إلى تآخي الحضارات لخير البشرية؟ كيف ذلك؟

طبعاً. الحوار الإسلامي -المسيحي كما نعيشه في لبنان، ما خلا الأزمات والاقتتال، هو حوار الحياة. إنه العيش المشترك الواحد. سوف نصل الى ذلك النضوج الذي يقول إن البلد تقوده فلاسفة، إذا شئت استعمال أفلاطون في «الجمهورية». لنفرض أننا اكتشفنا نفطاً تحت البحر في لبنان وهذا مرجح، لكننا لم نعثر إلا على دكتور واحد في العلوم النفطية من طائفة السريان الكاثوليك التي لا تتجاوز 7 آلاف نسمة. هل نأتي بإنسان أمّي من طائفة كبرى نسلّمه ملف النفط؟ هذا أمر لا يقبله منطق، وغير معقول. يجب أن نصل الى حالة الحكم والتعايش على مستوى الخلق الكريم أولاً وعلى مستوى المعرفة.

هذا على المستوى المحلي الضيّق، أسأل عن الحوار بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ما الذي يعيق هذا التلاقي التاريخي؟

ينبغي أولاً أن نتفق على أمور عملية، ألا نتذابح وهذا غير مقرّر بعد، وعلى ضرورة المشاركة في كل بلد والاقتناع بواقعية الوجود. في العالم اليوم مليار وأربعمئة مليون مسلم سيتوالدون وسيبقون على إسلامهم. هناك مليارا مسيحي. لا أتصوّر أن 200 مليون ارثوذكسي في روسيا سيغيّرون عقيدتهم! وإن الطقوس والألحان وبهاء العبادات البيزنطية ستتغيّر. إنطلاقاً من هذا الواقع نحن كتلتان لا بد من أن تعيش الواحدة مع الأخرى الى الأبد. أؤمن بجدوى الحوار على كل المستويات مع إخواننا المسلمين في كل مكان، وهذا أمر ضروري وملحّ.

الحوار المسيحي- الإسلامي مشروع قديم - جديد وحاجة لحلّ خلاف ما. علامَ نختلف؟

نحن نختلف أساساً، إذا شئت، على رؤيتنا لله. عند المسيحيين هناك وحدانية الله. في الإسلام غير وارد أي بحث عن الوحدانية، السؤال الرئيس عندي هو: هل أن المسيحية كُشفت باللغة العربية التي هي لغة الإسلام. هل كُشفت بلغةٍ واضحة مفهومة؟ خذ مثلاً لفظة أقنوم، نقول الله واحد في ثلاثة أقانيم. تلك اللفظة سريانية غير عربية. كيف أستطيع أن يفهمني العربي المسلم في هذا المفهوم؟

وعلى المستوى المسيحي -الإسلامي؟

أتصور أن الموضوع الأساسي في الإسلام حيث الاختلاف هو موضوع صلب المسيح. ثمة أبحاث مختلفة منها بحث الدكتور محمود أيوب (اللبناني)، تُبين أن الآيتين المتعلقتين بالصلب لا تنفيان بالضرورة لغوياً، أي القتل المادي للمسيح ولكن تنفيان أن رسالته أُبيدت بموته. التقارب ممكن لأن الإسلام والمسيحية غير مقيّدين بالتفاسير القديمة التي وردت هنا وهناك. تفسير عصري ممكن من دون خيانة.

في مقدمة كتابه «نقد فلسفة الحق عند هيغل» يقول كارل ماركس في توصيف الدين: « الدين هو النظرية العامة لهذا العالم: خلاصته الموسوعية، أساس عزائه وتبريره الشامل. إنه التحقيق الخياليّ لكينونة الإنسان. إنه أفيون الشعوب!» كيف تفهم هذا التوصيف للدين؟

أعطي ماركس حقاً إذا لم يعمِّم حقاً بقوله إن الدين هو أفيون الشعوب، بمعنى أن الكثيرين من المؤمنين هنا وهناك كسالى لا يعملون ولا يسعون ويتكلون على الله فحسب! هناك نوع حقيقي من التخدير عبر الاتكالية المطلقة!

هل التخدير عند المسلمين أو عند الجميع؟

لا، عند كل الشعوب عملياً وتاريخياً (لست أحكي في الجوهر)، تُرك مؤمنون كثر في هذا التخدير. أن يقول ماركس إن الدين خيال! هو يقرر شيئاً من دون أن يثبته. يعني أنه خطر على باله أن يقول إنه خيال! هذا موقف اتخذه ماركس.

هناك بشر يعيشون بتبلور كيانهم ببهائهم العظيم ويأتون بأعمال لا ينتظرها أحد، بأعمال من المحبة والعطاء والتضحية، لا يمكن أن يقنعوني أن هذا خيال. صحيح أن الكنيسة في ألمانيا في زمانه كانت على شيء من الإنحدار. يستطيع أن ينتقد الكنيسة الألمانية، لكن لا يستطيع أن ينتقد جوهر المسيحية بصرف النظر عن طقوس هذه البيئة أو تلك.

ألمحت الى أن الشيوعية سقطت في الاتحاد السوفياتي وفي المجموعة الشرقية، لكنها ستنهض من جديد، كيف ولماذا؟

طبعاً يستحيل عليك أن تتجاهل أسئلة طرحها ماركس. مثلاً: استغلال العمال وأن السياسية تتولد من الحاجة الإقتصادية. هو يتجاهل مسألة الفن للفن (الفن والأدب والشعر). ثمة أمور غير الاقتصاد. لم تنجح الماركسية مع تأكيد ضرورة المشاركة في خيرات الأرض وعملية الإنتاج... هناك تعظيم هائل للإنسان في الماركسية مع كونها شبه ملحدة، وليست ملحدة كلياً، إنها ضد الكنيسة المنظمة في المانيا وأوروبا الغربية آنذاك (منتصف القرن التاسع عشر) لكن تلك التساؤلات ستبقى.

ستبقى بأي معنى؟ مجرد أسئلة معلَّقة؟

ممكن أن تؤثر في الحياة السياسية، كأن نشهد نوعاً من الأممية الثالثة. ملَّ الناس من الأحزاب وصاروا يريدون شيئاً عملياً في الحياة السياسية.

لمن يكتب المطران خضر مقالاً كل سبت في جريدة «النهار»؟

أكتب لأشفي نفسي، أكون معذباً لأكثر من سبب فيّ أو في الآخرين!

ابن رشد

ماذا يعني لكم التغريب كرجل دين مسيحي مشرقي؟

التغريب على مستوى كنسيّ شيء وعلى مستوى حضاري شيء آخر. حضارياً، سيادة العقل كما بشر بها ابن رشد ونقلها عنه توما الاكويني. إذا جلست مع إنسان أوروبي يناقشك موضوعياً من دون أن ينفعل، إذا كان على مقدار من الثقافة. نحن هنا شعوب انفعالية، يسيء الإنسان الظن في الآخر. الأوروبيون عندهم شهادة العقل وهي التي دفعتهم الى استنباط العلوم والى الفلسفة. في النطاق الفلسفي، لا نزال عند مشكلة التوفيق بين الحكمة الإلهية والحكمة البشرية. المواضيع أبعد من هذا بكثير، (استنباط العلوم والتنكولوجيا).

لكن العرب عرفوا العلوم وكان فيهم علماء في الطب والفلك والهندسة المعمارية... وبالتالي كانت لديهم عقول خلاقة.

طبعاً. أحكي في الوقت الحاضر. بعد فتح المغول لبلادنا، برز عندنا شعراء فحسب! لكن إذا أردنا تغريباً دون التخلي عن هويتنا، لا بد من أن ندخل في ما سماه الغربيون «عصر الأنوار». تريد أن تدخل في هذا الطريق تبقى أنت طبعاً مؤمناً بالله لا أن يكون إمامك العقل كما أراد أبو العلاء المعرّي...

ذكرتَ إبن رشد. ماذا قدّم الى العقل العربي والإسلامي؟

كان ابن رشد يونانياً بالمعنى الفكري وفي قناعته أنه من غير الممكن أن يحصل تصادم بين الوحي والعقل، لأن الله مصدر كليهما. ما نادى به إبن رشد هو ضرورة سيادة العقل، حتى في البحث الإلهي.

لو كان إبن رشد معاصراً، هل كان اصطدم بالفكر الأصولي السلفي الإسلامي؟

حتماً. أصلاً وفي العمق، أنتَ لستَ مفكراً إذا ردَّدت ما قاله أباؤك الأقدمون. أنت تواجه الواقع الطبيعي بكل مظاهره الفيزيائية والبيولوجية وتعالجه بحسب المعطيات الأخيرة التي ظهرت في المختبرات ومراكز البحوث، لا أن تردد ما قاله السلف الصالح الذي كانت أمامه معطيات أخرى. ولكل واقع خطاب.

back to top